الآيات 71-77
وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ﴿71﴾ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴿72﴾ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ﴿73﴾ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴿74﴾ أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ﴿75﴾ خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴿76﴾ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ﴿77﴾
القراءة:
قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة غير حفص وذريتنا والباقون ﴿ذرياتنا﴾ على الجمع وقرأ يلقون بفتح الياء والتخفيف أهل الكوفة غير حفص والباقون ﴿يلقون﴾ بضم الياء والتشديد وفي قراءة أهل البيت (عليهم السلام) واجعل لنا من المتقين إماما والقراءة المشهورة ﴿واجعلنا للمتقين إماما﴾ وفي قراءة ابن عباس وابن الزبير فقد كذب الكافرون.
الحجة:
قال أبو علي الذرية تكون واحدة وتكون جمعا فمن قرأ وذريتنا على الإفراد فإنه أراد به الجمع فاستغنى عن جمعه لما كان جمعا ومن جمع فكما يجمع هذه الأسماء التي تدل على الجمع نحو قوم وأقوام وجاء في الحديث صواحبات يوسف وحجة من قرأ ﴿ويلقون﴾ قوله ولقاهم نضرة وسرورا وحجة من خفف فسوف يلقون غيا ومن قرأ فقد كذب الكافرون ترك لفظ الحضور إلى الغيبة ألا ترى أن قبله ﴿قل ما يعبؤ بكم ربي لو لا دعاؤكم﴾.
اللغة:
القرة مصدر يقال قرت عينه قرة ويكون من القرور وهو برد العين عند السرور ويكون أيضا من استقرارها عند السرور وقوله إماما مصدر من أم فلان فلانا إماما كما قيل قام قياما وصام صياما ولذلك وحده هنا من جمع إماما فقال أئمة فلأنه قد كثر في معنى الصفة وقيل إنه إنما وحد لأنه جاء على الجواب كقول القائل من أميركم فيقول المجيب هؤلاء أميرنا قال الشاعر:
يا عاذلاتي لا تردن ملامتي
إن العواذل لسن لي بأمير
وقيل إنما وحد لأن المعنى واجعل كل واحد منا إماما فأجمل فالمعنى معنى التفصيل وقال الزجاج تأويل ﴿ما يعبؤ بكم﴾ أي وزن يكون لكم عنده كما يقال ما عبأت بفلان أي ما كان له عندي وزن ولا قدر وأصل العبء في اللغة الثقل وقيل أصله من تهيئة الشيء يقال عبئت الطيب أعبؤ عبا إذا هيأته قال الشاعر يصف أسدا:
كأن بنحره وبمنكبيه
عبيرا، بات تعبأه عروس
أي تهيئة وعبأت الجيش بالتشديد والتخفيف إذا هيأته وما أعبؤ به أي لا أهيء به أمرا.
المعنى:
ثم قال سبحانه ﴿ومن تاب﴾ أي أقلع عن معاصيه وندم عليها ﴿وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا﴾ أي يرجع إليه مرجعا عظيما جميلا وفرق علي بن عيسى بين التوبة إلى الله والتوبة من القبيح لقبحه بأن التوبة إلى الله تقتضي طلب ثوابه وليس كذلك التوبة من القبيح لقبحه فعلى هذا يكون المعنى من عزم على التوبة من المعاصي فإنه ينبغي أن يوجه توبته إلى الله بالقصد إلى طلب جزائه ورضائه عنه فإنه يرجع إلى الله فيكافيه وقيل معناه من تاب وعمل صالحا فقد انقطع إلى الله فاعرفوا ذلك له فإن من انقطع إلى خدمة بعض الملوك فقد أحرز شرفا فكيف المنقطع إلى الله سبحانه ثم عاد سبحانه إلى وصف عباده المخلصين فقال ﴿والذين لا يشهدون الزور﴾ أي لا يحضرون مجالس الباطل ويدخل فيه مجالس الغناء والفحش والخنا وقيل الزور الشرك عن الضحاك قال الزجاج الزور في اللغة الكذب ولا كذب فوق الشرك بالله وقيل الزور أعياد أهل الذمة كالسعانين وغيرها عن محمد بن سيرين وقيل هو الغناء عن مجاهد وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) وأبي عبد الله (عليه السلام) وقيل يعني شهادة الزور عن علي بن أبي طلحة فيكون المراد أنهم لا يشهدون شهادة الزور فحذف المضاف وكان عمر بن الخطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة ويسخم وجهه ويطوف به في السوق وأصل الزور تمويه الباطل بما يوهم أنه حق ﴿وإذا مروا باللغو مروا كراما﴾ واللغو المعاصي كلها أي مروا به مر الكرماء الذين لا يرضون باللغو لأنهم يجلون عن الدخول فيه والاختلاط بأهله عن الحسن والكلبي والتقدير إذا مروا بأهل اللغو وذوي اللغو مروا منزهين أنفسهم معرضين عنهم فلم يجاروهم فيه ولم يخوضوا معهم في ذلك فهذه صفة الكرام يقال تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عنه وقيل مرورهم كراما هو أن يمروا بمن يسبهم فيصفحون عنه وبمن يستعين بهم على حق فيعينونه وقيل هم الذين إذا أرادوا ذكر الفرج كنوا عنه عن أبي جعفر (عليه السلام) ومجاهد وأصل اللغو هو الفعل الذي لا فائدة فيه ولهذا يقال للكلمة التي لا تفيد لغو وليس المراد به القبيح فإن فعل الساهي والنائم لغو وليس بحسن ولا قبيح إلا ما يتعدى إلى الغير على الخلاف فيه ﴿والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا﴾ أي إذا وعظوا بالقرآن والأدلة التي نصبها الله لهم نظروا فيها وتفكروا في مقتضاها ولم يقعوا عليها صما كأنهم لم يسمعوها وعميانا كأنهم لهم يروها لكنهم سمعوها وأبصروها وانتفعوا بها وتدبروا لها قال الحسن كم من قارىء يقرؤها فخر عليها أصم وأعمى وقال الأخفش ﴿لم يخروا عليها﴾ أي لم يقيموا وقال ابن قتيبة لم يتغافلوا عنها كأنهم صم لم يسمعوها وعمي لم يروها ﴿والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين﴾ أي اجعل أزواجنا وذرياتنا قرة أعين بأن نراهم يطيعون الله عن الحسن وقيل معناه ارزقنا من أزواجنا أولادا ومن ذريتنا أعقابا قرة أعين أي أهل طاعة تقر بهم أعيننا في الدنيا بالصلاح وفي الآخرة بالجنة ﴿واجعلنا للمتقين إماما﴾ أي اجعلنا ممن يقتدي بنا المتقون طلبوا العز بالتقوى لا بالدنيا وقيل معناه اجعلنا نأتم بمن قبلنا حتى يأتم أي يقتدي بنا من بعدنا وعلى هذا فيجوز أن يكون اللام في اللفظ في المتقين وفي المعنى في نا والتقدير واجعل المتقين لنا إماما ومثله قول الشاعر:
كأننا رعن قف يرفع الآلا والتقدير يرفعه الآل
ثم أخبر سبحانه عن جميع هذه الأوصاف فقال ﴿أولئك يجزون الغرفة﴾ أي يثابون الدرجة الرفيعة في الجنة ﴿بما صبروا﴾ على أمر ربهم وطاعة نبيهم وعلى مشاق الدنيا وصعوبة التكليف وقيل هي غرف الزبرجد والدر والياقوت عن عطا والغرفة في الأصل بناء فوق بناء وقيل الغرفة اسم لأعلى منازل الجنة وأفضلها كما أنها في الدنيا أعلى المساكن ﴿ويلقون فيها تحية وسلاما﴾ أي تتلقاهم الملائكة فيها بالتحية وهي كل قول يسر به الإنسان وبالسلام بشارة لهم بعظيم الثواب وقيل التحية الملك العظيم والسلام جميع أنواع السلامة وقيل التحية البقاء الدائم وقال الكلبي يحيي بعضهم بعضا بالسلام ويرسل إليهم الرب بالسلام ﴿خالدين﴾ أي مقيمين ﴿فيها﴾ من غير موت ولا زوال ﴿حسنت﴾ الغرفة ﴿مستقرا ومقاما﴾ أي موضع قرار واستقامة ﴿قل﴾ يا محمد ﴿ما يعبؤ بكم ربي﴾ أي ما يصنع بكم ربي عن مجاهد وابن زيد وقيل ما يبالي بكم ربي عن أبي عمرو بن العلاء وما لا يعبأ به فوجوده وعدمه سواء ﴿لو لا دعاؤكم﴾ أي لو لا دعاؤه إياكم إلى الدين والإسلام عن ابن عباس فيكون المصدر مضافا إلى المفعول والمعنى قل للمشركين ما يفعل بكم ربي أي أي نفع له فيكم وأي ضرر يعود إليه من عدمكم وأي قدر لكم عند الله حتى يدعوكم إلى الإيمان لكن الواجب في الحكمة دعاؤكم إلى الدين وإرسال الرسول وقد فعل وقيل معناه لو لا عبادتكم له وإيمانكم به وتوحيدكم إياه عن الكلبي ومقاتل والزجاج فيكون الدعاء بمعنى العبادة وفي هذا دلالة على أن من لا يعبد الله ولا يطيعه فلا وزن له عند الله وقيل معناه ما يعبأ بعذابكم ربي لو لا دعاء بعضكم بعضا إلى الشرك والشر عن البلخي ودليله ما يفعل الله بعذابكم الآية وقيل معناه لو لا دعاؤكم له إذا مسكم ضر أو أصابكم سوء رغبة له وخضوعا له وروى العياشي بإسناده عن يزيد بن معاوية العجلي قال قلت لأبي جعفر (عليه السلام) كثرة القراءة أفضل أم كثرة الدعاء أفضل قال كثرة الدعاء أفضل وقرأ هذه الآية ﴿فقد كذبتم﴾ الخطاب لأهل مكة أي أن الله دعاكم بالرسول إلى توحيده وعبادته فقد كذبتم يا معاشر الكفار الرسول ﴿فسوف يكون لزاما﴾ أي فسوف يكون عقابه لتكذيبكم إياه لازما لكم قال صخر الغي:
فأما ينجوا من حتف أرضي
فقد لقيا حتوفهما لزاما
أي أنه واقع لا محالة قال الزجاج تأويله فسوف يكون تكذيبكم لزاما يلزمكم فلا تعطون التوبة وتلزمكم به العقوبة وقال أبو عبيدة لزاما فيصلا وقيل في تفسير اللزام أنه القتل يوم بدر عن ابن مسعود وأبي بن كعب وقيل هو عذاب الآخرة وقال أبو ذؤيب في اللزام:
ففاجأه بعادية لزام
كما يتفجر الحوض اللقيف
فلزام معناه كثيرة يلزم بعضها بعضا ولقيف متساقط متهدم وبالله التوفيق.