الآيات 60-64
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ﴿60﴾ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ﴿61﴾ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ﴿62﴾ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ﴿63﴾ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ﴿64﴾
القراءة:
قرأ حفص ﴿وما أنسانيه﴾ بضم الهاء وفي الفتح بما عاهد عليه الله بضم الهاء والباقون بكسر الهاء من غير بلوغ الياء إلا ابن كثير فإنه يثبت الياء في الوصل وقد تقدم القول في وجه ذلك.
اللغة:
لا أبرح أي لا أزال ولو كان معناه لا أزول كان محالا لأنه إذا لم يزل من مكانه لم يقطع أرضا قال الشاعر:
وأبرح ما أدام الله قومي
رخي البال منتطقا مجيدا
أي لا أزال والحقب الدهر والزمان وجمعه أحقاب قال الزجاج: والحقب ثمانون سنة والسرب المسلك والمذهب ومعناه في اللغة المحفور في الأرض لا نفاذ له ويقال للذاهب في الأرض سارب قال الشاعر:
أنى سربت وكنت غير سروب
وتقرب الأحلام غير قريب
والنصب والوصب والتعب نظائر وهو الوهن الذي يكون على الكد.
الإعراب:
﴿سربا﴾ منصوب على وجهين أحدهما أن يكون مفعولا ثانيا لاتخذ كما يقال اتخذت طريقي مكان كذا واتخذت طريقي في السرب والآخر أن يكون مصدرا يدل عليه اتخذ سبيله في البحر فكأنه قال فسرب الحوت سربا وقوله ﴿أن أذكره﴾ في موضع نصب بدل من الهاء في أنسانيه والمعنى وما أنساني أن أذكره إلا الشيطان و﴿عجبا﴾ منصوب على وجهين (أحدهما) أن يكون على قول يوشع اتخذ الحوت سبيله في البحر عجبا (والآخر) أن يكون قال يوشع واتخذ سبيله في البحر فأجابه موسى (عليه السلام) فقال عجبا فكأنه قال أعجب عجبا و﴿قصصا﴾ وضع موضع الحال تقديره يقصان الأثر قصصا والقصص اتباع الأثر وقال أحد المحققين عجبا في موضع حال تقديره قال ذلك متعجبا وقصصا مصدر لفعل مضمر يدل عليه قوله ﴿فارتدا﴾ على آثارهما فإن معناه فاقتصا الأثر.
النزول:
ذكر علي بن إبراهيم في تفسيره قال لما أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قريشا بخبر أصحاب الكهف قالوا أخبرنا عن العالم الذي أمر الله موسى (عليه السلام) أن يتبعه من هو كيف تبعه وما قصته فأنزل الله تعالى.
المعنى:
﴿وإذ قال موسى لفتاه﴾ أكثر المفسرين على أنه موسى بن عمران وفتاه يوشع بن نون وسماه فتاه لأنه صحبه ولازمه سفرا وحضرا للتعلم منه وقيل لأنه كان يخدمه ولهذا قال له ﴿آتنا غداءنا﴾ وهو يوشع بن نون بن أفراثيم بن يوسف بن يعقوب وقال محمد بن إسحاق يقول أهل الكتاب إن موسى الذي طلب الخضر هو موسى بن ميشا بن يوسف وكان نبيا في بني إسرائيل قبل موسى بن عمران إلا أن الذي عليه الجمهور أنه موسى بن عمران ولأن إطلاقه يوجب صرفه إلى موسى بن عمران كما أن إطلاق محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ينصرف إلى نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) قال علي بن إبراهيم حدثني محمد بن علي بن بلال قال اختلف يونس وهشام بن إبراهيم في العالم الذي أتاه موسى أيهما كان أعلم وهل يجوز أن يكون على موسى حجة في وقته وهو حجة الله على خلقه فكتبوا إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) يسألونه عن ذلك فكتب في الجواب أتى موسى العالم فأصابه في جزيرة من جزائر البحر فسلم عليه موسى فأنكر السلام إذ كان بأرض ليس بها سلام قال من أنت قال أنا موسى بن عمران قال أنت موسى بن عمران الذي كلمه الله تكليما قال نعم قال فما حاجتك قال جئت لتعلمني مما علمت رشدا قال إني وكلت بأمر لا تطيقه ووكلت بأمر لا أطيقه الخبر بطوله ﴿لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين﴾ معناه لا أزال أمضي وأمشي ولا أسلك طريقا آخر حتى أبلغ ملتقى البحرين بحر فارس وبحر الروم ومما يلي المغرب بحر الروم ومما يلي المشرق بحر فارس عن قتادة وقال محمد بن كعب هو طنجة وروي عنه إفريقية وكان وعد أن يلقى عنده الخضر ﴿أو أمضي حقبا﴾ أي دهرا عن ابن عباس وقيل سبعين سنة عن مجاهد وقيل ثمانين سنة عن عبد الله بن عمر ﴿فلما بلغا مجمع بينهما﴾ أي فلما بلغ الموضع الذي يجتمع فيه رأس البحرين ﴿نسيا حوتهما﴾ أي تركاه وقيل إنه ضل الحوت عنهما حين اتخذ سبيله في البحر سربا فسمي ضلاله عنهما نسيانا منهما له وقيل إنه من النسيان والناسي له كان أحدهما وهو يوشع، فأضيف النسيان إليهما كما يقال نسي القوم زادهم إذا نسيه متعهد أمرهم وقيل إن النسيان وجد منهما جميعا فإن يوشع نسي أن يحمل الحوت أو أن يذكر موسى ما قد رأى من أمره ونسي موسى أن يأمره فيه بشيء فصار كل واحد منهما ناسيا لغيره ما نسيه الآخر وقوله ﴿فاتخذ سبيله في البحر سربا﴾ أي فاتخذ الحوت طريقه في البحر مسلكا يذهب فيه وذلك أن موسى وفتاه تزودا حوتا مملوحا عن ابن عباس وقيل حوتا طريا عن الحسن ثم انطلقا يمشيان على شاطىء البحر حتى انتهيا إلى صخرة على ساحل البحر فأويا إليها وعنده عين ماء تسمى عين الحياة فجلس يوشع بن نون وتوضأ من تلك العين فانتضح على الحوت شيء من ذلك الماء فعاش ووثب في الماء وجعل يضرب بذنبه الماء فكان لا يسلك طريقا في البحر إلا صار الماء جامدا فذلك معنى قوله ﴿فاتخذ سبيله في البحر سربا﴾ ﴿فلما جاوزا﴾ ذلك المكان ﴿قال﴾ موسى ﴿لفتاه آتنا غداءنا﴾ قيل إنهما انطلقا بقية يومهما وليلتهما فلما كان من الغد قال موسى ليوشع آتنا غداءنا أي أعطنا ما نتغدى به والغداء طعام الغداة والعشاء طعام العشي والإنسان إلى الغداء أشد حاجة منه إلى العشاء ﴿لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا﴾ أي تعبا وشدة قالوا إن الله تعالى ألقى على موسى الجوع ليتذكر حديث الحوت ﴿قال﴾ له يوشع عند ذلك ﴿أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت﴾ ومعناه أن يوشع تذكر قصة الحوت لما دعا موسى بالطعام ليأكل فقال له أرأيت حين رجعنا إلى الصخرة ونزلنا هناك فإني تركت الحوت وفقدته وقيل نسيته ونسيت حديثه وقيل فيه إضمار أي نسيت أن أذكر لك أمر الحوت ثم اعتذر فقال ﴿وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره﴾ وذلك أنه لو ذكر لموسى (عليه السلام) قصة الحوت عند الصخرة لما جاوزها موسى ولما ناله النصب الذي أشكاه ولم يلق في سفره النصب إلا يومئذ ﴿واتخذ سبيله في البحر عجبا﴾ أي سبيلا عجبا وهو أن الماء انجاب عنه وبقي كالكوة لم يلتئم وقيل إن كلام يوشع قد انقطع عند قوله ﴿واتخذ سبيله في البحر﴾ فقال موسى عند ذلك عجبا كيف كان ذاك وقيل إن معناه واتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبا عن ابن عباس والمعنى دخل موسى الكوة على إثر الحوت فإذا هو بالخضر ﴿قال ذلك ما كنا نبغ﴾ قال موسى (عليه السلام) ذلك ما كنا نطلب من العلامة ﴿فارتدا على آثارهما﴾ أي رجعا وعادا عودهما على بدئهما في الطريق الذي جاءا منه يقصان آثارهما ﴿قصصا﴾ أي ويتبعانها ويوشع أمام موسى (عليه السلام) حتى انتهيا إلى مدخل الحوت.
القصة:
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال أخبرني أبي بن كعب قال خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم قال أنا فعتب الله عليه إذا لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى يا رب فكيف لي به قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر واتخذ سبيله في البحر سربا وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله تعالى به فقال فتاه ﴿أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة﴾ الآية قال وكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا فقال موسى ﴿ذلك ما كنا نبغ﴾ الآية قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فوجدا رجلا مسجى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر وأنى بإرضك السلام قال أنا موسى قال موسى بني إسرائيل قال نعم أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على علم من علم الله لا تعلمه علمنيه وأنت على علم من علم الله علمك لا أعلمه أنا فقال له موسى ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا فقال له الخضر فإن اتبعتني فلا تسئلني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة وكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوه بغير قول فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم فقال له موسى قوم قد حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا قال وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت الأولى من موسى (عليه السلام) نسيانا وقال وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة فقال له الخضر ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه بيده فأقلعه فقتله فقال له موسى أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا قال وهذه أشد من الأولى قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني إلى قوله يريد أن ينقض كان مائلا فقال الخضر (عليه السلام) بيده فأقامه فقال موسى (عليه السلام) قوم قد أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص علينا من خبرهما قال سعيد بن جبير كان ابن عباس يقرأ وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا وكان يقرأ وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين رواه البخاري ومسلم في الصحيحين وروى أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) أيضا أنه كان يقرأ كل سفينة صالحة غصبا وروي ذلك أيضا عن أبي جعفر قال وهي قراءة أمير المؤمنين (عليه السلام).