الآيات 21-24

وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا ﴿21﴾ سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا ﴿22﴾ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ﴿23﴾ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ﴿24﴾

اللغة:

عثر على الشي‏ء يعثر عثرا إذا طلع عليه وأعثرت عليه غيري والعاثور حفرة تحفر ليصطاد به الأسد يقال للرجل إذا تورط وقع في عاثور وأصله من العثار والمراء الجدال ماريت الرجل أماريه مراء.

الإعراب:

﴿إذ يتنازعون﴾ يجوز أن يكون منصوبا بقوله ﴿أعثرنا﴾ أي اطلعنا عليهم في وقت المنازعة في أمرهم ويجوز أن يكون منصوبا بقوله ﴿ليعلموا﴾ وإنما دخلت الواو في قوله ﴿وثامنهم﴾ ولم يدخل في الأولين لأن هاهنا عطف جملة على جملة وهناك وصف النكرة بجملة فإن التقدير هم سبعة وهم ثلاثة فثلاثة مرفوع بأنه خبر مبتدإ محذوف و﴿رابعهم كلبهم﴾ وصف لثلاثة وكذلك ﴿سادسهم كلبهم﴾ صفة لخمسة وهذا قول علي بن عيسى قال: وفرق ما بينهم أن السبعة أصل للمبالغة في العدد لأن جلائل الأمور سبعة سبعة وأقول قد وجدت لأبي علي الفارسي في هذا كلاما طويلا سألخصه لك وأهذبه فضل تهذيب قال: إن الجملتين الملتبسة إحداهما بالأخرى وهي أن تكون غير أجنبية منها على ضربين (أحدهما) أن تعطف بحرف العطف والآخر أن توصل بها بغير حرف العطف فما يوصل بها بما قبلها بغير حرف العطف من الجملة على أربعة أضرب (أحدها) أن تكون صفة (والآخر) أن تكون حالا (والثالث) أن تكون تفسيرا (والرابع) أن لا تكون على أحد هذه الأوجه الثلاثة لكن يكون في الجملة الثانية ذكر مما في الأولى أو ممن فيها فالأول نحو مررت برجل أبوه قائم وبغلام يقوم ولا وجه لإدخال حرف العطف على هذا لأن الصفة تبين الموصوف وتخصصه فلو عطفت لخرجت بالعطف من أن تكون صفة لأن العطف ليس الثاني وهو المعطوف فيه بالأول وإنما يشرك الثاني في إعراب الأول والصفة هو الموصوف في المعنى (وأما) الثاني وهو أن تكون حالا فلا مدخل لحرف العطف عليه أيضا لأن الحال مثل الصفة في أنها تفرق بين هيأتين أو هيئات كما أن الصفة تفرق بين موصوفين أو موصوفات وهي مثل المفعول في أنها تكون بعد كلام تام فكما لا يدخل الحرف العاطف بين الصفة والموصوف ولا بين المفعول وما عمل فيه كذلك لا يدخل بين الحال وذي الحال والجمل الواقعة موقع الحال إما أن تكون من فعل وفاعل أو من مبتدإ وخبر نحو رأيت زيدا يضحك وجاء زيد أبوه منطلق قال الشاعر:

ولو لا جنان الليل ما آب عامر

إلى جعفر سرباله لم يمزق

(وأما) الثالث وهي الجملة التي تكون تفسيرا لما قبلها فنحو قوله وعد الله الذين آمنوا ثم قال لهم مغفرة وأجر عظيم فالمغفرة تفسير الوعد الذي وعدوا فأما قوله تعالى هل أدلكم على تجارة تنجيكم ثم قال تؤمنون بالله فتؤمنون على لفظ الخبر ومعناه الأمر بدلالة قوله يغفر لكم وحسن أن يكون الأمر على لفظ الخبر لوقوعه كالتفسير لما قبله من ذكر التجارة وحكم التفسير أن يكون خبرا فلذلك حسن كون الأمر على لفظ الخبر هنا (وأما) الرابع الذي لا يكون اتصاله على الوجوه الثلاثة ويكون في الجملة الثانية ذكر مما في الأولى فإن هذا الوجه يتصل بما قبله على وجهين (أحدهما) بحرف عطف كما يتبع الأجنبية إياها بحرف عطف وذلك نحو زيد أبوك وأخوه عمرو فهذه قد نزلت منزلة الأجنبية من الأولى في العطف بالواو نحو قام زيد وخرج عمرو وزيد قائم وبكر خارج والآخر أن يتبع الثانية الأولى بغير حرف عطف كقوله سبحانه إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ويقول في آية أخرى وكانوا يصرون بالواو وقوله ﴿سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم﴾ ﴿ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم﴾ والدليل على أن هذا نوع آخر خارج عن الأنواع الثلاثة أن قوله ﴿وثامنهم كلبهم﴾ بعد الجملة المحذوف مبتدؤها لا يخلو من أن يكون حالا أو صفة أو تفسيرا أو جملة منقطعة من الأول ولا يجوز أن يكون في موضع الحال لأن ما قبلها من الكلام لا معنى فعل فيه عاملا في الحال والحال لا بد لها من عامل فيها ولا يمكن أن يجعل المبتدأ المضمر هذا وما أشبهه من أسماء الإشارة فينتصب الحال عنها لأن المخبر عنهم هاهنا ليسوا بمشار إليهم في وقت الإخبار وإنما المراد الإخبار عن عددهم ولو كانوا بحيث يشار إليهم لم يقع الاختلاف في عددهم ولا يجوز أن يكون تفسيرا لأن التفسير هو المفسر في المعنى ولا يجوز أن يكون شي‏ء من جزء الجملة التي هي ﴿رابعهم كلبهم﴾ شيئا من جزء التي هي هم ثلاثة ولا يجوز أيضا أن يكون صفة للنكرة التي قبلها لأنه لا يخلو في الوصف من أحد أمرين إما أن يعمل اسم فاعل كما يعمل سائر أسماء الفاعلين الجارية على أفعالها فيرتفع ما بعده به وإما أن يجعل جملة في موضع وصف ولا يعمل اسم الفاعل عمل الفعل فيكون مبتدأ وخبرا ولا يجوز الأول لأنه في معنى الماضي والماضي لا يقدر فيه الانفصال وإنما يقدر في الحاضر والآتي لأنه كما أعرب من الأفعال المضارعة ما كان حاضرا وآتيا كذلك لم يعمل الماضي من أسماء الفاعلين ولو لا المضي لم يمتنع إعمال قوله ﴿رابعهم﴾ و﴿سادسهم﴾ ولا تكون أيضا الجملة صفة لثلاثة كما توصف النكرات بالجمل لأن هذه جملة مستأنفة وليست على حد الصفة بل على حد ما بعدها من قوله ﴿وثامنهم كلبهم﴾ فحذفت الواو واستغني عنها إذا كانت إنما تذكر لتدل على الاتصال وما في الجملة من ذكر ما في الأولى كأنه يستغني به عن ذكر الواو لأن الحرف يدل على إيصاله وما في الجملة من ذكر ما تقدمها اتصال أيضا فيستغني به ويكتفي بذلك منه وهذا فصل جامع في النحو جليل الموقع كثير الفائدة إذا تأمله المتأمل حق التأمل وأحكمه أشرف به على كثير من المسائل إن شاء الله وأما من قال إن هذه الواو واو الثمانية واستدل بقوله حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها لأن للجنة ثمانية أبواب فشي‏ء لا يعرفه النحويون.

المعنى:

﴿وكذلك أعثرنا عليهم﴾ أي وكما أنمناهم وبعثناهم اطلعنا وأعثرنا عليهم أهل المدينة وجملة أمرهم وحالهم على ما قاله المفسرون أنهم لما هربوا من ملكهم ودخلوا الكهف أمر الملك أن يسد عليهم باب الكهف ويدعوهم كما هم في الكهف فيموتوا عطشا وجوعا وليكن كهفهم الذي اختاروه قبرا لهم وهو يظن أنهم إيقاظ ثم إن رجلين مؤمنين كتبا شأن الفتية وأنسابهم وأسماءهم وخبرهم في لوح من رصاص وجعلاه في تابوت من نحاس وجعلا التابوت في البنيان الذي بنوا على باب الكهف وقالا لعل الله يظهر على هؤلاء الفتية قوما مؤمنين قبل يوم القيامة ليعلموا خبرهم حين يقرءون هذا الكتاب ثم انقرض أهل ذلك الزمان وخلفت بعدهم قرون وملوك كثيرة وملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له ندليس وقيل بندوسيس عن محمد بن إسحاق وتحزب الناس في ملكه أحزابا منهم من يؤمن بالله ويعلم أن الساعة حق ومنهم من يكذب فكبر ذلك على الملك الصالح وبكى إلى الله وتضرع وقال أي رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث لهم آية تبين لهم بها أن البعث حق وأن الساعة حق آتية لا ريب فيها فألقى الله في نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي فيه الكهف أن يهدم البنيان الذي على فم الكهف فيبني به حظيرة لغنمه ففعل ذلك وبعث الله الفتية من نومهم فأرسلوا أحدهم ليطلب لهم طعاما فاطلع الناس على أمرهم وبعثوا إلى الملك الصالح يعلمونه الخبر ليعجل القدوم عليهم وينظر إلى آية من آيات الله جعلها الله في ملكه فلما بلغه الخبر حمد الله وركب معه مدينته حتى أتوا أهل الكهف فذلك قوله ﴿وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله﴾ بالبعث والثواب والعقاب ﴿حق وأن الساعة لا ريب فيها﴾ أي أن القيامة لا شك فيها فإن من قدر على أن ينيم جماعة تلك المدة المديدة أحياء ثم يوقظهم قدر أيضا على أن يميتهم ثم يحييهم بعد ذلك ﴿إذ يتنازعون بينهم أمرهم﴾ أي فعلنا ذلك حين تنازعوا في البعث فمنهم من أنكره ومنهم من قال يبعث الأرواح دون الأجسام ومنهم من أثبت البعث فيهما وأضاف الأمر إليهم لتنازعهم فيه كما يقال ما صنعتم في أمركم عن عكرمة وقيل إن معناه إذ يتنازعون في قدر مكثهم في الكهف وفي عددهم وفيما يفعل بهم بعد أن اطلعوا عليهم وذلك أنه لما دخل الملك عليهم مع الناس وجعلوا يسألونهم سقطوا ميتين فقال الملك إن هذا الأمر عجيب فما ترون فاختلفوا فقال بعضهم ابنوا عليهم بنيانا كما تبنى المقابر وقال بعضهم اتخذوا مسجدا على باب الكهف وهذا التنازع كان منهم بعد العلم بموتهم عن ابن عباس ﴿فقالوا﴾ أي قال مشركو ذلك الوقت ﴿ابنوا عليهم بنيانا﴾ أي استروهم من الناس بأن تجعلوهم وراء ذلك البنيان كما يقال بنى عليه جدارا إذا حوطه وجعله وراء الجدار ﴿ربهم أعلم بهم﴾ معناه ربهم أعلم بحالهم فيما تنازعوا فيه وقيل إنه قال ذلك بعضهم ومعناه ربهم أي خالقهم الذي أنامهم وبعثهم أعلم بحالهم وكيفية أمرهم وقيل معناه ربهم أعلم بهم أ أحياء نيام هم أم أموات فقد قيل إنهم ماتوا وقيل أنهم لا يموتون إلى يوم القيامة ﴿قال الذين غلبوا على أمرهم﴾ يعني الملك المؤمن وأصحابه وقيل أولياء أصحاب الكهف من المؤمنين وقيل رؤساء البلد الذين استولوا على أمرهم عن الجبائي ﴿لنتخذن عليهم مسجدا﴾ أي معبدا وموضعا للعبادة والسجود يتعبد الناس فيه ببركاتهم ودل ذلك على أن الغلبة كانت للمؤمنين وقيل مسجدا يصلي فيه أصحاب الكهف إذا استيقظوا عن الحسن وقد روي أيضا أن أصحاب الكهف لما دخل صاحبهم إليهم وأخبرهم بما كانوا عنه غافلين من مدة مقامهم سألوا الله تعالى أن يعيدهم إلى حالتهم الأولى فأعادهم إليها وحال بين من قصدهم وبين الوصول إليهم بأن أضلهم عن الطريق إلى الكهف الذي كانوا فيه فلم يهتدوا إليه ثم بين سبحانه تنازعهم في عددهم فقال ﴿سيقولون﴾ أي سيقول قوم من المختلفين في عددهم ﴿ثلاثة﴾ أي هم ثلاثة ﴿رابعهم كلبهم ويقولون﴾ أي ويقول آخرون هم ﴿خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب﴾ أي قذفا بالظن من غير يقين عن قتادة ﴿ويقولون﴾ أي ويقول آخرهم هم ﴿سبعة وثامنهم كلبهم﴾ وقيل إن هذا إخبار من الله تعالى بأنه سيقع نزاع في عددهم ثم وقع ذلك لما وفد نصارى نجران إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فجرى ذكر أصحاب الكهف فقالت اليعقوبية منهم: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم وقالت النسطورية: كانوا خمسة سادسهم كلبهم وقال المسلمون: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم ﴿قل﴾ يا محمد ﴿ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل﴾ من الناس عن قتادة وقيل قليل من أهل الكتاب عن عطا وقال ابن عباس أنا من ذلك القليل هم سبعة وثامنهم كلبهم والأظهر أن يكون عرف ذلك من جهة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال هم مكسليمنا وتمليخا ومرطولس ونينونس وسارينونس ودربونس وكشوطبونس وهو الراعي ﴿فلا تمار فيهم﴾ أي فلا تجادل الخائضين في عددهم وشأنهم ﴿إلا مراء ظاهرا﴾ فيه وجوه (أحدها) أن معناه إلا تجادلهم إلا بما أظهرنا لك من أمرهم عن ابن عباس وقتادة ومجاهد أي لا تجادل إلا بحجة ودلالة وإخبار من الله سبحانه وهو المراء الظاهر (وثانيها) أن المراد لا تجادلهم إلا جدالا ظاهرا وهو أن تقول لهم أثبتم عددا وخالفكم غيركم وكلا القولين يحتمل الصدق والكذب فهلموا بحجة تشهد لكم (وثالثها) أن المراد إلا مراء يشهده الناس ويحضرونه فلو أخبرتهم في غير ملأ من الناس لكذبوا عليك ولبسوا على الضعفة فادعوا أنهم كانوا يعرفونه لأن ذلك من غوامض علومهم ﴿ولا تستفت فيهم منهم أحدا﴾ معناه ولا تستخبر في أهل الكهف وفي مقدار عددهم من أهل الكتاب أحدا ولا تستفتهم من جهتهم عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد غيره لئلا يرجعوا في ذلك إلى مساءلة اليهود فإنه كان واثقا بخبر الله تعالى ﴿ولا تقولن لشي‏ء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله﴾ قد ذكر في معناه وجوه (أحدها) أنه نهي من الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول إني أفعل شيئا في الغد إلا أن يقيد ذلك بمشيئة الله تعالى فيقول إن شاء الله قال الأخفش وفيه إضمار القول وتقديره إلا أن تقول إن شاء الله ولما حذف تقول نقل إن شاء الله إلى لفظ الاستقبال فيكون هذا تأديبا من الله للعباد وتعليما لهم أن يعقلوا ما يخبرون به بهذه اللفظة حتى يخرج عن حد القطع فلا يلزمهم كذب أو حنث إذا لم يفعلوا ذلك لمانع وهذا معنى قول ابن عباس (وثانيها) أن قوله ﴿أن يشاء الله﴾ بمعنى المصدر وتعلق بما تعلق به على ظاهره وتقديره ولا تقولن إني فاعل شيئا غدا إلا مشية الله عن الفراء وهذا وجه حسن يطابق الظاهر ولا يحتاج فيه إلى بناء الكلام على محذوف ومعناه ولا تقل إني أفعل إلا ما يشاء الله ويريده وإذا كان الله تعالى لا يشاء إلا الطاعات فكأنه قال لا تقل إني أفعل إلا الطاعات ولا يطعن على هذا جواز الأخبار عما يفعل من المباحات التي لا يشاءوها الله تعالى لأن هذا النهي نهي تنزيه لا نهي تحريم بدلالة أنه لو لم يقل ذلك لم يأثم بلا خلاف (وثالثها) أنه نهى عن أن يقول الإنسان سأفعل غدا وهو يجوز الاخترام قبل أن يفعل ما أخبر به فلا يوجد مخبره على ما أخبر به فهو كذب ولا يأمن أيضا أن لا يوجد مخبره بحدوث شي‏ء من فعل الله تعالى نحو المرض والعجز وبأن يبدو له هو في ذلك فلا يسلم خبره من الكذب إلا بالاستثناء الذي ذكره الله تعالى فإذا قال إني صائر غدا إلى المسجد إن شاء الله أمن من أن يكون خبره هذا كذبا لأن الله تعالى إن شاء أن يلجئه إلى المصير إلى المسجد غدا حصل المصير إليه منه لا محالة فلا يكون خبره هذا كذبا وإن لم يوجد المصير منه إلى المسجد لأنه لم يوجد ما استثناه في ذلك من مشيئة الله تعالى عن الجبائي وقد ذكرنا فيما قبل ما جاء في الرواية أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين فقال أخبركم عنه غدا ولم يستثن فاحتبس الوحي عنه أياما حتى شق عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية بأمره بالاستثناء بمشيئة الله تعالى وقوله ﴿واذكر ربك إذا نسيت﴾ فيه وجهان (أحدهما) أنه كلام متصل بما قبله ثم اختلف في ذلك فقيل معناه واذكر ربك إذا نسيت الاستثناء ثم تذكرت فقل إن شاء الله وإن كان بعد يوم أو شهر أو سنة عن ابن عباس وقد روي ذلك عن أئمتنا (عليهم السلام) ويمكن أن يكون الوجه فيه أنه إذا استثني بعد النسيان فإنه يحصل له ثواب المستثنى من غير أن يؤثر الاستثناء بعد انفصال الكلام في الكلام وفي إبطال الحنث وسقوط الكفارة في اليمين وهو الأشبه بمراد ابن عباس في قوله وقيل فاذكر الاستثناء ما لم تقم من المجلس عن الحسن ومجاهد وقيل فاذكر الاستثناء بأن تندم على ما قطعت عليه من الخبر عن الأصم (والآخر) أنه كلام مستأنف غير متعلق بما قبله ثم اختلف في معناه فقيل معناه واذكر ربك إذا غضبت بالاستغفار ليزول عنك الغضب عن عكرمة وقيل إنه أمر بالانقطاع إلى الله تعالى ومعناه واذكر ربك إذا نسيت شيئا بك إليه حاجة بذكره لك عن الجبائي وقيل المراد به الصلاة والمعنى إذا نسيت صلاة فصلها إذا ذكرتها عن الضحاك والسدي قال السيد الأجل المرتضى قدس الله روحه اعلم أن للاستثناء الداخل على الكلام وجوها مختلفة فقد يدخل في الإيمان والطلاق والعتاق وسائر العقود وما يجري مجراها من الأخبار فإذا دخل في ذلك اقتضى التوقف عن إمضاء الكلام والمنع من لزوم ما يلزم به ولذلك يصير ما يتكلم به كأنه لا حكم له ولذلك يصح على هذا الوجه أن يستثني الإنسان في الماضي فيقول قد دخلت الدار إن شاء الله تعالى ليخرج بهذا الاستثناء من أن يكون كلامه خبرا قاطعا أو يلزم به حكم وإنما لم يصح دخوله في المعاصي على هذا الوجه لأن فيه إظهار الانقطاع إلى الله تعالى والمعاصي لا يصح ذلك فيها وهذا الوجه أحد ما يحتمله تأويل الآية وقد يدخل الاستثناء في الكلام ويراد به اللطف والتسهيل وهذا الوجه يختص بالطاعات ولهذا جرى قول القائل لأقضين غدا ما علي من الدين أو لأصلين غدا إن شاء الله مجرى أن يقول إني فاعل إن لطف الله تعالى فيه وسهله ومتى قصد الحالف هذا الوجه لم يجب إذا لم يقع منه الفعل أن يكون حانثا أو كاذبا لأنه إذا لم يقع علمنا أنه لم يلطف فيه لأنه لا لطف له وهذا الوجه لا يصح أن يقال في الآية لأنه يختص الطاعات والآية تتناول كل ما لم يكن قبيحا بدلالة إجماع المسلمين على حسن استثناء ما تضمنه في كل فعل لم يكن قبيحا وقد يدخل الاستثناء في الكلام ويراد به التسهيل والإقدار والتخلية والبقاء على ما هو عليه من الأحوال وهذا هو المراد إذا دخل في المباحات وهذا الوجه يمكن في الآية وقد يدخل في الكلام استثناء المشيئة في الكلام وإن لم يرد به شي‏ء من المتقدم ذكره بل يكون الغرض الانقطاع إلى الله تعالى من غير أن يقصد به إلى شي‏ء من هذه الوجوه ويكون هذا الاستثناء غير معتد به في كونه كاذبا أو صادقا لأنه في الحكم كأنه قال لأفعلن كذا أن وصلت إلى مرادي مع انقطاعي إلى الله تعالى وإظهاري الحاجة إليه وهذا الوجه أيضا يمكن في الآية ومتى تؤمل جملة ما ذكرناه من الكلام عرف به الجواب عن المسألة التي لا يزال يسأل عنها من يذهب إلى خلاف العدل من قولهم لو كان الله تعالى إنما يريد الطاعات من الأفعال دون المعاصي لوجب إذا قال عليه الدين لغيره وطالبه به والله لأعطينك حقك غدا إن شاء الله أن يكون كاذبا أو حانثا إذا لم يفعل لأن الله تعالى قد شاء ذلك منه عندكم وإن كأن لم يقع ولكان يجب أن تلزمه به الكفارة وأن لا يؤثر هذا الاستثناء في يمينه ولا يخرجه من كونه حانثا كما أنه لو قال والله لأعطينك حقك غدا إن قام زيد فقام ولم يعطه يكون حانثا وفي التزلل الحنث خروج من الإجماع انتهى كلامه رضي الله عنه وقوله ﴿وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا﴾ معناه قل عسى ربي أن يعطيني من الآيات والدلالات على النبوة ما يكون أقرب من الرشد وأدل من قصة أصحاب الكهف عن الزجاج ثم إن الله سبحانه فعل به ذلك حيث آتاه من علم غيوب أخبار المرسلين وآثارهم ما هو واضح في الدلالة وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف وقيل إن معناه ادع الله أن يذكرك إذا نسيت شيئا وقل إن لم يذكرني الله ذلك الذي نسيت فإنه يذكرني ما هو أنفع لي منه عن الجبائي.