الآيات 32-36

وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ﴿32﴾ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴿33﴾ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴿34﴾ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ﴿35﴾ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا ﴿36﴾

القراءة:

قرأ أبو جعفر وعاصم ويعقوب وسهل وكان له ثمر وأحيط بثمره في الموضعين بالفتح ووافق رويس في الأول وقرأ أبو عمرو بضم الثاء وسكون الميم في الموضعين والباقون بضم الثاء والميم في الحرفين وقرأ أهل الحجاز وابن عامر خيرا منهما بزيادة ميم وكذلك هو في مصاحفهم وقرأ أهل العراق ﴿منها﴾ بغير ميم.

الحجة:

قال أبو علي: الثمرة ما يجتني من ذي الثمر وجمعها ثمرات ويجمع على ثمر كبقرة وبقر وعلى ثمار كرقبة ورقاب وعلى هذا تشبيه المخلوقات بغير المخلوقات وقد يشبه كل واحد منهما بالآخر ويجوز في القياس أن يكسر ثمار على ثمر ككتاب وكتب وقراءة أبي عمرو وكان له ثمر يجوز أن يكون جمع ثمار كما يخفف كتب ويجوز أن يكون ثمر جمع ثمرة كبدنة وبدن وخشبة وخشب ويجوز أن يكون ثمر واحدة كعنق وطنب فعلى أي هذه الوجوه كان جاز إسكان العين منه كذلك في قوله وأحيط بثمره وقال بعض أهل اللغة الثمر المال والثمر المأكول وجاء في التفسير قريب من هذا قالوا الثمر النخل والشجر ولم يرد به الثمرة والثمر على ما روي عن عدة من السلف بل الأصول التي تحمل الثمرة لا نفس الثمر بدلالة قوله فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها أي في الجنة والنفقة إنما تكون على ذوات الثمرة في أغلب العرف وكانت الآفة التي أرسلت إليها اصطلمت الأصول واجتاحتها كما جاء في صفة الجنة الأخرى فأصبحت كالصريم أي كالليل في سوادها لاحتراقها وكالنهار في بياضها وما بطل من خضرتها بالآفة النازلة بها وحكي عن أبي عمرو ثمر والثمر أنواع المال فإذا اصطلم الثمر فاجتيح دخلت الثمرة فيه ولا يمكن أن يصاب الأصل ولا تصاب الثمرة وإذا كان كذلك فمن قرأ بثمره وثمره كان قوله أبين ممن قرأ بالفتح ويجوز القراءة بالفتح كأنه أخبر عن بعض ما أصيب وأمسك عن بعض وقوله ﴿خيرا منها﴾ منقلبا فالإفراد لأنه أقرب إلى الجنة المفردة في قوله ﴿ودخل جنته﴾ والتثنية لتقدم ذكر الجنتين.

اللغة:

حف القوم بالشي‏ء إذا أطافوا به وحفافا الشي‏ء جانباه كأنهما أطافا به قال طرفة:

كأن جناحي مضرحي تكنفا

حفافيه شكا في العسيب بمسرد

والمحاورة مراجعة الكلام في المخاطبة ويقال كلمت فلانا فما رجع إلى حوارا ومحورة وحويرا.

الإعراب:

إنما قال ﴿آتت﴾ على لفظ كلتا فإنه بمنزلة كل في أنه مفرد اللفظ ولو قال أتتا على المعنى لجاز قال الشاعر في التوحيد:

وكلتاهما قد خط لي في صحيفتي

فلا العيش أهواه ولا الموت أروح

المعنى:

ثم ضرب الله لعباده مثلا يستفيئهم به إلى طاعته ويزجرهم عن معصيته وكفران نعمته فقال مخاطبا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿واضرب لهم مثلا رجلين﴾ روي عن ابن عباس أنه قال يريد ابني ملك كان في بني إسرائيل توفي وترك ابنين وترك مالا جزيلا فأخذ أحدهما حقه منه وهو المؤمن منهما فتقرب إلى الله تعالى وأخذ الآخر حقه فتملك به ضياعا منها هاتان الجنتان وفي تفسير علي بن إبراهيم بن هاشم أنه يريد رجلا كان له بستانان كبيران كثيرا الثمار كما حكى سبحانه وكان له جار فقير فافتخر الغني على الفقير وقال له أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا وهذا أليق بالظاهر ﴿جعلنا لأحدهما جنتين﴾ أي بستانين أجنهما الأشجار ﴿من أعناب وحففناهما بنخل﴾ أي جعلنا النخل مطيفا بهما ﴿وجعلنا بينهما زرعا﴾ أي وجعلنا بين البستانين مزرعة فكملت النعمة بالعنب والتمر والزرع ﴿كلتا الجنتين آتت أكلها﴾ أي كل واحدة من البستانين آتت غلتها وأخرجت ثمرتها وسماه أكلا لأنه مأكول ﴿ولم تظلم منه شيئا﴾ أي لم تنقص منه شيئا بل أدته على التمام والكمال كما قال الشاعر:

ويظلمني مالي كذا ولوى يدي

لوى يده الله الذي هو غالبه

أي ينقصني مالي ﴿وفجرنا خلالهما نهرا﴾ أي شققنا وسط الجنتين نهرا يسقيهما حتى يكون الماء قريبا منهما يصل إليهما من غير كد وتعب ويكون ثمرهما وزرعهما بدوام الماء فيهما أوفي وأروى ﴿وكان له ثمر﴾ قيل إن معناه وكان للنخل الذي فيهما ثمر وقيل معناه وكان للرجل ثمر ملكه من غير جنتيه كما يملك الناس ثمارا لا يملكون أصلها عن ابن عباس وقيل كان لهذا الرجل مع هذين البستانين الذهب والفضة عن مجاهد وقيل كان له معهما جميع الأموال عن قتادة وابن عباس في رواية أخرى ﴿فقال لصاحبه وهو يحاوره﴾ أي فقال الكافر لصاحبه المؤمن وهو يخاطبه ويراجعه في الكلام ﴿أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا﴾ أي أعز عشيرة ورهطا وسمي العشيرة نفرا لأنهم ينفرون معه في حوائجه وقيل معناه أعز خدما وولدا عن قتادة ومقاتل ﴿ودخل جنته وهو ظالم لنفسه﴾ أي ودخل الكافر بستانه وهو ظالم لنفسه بكفره وعصيانه ﴿قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا﴾ أي ما أقدر أن تفنى هذه الجنة وهذه الثمار أبدا وقيل يريد ما أظن هذه الدنيا تفنى أبدا ﴿وما أظن الساعة قائمة﴾ أي وما أحسب القيامة آتية كائنة على ما يقوله الموحدون ﴿ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا﴾ معناه ولئن كانت القيامة والبعث حقا كما يقوله الموحدون لأجدن خيرا من هذه الجنة قال الزجاج وهذا يدل على أن صاحبه المؤمن قد أعلمه أن الساعة تقوم وأنه يبعث فأجابه بأن قال له ولئن رددت إلى ربي أي كما أعطاني هذه في الدنيا سيعطيني في الآخرة أفضل منها لكرامتي عليه ظن الجاهل أنه أوتي ما أوتي لكرامته على الله تعالى وقيل معناه لأكتسبن في الآخرة خيرا من هذه التي اكتسبتها في الدنيا ومن قرأ منهما رد الكناية إلى الجنتين اللتين تقدم ذكرهما وفي هذا دلالة على أنه لم يكن قاطعا على نفي المعاد بل كان شاكا فيه.