الآيات 28-29
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴿28﴾ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا ﴿29﴾
القراءة:
قرأ ابن عامر وحده ﴿بالغداوة﴾ والباقون ﴿بالغداة﴾ وفي الشواذ قراءة الحسن ولا تعد عينيك وقراءة عمرو بن فائد من أغفلنا قلبه.
الحجة:
قال أبو علي: أما غدوة فهو اسم موضوع للتعريف وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن تدخل عليه الألف واللام كما لا تدخل على سائر الأعلام وإن كانت قد كتبت في المصحف بالواو ولم يدل على ذلك كما أنهم كتبوا الصلوة بالواو وهي ألف وحجة من أدخل اللام المعرفة عليها أنه قد يجوز وإن كانت معرفة أن تتنكر كما حكاه أبو زيد من أنهم يقولون لقيته فينة والفينة بعد الفينة ففينة مثل غدوة في التعريف بدلالة امتناع الانصراف وقد دخلت عليه لام التعريف وذلك أن يقدر من أمة كلها له مثل هذا الاسم فيدخل التنكير لذلك ويقوي هذا تثنية الإعلام وجمعها وقوله:
لا هيثم الليلة للمطي وقولهم أما النضرة فلا نضرة لك فأجري مجرى ما يكون شائعا في الجنس وكذلك الغدوة وأما قوله ولا تعد عينيك فإنه منقول من عدت عيناك إذا جاوزتا وهو من قولهم جاء القوم عدا زيدا أي جاوز بعضهم زيدا ثم نقل إلى أعديت عيني عن كذا أي صرفتها عنه قال الشاعر:
حتى لحقنا بهم تعدي فوارسنا
كأننا رعن قف يرفع الآلا
أي تعدي فوارسنا خيلهم عن كذا فحذف المفعول بعد المفعول أو تعديها من عدا الفرس أي جرى وعلى أن أصلهما واحد لأن الفرس إذا عدا فقد جاوز مكانا إلى غيره وأما من قرأ من أغفلنا قلبه فمعناه ولا تطع من ظننا غافلين عنه وهو من قولهم أغفلت الرجل أي وجدته غافلا قال الأعشى:
أثوى وقصر ليلة ليزودا
فمضى وأخلف من قتيلة موعدا
أي صادفه مخلفا.
اللغة:
الفرط التجاوز للحق والخروج عنه من قولهم أفرط إفراطا إذا أسرف والسرادق الفسطاط المحيط بما فيه ويقال السرادق ثوب يدار حول الفسطاط قال رؤبة:
يا حكم بن المنذر بن الجارود
سرادق المجد عليك ممدود
والمهل خثارة الزيت وقيل هو النحاس الذائب والمرتفق المتكأ من المرفق يقال ارتفق إذا اتكأ على مرفقه قال أبو ذؤيب:
بات الخلي وبت الليل مرتفقا
كان عيني فيها الصاب مذبوح
ويقال إنه مأخوذ من الرفق والمنفعة.
النزول:
نزلت الآية الأولى في سلمان وأبي ذر وصهيب وعمار وحباب وغيرهم من فقراء أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك أن المؤلفة قلوبهم جاءوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم عيينة بن الحصين والأقرع بن حابس وذووهم فقالوا يا رسول الله إن جلست في صدر المجلس ونحيت عنا هؤلاء روائح صنانهم وكانت عليهم جبات الصوف جلسنا نحن إليك وأخذنا عنك فلا يمنعنا من الدخول عليك إلا هؤلاء فلما نزلت الآية قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يلتمسهم فأصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله عز وجل فقال الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات.
المعنى:
ثم أمر الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر مع المؤمنين فقال ﴿واصبر نفسك﴾ يا محمد أي احبس نفسك ﴿مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي﴾ أي يداومون على الصلاة والدعاء عند الصباح والمساء لا شغل لهم غيره ويستفتحون يومهم بالدعاء ويختمونه بالدعاء ﴿يريدون وجهه﴾ أي رضوانه وقيل يريدون تعظيمه والقربة إليه دون الرياء والسمعة ﴿ولا تعد عيناك عنهم﴾ أي ولا تتجاوز عيناك عنهم بالنظر إلى غيرهم من أبناء الدنيا ﴿تريد زينة الحياة الدنيا﴾ تريد في موضع الحال أي مريدا مجالسة أهل الشرف والغنى وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حريصا على إيمان العظماء من المشركين طمعا في إيمان أتباعهم ولم يمل إلى الدنيا وزينتها قط ولا إلى أهلها وإنما كان يلين في بعض الأحايين للرؤساء طمعا في إيمانهم فعوتب بهذه الآية وأمر بالإقبال على فقراء المؤمنين وأن لا يرفع بصره عنهم مريدا مجالسة الأشراف ﴿ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا﴾ قيل في معناه أقوال (أحدها) أن معناه ولا تطع من جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا بتعريضه للغفلة ولهذا قال ﴿واتبع هواه﴾ ومثله فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم (و ثانيها) أغفلنا قلبه أي نسبنا قلبه إلى الغفلة كما يقال أكفره إذا نسبه إلى الكفر وسماه كافرا كقول الكميت:
وطائفة قد أكفروني بحبكم
وطائفة قالوا مسيء ومذنب
(وثالثها) أغفلنا قلبه صادفناه غافلا عن ذكرنا كما قالت العرب سألناكم فما أقحمناكم وقاتلناكم فما أجبناكم (ورابعها) أغفلنا قلبه أي جعلناه غفلا لم نسمة بسمة قلوب المؤمنين ولم نعلم فيه علامة المؤمنين لتعرفه الملائكة بتلك السمة تقول العرب أغفل فلان ماشيته إذا لم يسمها بسمة تعرف (وخامسها) أن معناه ولا تطع من تركنا قلبه خذلناه وخلينا بينه وبين الشيطان بتركه أمرنا عن الحسن ﴿واتبع هواه﴾ أي لا تطع من اتبع هواه في شهواته وأفعاله ﴿وكان أمره فرطا﴾ أي سرفا وإفراطا عن مقاتل والجبائي وقيل تجاوزا للحد عن الأخفش وقيل ضياعا وهلاكا عن مجاهد والسدي قال الزجاج ومن قدم العجز في أمره أضاعه وأهلكه فيكون المعنى في هذا أنه ترك الإيمان والاستدلال بآيات الله واتبع الهوى ثم قال سبحانه ﴿وقل﴾ يا محمد لهؤلاء الذين أمروك بتنحية الفقراء ﴿الحق من ربكم﴾ أي هذا الحق من ربكم يعني القرآن وقيل معناه الذي أتيتكم به الحق عن الزجاج من ربكم يعني لم آتكم به من قبل نفسي وإنما أتيتكم به من قبل الله وقيل معناه ظهرت الحجة ووضح الحق من ربكم وزالت الشبهة ﴿فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر﴾ هذا وعيد من الله سبحانه وإنذار ولذلك عقبه بقوله ﴿إنا أعتدنا﴾ وإنما جاز التهديد بلفظ الأمر لأن المهدد كالمأمور بإهانة نفسه ومعناه فليختر كل لنفسه ما شاء فإنهم لا ينفعون الله تعالى بإيمانهم ولا يضرونه بكفرهم وإنما يرجع النفع والضر إليهم ﴿إنا أعتدنا﴾ أي هيأنا وأعددنا ﴿للظالمين﴾ أي الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بعبادة غير الله تعالى ﴿نارا أحاط بهم سرادقها﴾ والسرادق حائط من نار يحيط بهم عن ابن عباس وقيل هو دخان النار ولهبها يصل إليهم قبل وصولهم إليها وهو الذي في قوله إلى ظل ذي ثلاث شعب عن قتادة وقيل أراد أن النار أحاطت بهم من جميع جوانبهم فشبه ذلك في السرادق عن أبي مسلم ﴿وإن يستغيثوا﴾ من شدة العطش وحر النار ﴿يغاثوا بماء كالمهل﴾ وهو كل شيء أذيب كالرصاص والنحاس والصفر عن ابن مسعود وقيل كعكر الزيت إذا قرب إليه سقطت فروة رأسه روي ذلك مرفوعا وقيل كدردي الزيت عن ابن عباس وقيل هو القيح والدم عن مجاهد وقيل هو الذي انتهى حره عن سعيد بن جبير وقيل أنه ماء أسود وأن جهنم سوداء وماؤها أسود وشجرها أسود وأهلها سود عن الضحاك ﴿يشوي الوجوه﴾ أي ينضجها عند دنوه منها ويحرقها وإنما جعل سبحانه ذلك إغاثة لاقترانه بذكر الإغاثة ﴿بئس الشراب﴾ ذلك المهل ﴿وساءت﴾ النار ﴿مرتفقا﴾ أي متكئا لهم قيل ساءت مجتمعا مأخوذ من المرافقة وهي الاجتماع عن مجاهد وقيل منزلا ومستقرا عن ابن عباس وعطاء.