الآيات 85-91
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴿85﴾ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ يمُ ﴿86﴾ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴿87﴾ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿88﴾ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ﴿89﴾ كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ ﴿90﴾ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ﴿91﴾
اللغة:
عضين جمع عضة وأصله عضوة فنقصت الواو ولذلك جمعت عضين بالنون كما قال عزة وعزون والأصل عزوة والتعضية التفريق مأخوذ من الأعضاء يقال عضيت الشيء أي فرقته وبعضته قال رؤبة:
وليس دين الله بالمعضي وقال آخر:
تلك ديار تأزم المأزما
وعضوات تقطع اللهازما وقيل أصل عضة عضهة فحذفت الهاء كما حذفت من شفة وشاة وأصلها شفهة وشاهة بدلالة أن الجمع شفاه وشياه بالهاء والتصغير شفيهة وشويهة.
المعنى:
﴿وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق﴾ معناه وما خلقناهما عبثا بل لما اقتضته الحكمة وهي أنا قد تعبدنا أهلها ثم نجازيهم بما عملوا ﴿وإن الساعة﴾ وهي يوم القيامة ﴿لآتية﴾ أي جائية بلا شك بعذابهم وقيل بمجازاة الخلائق كلهم وقيل هو تفسير قوله ﴿إلا بالحق﴾ ﴿فاصفح الصفح الجميل﴾ أي فأعرض يا محمد عن مجازاة المشركين وعن مجاوبتهم وأعف عنهم عفوا جميلا واختلف في الآية فقيل إنها منسوخة ب آية القتال عن ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك وقيل لا نسخ فيه بل هو فيما بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وبينهم لا فيما أمر به من جهة جهادهم.
أمره بالصفح عنهم في موضع الصفح لقوله ﴿فأعرض عنهم وعظهم﴾ عن الحسن قال القاضي والصفح ممدوح في سائر الحالات وهو كالحلم والتواضع وقد يلزمنا الصفح الجميل مع لزوم التشدد في أمر الجهاد وحكي عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) إن الصفح الجميل هو العفو من غير عتاب وقيل هو العفو بغير تعنيف وتوبيخ ﴿إن ربك هو الخلاق﴾ للأشياء ﴿العليم﴾ بتدبير خلقه فلا يخفى عليه ما يجري بينكم ويجوز أن يريد إن ربك هو الذي خلقكم وعلم ما هو الأصلح لكم وقد علم إن الصفح أصلح الآن إلى أن يؤمر بالسيف ثم ذكر سبحانه ما خص به نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) من النعم فقال ﴿ولقد آتيناك سبعا من المثاني﴾ وقد تقدم الكلام فيه وإن السبع المثاني هي فاتحة الكتاب وهو قول علي (عليه السلام) وابن عباس والحسن وأبي العالية وسعيد بن جبير وإبراهيم ومجاهد وقتادة وروي ذلك عن أبي عبد الله وأبي جعفر (عليه السلام) وقيل هي السبع الطوال وهي السور السبع من أول القرآن وإنما سميت مثاني لأنه يثني فيها الأخبار والعبر عن ابن عباس في رواية أخرى وابن مسعود وابن عمر والضحاك وقيل المثاني القرآن كله لقوله ﴿كتابا متشابها مثاني﴾ عن أبي مالك وطاووس وروي نحو ذلك عن عباس ومجاهد ومن قال هي فاتحة الكتاب اختلفوا في سبب تسميتها مثاني فقيل لأنها تثنى قراءتها في الصلاة عن الحسن وأبي عبد الله (عليه السلام) وقيل لأنها تثني بها مع ما يقرأ من القرآن عن الزجاج وقيل لأن فيها الثناء مرتين وهو الرحمن الرحيم وقيل لأنها مقسومة بين الله وعبده على ما روي في الخبر وقيل لأن نصفها ثناء ونصفها دعاء وقيل لأنها نزلت مرتين تعظيما وتشريفا لها وقيل لأن حروفها كلها مثناة نحو الرحمن الرحيم إياك وإياك والصراط وصراط وقيل لأنها تثني أهل الفسق عن الفسق ومن قال المراد بالمثاني القرآن كله فإن من في قوله ﴿من المثاني﴾ يكون للتبعيض ومن قال إنها الحمد كان من للتبيين وقال الراجز:
نشدتكم بمنزل القرآن
أم الكتاب السبع من مثاني ثنتين من آي من القرآن
والسبع سبع الطول الدواني
﴿والقرآن العظيم﴾ تقديره وآتيناك القرآن العظيم وصفه بالعظيم لأنه يتضمن جميع ما يحتاج إليه من أمور الدين بأوجز لفظ وأحسن نظم وأتم معنى ﴿لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم﴾ أي لا ترفعن عينيك من هؤلاء الكفار إلى ما متعناهم وأنعمنا عليهم به أمثالا في النعم من الأموال والأولاد وغير ذلك من زهرات الدنيا فإنها في معرض الزوال والفناء مع ما يتبعها من الحساب والجزاء وعلى هذا فيكون أزواجا منصوبا على الحال والمراد به الأشباه والأمثال وقيل إن معناه لا تنظرن إلى ما في أيديهم من النعم التي هي أشباه يشبه بعضها بعضا فإن ما أنعمنا عليك وعلى من اتبعك من أنواع النعم وهي النبوة والقرآن والإسلام والفتوح وغيرها أكثر وأوفر مما آتيناهم وقيل إن معناه ولا تنظرن ولا تعظمن في عينيك ولا تمدهما إلى ما متعنا به أصنافا من المشركين والأزواج الأصناف ويكون على هذا مفعولا به نهى الله رسوله عن الرغبة في الدنيا فحظر عليه أن يمد عينيه إليها وكان رسول الله لا ينظر إلى ما يستحسن من الدنيا ﴿ولا تحزن عليهم﴾ أي على كفار قريش إن لم يؤمنوا ونزل بهم العذاب عن الكلبي وقيل لا تحزن عليهم بما يصيرون إليه من عذاب النار بكفرهم عن الحسن وقيل لا تحزن لما أنعمت عليهم دونك عن الجبائي ﴿واخفض جناحك للمؤمنين﴾ أي ألن لهم جانبك وارفق بهم عن ابن عباس والعرب تقول فلان خافض الجناح إذا كان وقورا حليما وأصله أن الطائر إذا ضم فرخه إلى نفسه بسط جناحه ثم خفضه فالمعنى تواضع للمؤمنين لكي يتبعك الناس في دينك ﴿وقل إني أنا النذير المبين﴾ معناه وقل إني أنا المعلم بموضع المخافة ليتقى المبين لكم ما تحتاجون إليه وما أرسلت به إليكم ﴿كما أنزلنا على المقتسمين﴾ قيل فيه قولان (أحدهما) إن معناه أنزلنا القرآن عليك كما أنزلنا على المقتسمين وهم اليهود والنصارى ﴿الذين جعلوا القرآن عضين﴾ أي فرقوه وجعلوه أعضاء كأعضاء الجزور ف آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه عن قتادة قال آمنوا بما وافق دينهم وكفروا بما خالف دينهم وقيل سماهم مقتسمين لأنهم اقتسموا كتب الله تعالى ف آمنوا ببعضها وكفروا ببعضها عن ابن عباس (والآخر) إن معناه إني أنذركم عذابا كما أنزلنا على المقتسمين الذين اقتسموا طرق مكة يصدون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) والإيمان به قال مقاتل وكانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم يقولون لمن أتى مكة لا تغتروا بالخارج منا والمدعي النبوة فأنزل الله بهم عذابا فماتوا شر ميتة ثم وصفهم فقال ﴿الذين جعلوا القرآن عضين﴾ أي جزءوه أجزاء فقالوا سحر وقالوا أساطير الأولين وقالوا مفترى عن ابن عباس.
النظم:
وجه اتصال الآية الأولى بما قبلها هو أن الأمم لما خالفوا الحق أهلكوا لأن الله تعالى ما خلق السماوات والأرض إلا بالحق وإن الساعة آتية للجزاء وإن جميع ما خلق الله يرجع إلى عالم يدبره واتصل قوله ﴿ولقد آتيناك سبعا من المثاني﴾ بقوله ﴿فاصفح الصفح الجميل﴾ فإنه سبحانه لما أمره بالصفح عن أذاهم بين ما خصه الله به من النعم وما له من الحجة عليهم واتصل قوله ﴿كما أنزلنا﴾ على القول الأول بهذا أي كما أنزلنا عليهم أنزلنا إليك القرآن وعلى القول الثاني يتصل بقوله ﴿أنا النذير﴾.