الآيات 9-12
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ﴿9﴾ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴿10﴾ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ﴿11﴾ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ﴿12﴾
اللغة:
الكهف المغارة في الجبل إلا أنه واسع فإذا صغر فهو غار والرقيم أصله من الرقم وهو الكتابة يقال رقمت الكتاب أرقمه فهو فعيل بمعنى مفعول كالجريح والقتيل ومنه الرقم في الثوب لأنه خط يعرف به ثمنه والأرقم الحية المنقشة لما فيه من الخطوط وتقول العرب عليك بالرقمة ودع الضفة أي عليك برقمة الوادي حيث الماء ودع الجانب والأوى الرجوع والفتية جمع فتى وفعلة من أسماء الجمع وليس بناء يقاس عليه يقال صبي وصبية وغلام وغلمة ولا يقال غني وغنية لأنه غير مطرد في بابه والضرب معروف ومعنى ضربنا على آذانهم سلطنا عليهم النوم وهو من الكلام البالغ في الفصاحة يقال ضربه الله بالفالج إذا ابتلاه الله به قال قطرب: هو كقول العرب ضرب الأمير على يد فلان إذا منعه من التصرف قال الأسود بن يعفر وكان ضريرا:
ومن الحوادث لا أبا لك أنني
ضربت علي الأرض بالأسداد
والحزب الجماعة والأمد الغاية قال النابغة:
إلا لمثلك أو من أنت سابقة
سبق الجواد إذا استولى على الأمد
الإعراب:
﴿سنين﴾ نصب على الظرف و﴿عددا﴾ منصوب على ضربين (أحدهما) على المصدر المعنى تعد عددا ويجوز أن يكون نعتا لسنين.
المعنى سنين ذات عدد قال الزجاج: والفائدة في قولك عدد في الأشياء المعدودات أنك تريد توكيد كثرة الشيء لأنه إذا قل فهم مقداره ومقدار عدده فلم يحتج إلى أن يعد فالعدد في قولك أقمت أياما عددا إنك تريد بها الكثرة وجائز أن يؤكد بعدد معنى الجماعة في أنها قد خرجت من معنى الواحد قال وأمدا منصوب على نوعين (أحدهما) التمييز (والآخر) على أحصى أمدا فيكون العامل فيه أحصى كأنه قال لنعلم أهؤلاء أحصى للأمد أم هؤلاء ويكون منصوبا بلبثوا ويكون أحصى متعلقا بلما فيكون المعنى أي الحزبين أحصى للبثهم في الأمد قال أبو علي: إن انتصابه على التمييز عندي غير مستقيم وذلك لأنه لا يخلو من أن يحمل أحصى على أن يكون فعلا ماضيا أو أفعل نحو أحسن وأعلم فلا يجوز أن يكون أحصى بمعنى أفعل من كذا وغير مثال للماضي من وجهين (أحدهما) أنه يقال أحصى يحصي وفي التنزيل أحصاه الله ونسوة وأفعل يفعل لا يقال فيه هو أفعل من كذا وأما قولهم ما أولاه بالخير وما أعطاه الدرهم فمن الشاذ النادر الذي حكمه أن يحفظ ولا يقاس عليه (والآخر) إن ما ينتصب على التمييز في نحو قولهم هو أكثر مالا وأعز علما يكون في المعنى فاعلا ألا ترى أن المال هو الذي كثر والعلم هو الذي عز وليس ما في الآية كذلك ألا ترى أن الأمد ليس هو الذي أحصى فهو خارج عن حد هذه الأسماء وإذا كان ماضيا كان المعنى لنعلم أي الحزبين أحصى أمدا للبثهم فيكون الأمد على هذا منتصبا بأنه مفعول به والعامل فيه أحصى.
النزول:
محمد بن إسحق بإسناده عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس أن النضر بن الحرث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط أنفذهما قريش إلى أحبار اليهود بالمدينة وقالوا لهما سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته وخبراهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم من علم الأنبياء ما ليس عندنا فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار اليهود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالا لهم ما قالت قريش فقال لهما أحبار اليهود اسألوه عن ثلاث فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإن لم يفعل فهو رجل متقول فرأوا فيه رأيكم سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم فإنه قد كان لهم حديث عجيب وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه وسلوه عن الروح ما هو وفي رواية أخرى فإن أخبركم عن الثنتين ولم يخبركم بالروح فهو نبي فانصرفا إلى مكة فقالا يا معاشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد وقصا عليهم القصة فجاؤوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسألوه فقال أخبركم بما سألتم عنه غدا ولم يستثن فانصرفوا عنه فمكث (صلى الله عليه وآله وسلم) خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبرائيل حتى أرجف أهل مكة وتكلموا في ذلك فشق على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يتكلم به أهل مكة عليه ثم جاءه جبرائيل (عليه السلام) عن الله سبحانه بسورة الكهف وفيها ما سألوه عنه عن أمر الفتية والرجل الطواف وأنزل عليه ويسألونك عن الروح الآية قال ابن إسحق: فذكر لي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لجبرائيل حين جاءه لقد احتبست عني يا جبرائيل فقال له جبرائيل (عليه السلام) وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا الآية.
المعنى:
﴿أم حسبت﴾ معناه بل أ حسبت يا محمد ﴿أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا﴾ فلخلق السماوات والأرض أعجب من هذا عن مجاهد وقتادة ويحتمل أنه لما استبطأ الجواب حين سألوه عن القصة قيل له أ حسبت أن هذا شيء عجيب حرصا على إيمانهم حتى قوي طمعك إنك إذا أخبرتهم به آمنوا والمراد بالكهف كهف الجبل الذي أوى إليه القوم الذين قص الله أخبارهم واختلف في معنى الرقيم فقيل إنه اسم الوادي الذي كان فيه الكهف عن ابن عباس والضحاك وقيل الكهف غار في الجبل والرقيم الجبل نفسه عن الحسن وقيل الرقيم القرية التي خرج منها أصحاب الكهف عن كعب والسدي وقيل هو لوح من حجارة كتبوا فيه قصة أصحاب الكهف ثم وضعوه على باب الكهف عن سعيد بن جبير واختاره البلخي والجبائي وقيل جعل ذلك اللوح في خزائن الملوك لأنه من عجائب الأمور وقيل الرقيم كتاب ولذلك الكتاب خبر فلم يخبر الله تعالى عما فيه عن ابن زيد وقيل إن أصحاب الرقيم هم النفر الثلاثة الذين دخلوا في غار فانسد عليهم فقالوا ليدعو الله تعالى كل واحد منا بعمله حتى يفرج الله عنا ففعلوا فنجاهم الله ورواه النعمان بن بشير مرفوعا ﴿إذ أوى الفتية إلى الكهف﴾ أي اذكر لقومك إذ التجأ أولئك الشبان إلى الكهف وجعلوه مأواهم هربا بدينهم إلى الله ﴿فقالوا﴾ حين آووا إليه ﴿ربنا آتنا من لدنك رحمة﴾ أي نعمة ننجو بها من قومنا وفرج عنا ما نزل بنا ﴿وهيىء لنا من أمرنا رشدا﴾ أي هيىء وأصلح لنا من أمرنا ما نصيب به الرشد وقيل هيىء لنا مخرجا من الغار في سلامة عن ابن عباس وقيل معناه دلنا على أمر فيه نجاتنا لأن الرشد والنجاة بمعنى وقيل يسر لنا من أمرنا ما نلتمس به رضاك وهو الرشد وقالوا هؤلاء الفتية قوم آمنوا بالله تعالى وكانوا يخفون الإسلام خوفا من ملكهم وكان اسم الملك دقيانوس واسم مدينتهم أفسوس وكان ملكهم يعبد الأصنام ويدعو إليها ويقتل من خالفه وقيل إنه كان مجوسيا يدعو إلى دين المجوس والفتية كانوا على دين المسيح لما برح أهل الإنجيل وقيل كانوا من خواص الملك وكان يسر كل واحد منهم إيمانه عن صاحبه ثم اتفق أنهم اجتمعوا وأظهروا أمرهم فأووا إلى الكهف عن عبيد بن عمير وقيل إنهم كانوا قبل بعث عيسى (عليه السلام) ﴿فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا﴾ معناه أنمناهم سنين ذات عدد وتأويله فأجبنا دعاءهم وسددنا آذانهم بالنوم الغالب على نفوذ الأصوات إليها سنين كثيرة لأن النائم إنما ينتبه بسماع الصوت ودل سبحانه بذلك على أنهم لم يموتوا وكانوا نياما في أمن وراحة وجمام نفس وهذا من فصيح لغات القرآن التي لا يمكن أن يترجم بمعنى يوافق اللفظ ﴿ثم بعثناهم﴾ أي أيقظناهم من نومهم ﴿لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا﴾ أي ليظهر معلومنا على ما علمناه وذكرنا الوجه في أمثاله فيما سبق والمعنى لننظر أي الحزبين من المؤمنين والكافرين من قوم أصحاب الكهف عد أمد لبثهم وعلم ذلك وكأنه وقع بينهم تنازع في مدة لبثهم في الكهف بعد خروجهم من بيتهم فبعثهم الله ليبين ذلك ويظهر وقيل يعني بالحزبين أصحاب الكهف لما استيقظوا اختلفوا في تعداد لبثهم وذلك قوله وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم الآية.
النظم:
اتصل قوله ﴿أم حسبت أن أصحاب الكهف﴾ الآية بما قبلها من وجوه (أحدها) أنه لما أخبر عن زينة الأرض وعن الابتلاء عقبه بذكر الفتية التي تركت زينة الدنيا واختارت طاعة الله وفارقت ديارها وأموالها حثا على الاقتداء بهم (والآخر) إنه اتصل بقوله فلعلك باخع نفسك على آثارهم أي فلا تأسف عليهم لأنه لا يضرك كفرهم والله ناصرك وحافظك من أعدائك كما حفظ أصحاب الكهف (والثالث) إنه اتصل بقوله ويبشر المؤمنين أي وينصرهم كما نصر أصحاب الكهف.