الآيات 45-49
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ﴿45﴾ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴿46﴾ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ﴿47﴾ وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا ﴿48﴾ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴿49﴾
القراءة:
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ويوم تسير بضم التاء وفتح الياء الجبال رفع والباقون ﴿نسير﴾ بالنون وكسر الياء و﴿الجبال﴾ نصب.
الحجة:
قال أبو علي حجة من بنى الفعل للمفعول به قوله ﴿وسيرت الجبال﴾ وقوله ﴿وإذا الجبال سيرت﴾ ومن قرأ ﴿نسير﴾ فلأنه أشبه بما بعده من قوله ﴿وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا﴾.
اللغة:
الهشيم ما يكسر ويحطم من يبس النبات والذر والتذرية تطيير الريح الأشياء الخفيفة في كل جهة يقال ذرته الريح تذروه وذرته وأذرته وأذريت الرجل عن الدابة إذا ألقيته عنها قال الشاعر:
فقلت له صوب ولا تجهدنه
فيذرك من أخرى القطاة فتزلق
والمغادرة الترك ومنه الغدر لأن ترك الوفاء ومنه الغدير لترك الماء فيه والإشفاق الخوف من وقوع مكروه مع تجويز أن لا يقع وأصله الرقة ومنه الشفق الحمرة الرقيقة التي تكون في السماء وشفقة الإنسان على ولده رقته عليه.
الإعراب:
صفا نصب على الحال أي مصفوفين.
﴿ألن نجعل﴾ أن هذه مخففة من الثقيلة و﴿لن نجعل لكم موعدا﴾ خبره وقال قد كتبت في المصحف اللام مفصولة ولا وجه له.
﴿لا يغادر﴾ في موضع نصب على الحال.
المعنى:
ثم أمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يضرب المثل للدنيا تزهيدا فيها وترغيبا في الآخرة فقال ﴿واضرب﴾ يا محمد ﴿لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض﴾ أي نبت بذلك الماء نبات التف بعضه ببعض يروق حسنا وغضاضة وهذا مفسر في سورة يونس (عليه السلام) ﴿فأصبح هشيما﴾ أي كسيرا مفتتا ﴿تذروه الرياح﴾ فتنقله من موضع إلى موضع فانقلاب الدنيا كانقلاب هذا النبات ﴿وكان الله على كل شيء مقتدرا﴾ أي قادرا لا يجوز عليه المنع قال الحسن أي كان الله مقتدرا على كل شيء قبل كونه قال الزجاج وتأويله أن ما شاهدتم من قدرته ليس بحادث وأنه كذلك كأن لم يزل هذا مذهب سيبويه وقيل إنه إخبار عن الماضي ودلالة على المستقبل وهذا المثل إنما هو للمتكبرين الذين اغتروا بأموالهم واستنكفوا عن مجالسة فقراء المؤمنين أخبرهم الله سبحانه أن ما كان من الدنيا لا يراد الله سبحانه به فهو كالنبت الحسن على المطر لا مادة له فهو يروق ما خالطه ذلك الماء فإذا انقطع عنه عاد هشيما لا ينتفع به ثم قال ﴿المال والبنون زينة الحياة الدنيا﴾ أي يتفاخر بهما ويتزين بهما في الدنيا ولا ينتفع بهما في الآخرة وإنما سماهما زينة لأن في المال جمالا وفي البنين قوة ودفعا فصارا زينة الحياة الدنيا وكلاهما لا يبقى للإنسان فينتفع به في الآخرة ﴿والباقيات الصالحات﴾ وهي الطاعات لله تعالى وجميع الحسنات لأن ثوابها يبقى أبدا عن ابن عباس وقتادة ﴿خير عند ربك ثوابا وخير أملا﴾ أي أفضل ثوابا وأصدق أملا من المال والبنين وسائر زهرات الدنيا فإن من الآمال كواذب وهذا أمل لا يكذب لأن من عمل الطاعة وجد ما يأمله عليها من الثواب وقيل إن الباقيات الصالحات هي ما كان يأتي به سلمان وصهيب وفقراء المسلمين وهو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر عن ابن عباس في رواية عطا ومجاهد وعكرمة وروى أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال لجلسائه خذوا جنتكم قالوا احذر عدو قال خذوا جنتكم من النار قولوا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإنهم المقدمات وهن المجيبات وهن المعقبات وهن الباقيات الصالحات ورواه أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قال ولذكر الله أكبر قال ذكر الله عند ما أحل أو حرم وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال إن عجزتم عن الليل أن تكابدوه وعن العدو أن تجاهدوه فلا تعجزوا عن قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإنهن من الباقيات الصالحات فقولوها وقيل هي الصلوات الخمس عن ابن مسعود وسعيد بن جبير ومسروق والنخعي وروي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) وروي عنه أيضا أن من الباقيات الصالحات القيام بالليل لصلاة الليل وقيل إن الباقيات الصالحات هن البنات الصالحات والأولى حملها على العموم فيدخل فيها جميع الطاعات والخيرات وفي كتاب ابن عقدة أن أبا عبد الله (عليه السلام) قال للحصين بن عبد الرحمن يا حصين لا تستصغر مودتنا فإنها من الباقيات الصالحات قال يا ابن رسول الله ما استصغرها ولكن أحمد الله عليها وإنما سميت الطاعات صالحات لأنها أصلح الأعمال للمكلف من حيث أمر بها ووعد الثواب عليها وتوعد بالعقاب على تركها ﴿ويوم نسير الجبال﴾ قيل إنه يتعلق بما قبله وتقديره والباقيات الصالحات خير ثوابا في هذا اليوم وقيل إنه ابتداء كلام وتقديره واذكر يوم نسير الجبال يعني يوم القيامة، وتسيير الجبال قلعها عن أماكنها فإن الله سبحانه يقلعها ويجعلها هباء منثورا وقيل نسيرها على وجه الأرض كما نسير السحاب في السماء ثم يجعلها كثيبا مهيلا كما قال ﴿يوم ترجف الأرض والجبال﴾ الآية ثم يصيرها كالعهن المنفوش ثم يصيرها هباء منبثا في الهواء كما قال وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا ثم يصيرها بمنزلة السراب كما قال وسيرت الجبال فكانت سرابا ﴿وترى الأرض بارزة﴾ أي ظاهرة ليس عليها شيء من جبل أو بناء أو شجر يسترها عن عيون الناظرين وقيل إن معناه وترى باطن الأرض ظاهرا قد برز من كان في بطنها فصاروا على ظهرها عن عطا وتقديره وترى ما في الأرض بارزا فهو مثل قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ترمي الأرض بأفلاذ كبدها ﴿وحشرناهم﴾ أي وبعثناهم من قبورهم وجمعناهم في الموقف ﴿فلم نغادر منهم أحدا﴾ أي فلم نترك منهم أحدا إلا حشرناه ﴿وعرضوا على ربك﴾ يعني المحشورين يعرضون على الله تعالى يوم القيامة ﴿صفا﴾ أي مصفوفين كل زمرة وأمة صفا وقيل يعرضون صفا بعد صف كالصفوف في الصلاة وقيل يعرضون صفا واحدا لا يحجب بعضهم بعضا ويقال لهم ﴿لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة﴾ معناه لقد جئتمونا ضعفاء فقراء عاجزين في الموضع الذي لا يملك فيه الحكم غيرنا كما كنتم في ابتداء الخلق لا تملكون شيئا وقيل معناه ليس معكم شيء مما اكتسبتموه في الدنيا من الأموال والأولاد والخدم تنتفعون به كما كنتم في أول الخلق وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال يحشر الناس من قبورهم يوم القيامة حفاة عراة غرلا فقالت عائشة يا رسول الله أ ما يستحي بعضهم من بعض فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه ﴿بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا﴾ أي ويقال لهم أيضا بل زعمتم في دار الدنيا أن الله لم يجعل لكم موعدا للبعث والجزاء والحساب يوم القيامة ﴿ووضع الكتاب﴾ أي ووضع الكتب فإن الكتاب اسم جنس والمعنى ووضعت صحائف بني آدم في أيديهم وقيل معناه ووضع الحساب فعبر عن الحساب بالكتاب لأنهم يحاسبون على أعمالهم المكتوبة عن الكلبي ﴿فترى المجرمين مشفقين مما فيه﴾ أي خائفين مما فيه من الأعمال السيئة ﴿ويقولون يا ويلتنا﴾ هذه لفظة يقولها الإنسان إذا وقع في شدة فيدعو على نفسه بالويل والثبور ﴿مال هذا الكتاب﴾ أي أي شيء لهذا الكتاب ﴿لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها﴾ أي لا يترك صغيرة من الذنوب ولا كبيرة إلا عدها وأثبتها وحواها وقد مر تفسير الصغيرة والكبيرة في سورة النساء وأنث الصغيرة والكبيرة بمعنى الفعلة والخصلة ﴿ووجدوا ما عملوا حاضرا﴾ أي مكتوبا في الكتاب مثبتا وقيل معناه وجدوا جزاء ما عملوا حاضرا فجعل وجود الجزاء كوجود الأعمال توسعا ﴿ولا يظلم ربك أحدا﴾ معناه ولا ينقص ربك ثواب محسن ولا يزيد في عقاب مسيء وفي هذا دلالة على أنه سبحانه لا يعاقب الأطفال لأنه إذا كان لا يزيد في عقوبة المذنب فكيف يعاقب من ليس بمذنب.