الآيات 65-75
فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ﴿65﴾ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ﴿66﴾ قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴿67﴾ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ﴿68﴾ قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ﴿69﴾ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ﴿70﴾ فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ﴿71﴾ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴿72﴾ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ﴿73﴾ فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا ﴿74﴾ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا ﴿75﴾
القراءة:
قرأ أبو عمرو ويعقوب رشدا بالفتح والباقون ﴿رشدا﴾ بضم الراء وسكون الشين وقرأ فلا تسئلني مشددة النون مدني شامي والباقون خفيفة النون ولم يخالفوا في إثبات الياء فيه وصلا ووقفا لأنها مثبتة في جميع المصاحف وقرأ ليغرق بفتح الياء والراء أهلها بالرفع كوفي غير عاصم والباقون ﴿لتغرق﴾ بضم التاء ﴿أهلها﴾ بالنصب وقرأ ﴿زكية﴾ بغير ألف كوفي وشامي وسهل والباقون زاكية وقرأ نكرا بضمتين مدني غير إسماعيل وأبو بكر ويعقوب وسهل وابن ذكوان والباقون ﴿نكرا﴾ ساكنة الكاف.
الحجة:
قال أبو علي الرشد والرشد لغتان وقد أجرى العرب كل واحد منهما مجرى الآخر فقالوا أسد وأسد وخشب وخشب فجمعوا فعلا على فعل ثم فعلا أيضا على فعل وذلك قوله والفلك التي تجري في البحر وفي آية أخرى في الفلك المشحون فهذا يدلك على أنهم أجروهما مجرى واحد ومن قرأ فلا تسئلني بالتشديد فإنه لما أدخل النون الثقيلة بني الفعل معها على الفتح قال والقراءة بالتاء في ﴿لتغرق﴾ أولى ليكون الفعل مسندا إلى المخاطب كما كان المعطوف عليه كذلك وهو أ خرقتها وهذا يأتي في معنى الياء أيضا لأنهم إذا أغرقهم غرقوا وقوله ﴿نكرا﴾ فعل وهو من أمثلة الصفات قالوا ناقة أجد ومشية سحج فمن خفف ذلك كما يخفف نحو العنق والطنب والشغل فالتخفيف فيه مستمر.
اللغة:
الأمر الداهية العظيمة قال الشاعر:
لقد لقي الأقران مني نكرا
داهية دهياء إدا إمرا
وهو مأخوذ من الأمر لأنه الفاسد الذي يحتاج أن يؤمر بتركه إلى الصلاح ومنه رجل إمر إذا كان ضعيف الرأي لأنه يحتاج أن يؤمر حتى يقوى رأيه ومنه أمر القوم أي كثروا ومعناه احتاجوا إلى من يأمرهم وينهاهم ومنه الأمر من الأمور أي الشيء الذي من شأنه أن يؤمر فيه.
الإعراب:
قوله ﴿رشدا﴾ يجوز أن ينتصب على أنه مفعول له ويكون المعنى هل أتبعك للرشد أو لطلب الرشد على أن تعلمني فيكون ﴿على أن تعلمن﴾ حالا من قوله ﴿أتبعك﴾ ويجوز أن يكون قوله ﴿رشدا﴾ مفعولا به وتقديره أتبعك على أن تعلمني رشدا مما علمته ويكون العلم الذي يتعدى إلى مفعول واحد فيتعدى بتضعيف العين إلى مفعولين والمعنى على أن تعلمني أمرا ذا رشد وعلما ذا رشد أو خبرا نصب على المصدر والمعنى لم يخبره خبرا.
المعنى:
﴿فوجدا عبدا من عبادنا﴾ أي صادف موسى وفتاه وأدركا عبدا من عبادنا قائما على الصخرة يصلي وهو الخضر (عليه السلام) واسمه بليا بن ملكان وإنما سمي خضرا لأنه إذا صلى في مكان أخضر ما حوله وروي مرفوعا أنه قعد على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء وقيل إنه رآه على طنفسة خضراء فسلم عليه فقال وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل فقال له موسى وما أدراك من أنا ومن أخبرك أني نبي قال من دلك علي واختلف في هذا العبد فقال بعضهم إنه كان ملكا أمر الله تعالى موسى أن يأخذ عنه ما حمله إياه من علم بواطن الأشياء وقال الأكثرون إنه كان من البشر ثم اختلفوا فقال الجبائي وغيره أنه كان نبيا لأنه لا يجوز أن يتبع النبي من ليس بنبي ليتعلم منه العلم لما في ذلك من الغضاضة على النبي وكان ابن الإخشيد يجوز أن لا يكون نبيا ويكون عبدا صالحا أودعه الله من علم باطن الأمور ما لم يودعه غيره وهذا ليس بالوجه ومتى قيل كيف يكون نبي أعلم من موسى في وقته قلنا يجوز أن يكون الخضر خص بعلم ما لا يتعلق بالأداء فاستعلم موسى من جهته ذلك العلم فقط وإن كان موسى أعلم منه في العلوم التي يؤديها من قبل الله تعالى ﴿آتيناه رحمة من عندنا﴾ يعني النبوة وقيل طول الحياة ﴿وعلمناه من لدنا علما﴾ أي علما من علم الغيب عن ابن عباس وقال الصادق (عليه السلام) كان عنده علم لم يكتب لموسى (عليه السلام) في الألواح وكان موسى يظن أن جميع الأشياء التي يحتاج إليها في تابوته وأن جميع العلم قد كتب له في الألواح ﴿قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا﴾ أي علما ذا رشد قال قتادة لو كان أحد مكتفيا من العلم لاكتفى نجي الله موسى ولكنه قال ﴿هل أتبعك﴾ الآية عظمه (عليه السلام) بهذا القول غاية التعظيم حيث أضاف العلم إليه ورضي باتباعه وخاطبه بمثل هذا الخطاب والرشد العلوم الدينية التي ترشد إلى الحق وقيل هو علوم الألطاف الدينية التي تخفى على الناس ﴿قال﴾ العالم ﴿إنك لن تستطيع معي صبرا﴾ أي يثقل عليك الصبر ولا يخف عليك ولم يرد أنه لا يقدر على الصبر وإنما قال ذلك لأن موسى (عليه السلام) كان يأخذ الأمور على ظواهرها والخضر كان يحكم بما علمه الله من بواطنها فلا يسهل على موسى مشاهدة ذلك ثم قال ﴿وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا﴾ أي كيف تصبر على ما ظاهره عندك منكر وأنت لم تعرف باطنه ولم تعلم حقيقته والخبر العلم وفي هذا دلالة على أنه لم يرد بقوله ﴿لن تستطيع معي صبرا﴾ نفي الاستطاعة للصبر لأنه لو أراد ذلك لكان لا يستطيع الصبر سواء علم أو لم يعلم ﴿قال﴾ موسى ﴿ستجدني إن شاء الله صابرا﴾ أي اصبر على ما أرى منك ﴿ولا أعصي لك أمرا﴾ تأمرني به ولا أخالفك فيه قال الزجاج: وفيما فعله موسى (عليه السلام) وهو من جملة الأنبياء من طلب العلم والرحلة فيه ما يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم وإن كان قد بلغ نهايته وأنه يجب أن يتواضع لمن هو أعلم منه وإنما قيد (عليه السلام) صبره بمشيئة الله لأنه أخبر به على ظاهر الحال فجوز أن لا يصبر فيما بعد بأن يعجز عنه فقال إن شاء الله ليخرج بذلك من أن يكون كاذبا ﴿قال﴾ الخضر له ﴿فإن اتبعتني﴾ واقتفيت أثري ﴿فلا تسئلني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا﴾ أي لا تسألني عن شيء أفعله مما تنكره ولا تعلم باطنه حتى أكون أنا الذي أفسره لك ﴿فانطلقا﴾ يمشيان على شاطىء البحر ﴿حتى إذا ركبا في السفينة خرقها﴾ ومعناه أنهما أرادا أن يعبرا في البحر إلى أرض أخرى فأتيا معبرا فعرف صاحب السفينة الخضر (عليه السلام) فحملهما فلما ركبا في السفينة خرق الخضر (عليه السلام) السفينة أي شقها حتى دخلها الماء وقيل إنه قلع لوحين مما يلي الماء فحشاهما موسى (عليه السلام) بثوبه و﴿قال﴾ منكرا عليه ﴿أخرقتها لتغرق أهلها﴾ ولم يقل لنغرق وإن كان في غرقها غرق جميعهم لأنه أشفق على القوم أكثر من إشفاقه على نفسه جريا على عادة الأنبياء ثم قال بعد إنكاره ذلك ﴿لقد جئت شيئا إمرا﴾ أي منكرا عظيما يقال أمر الأمر أمرا إذا كبر والأمر الاسم منه ف ﴿قال﴾ له الخضر ﴿ألم أقل﴾ لك ﴿إنك لن تستطيع معي صبرا﴾ أي ألم أقل حين رغبت في اتباعي إن نفسك لا تطاوعك على الصبر معي فتذكر موسى ما بذل له من الشرط ثم ﴿قال﴾ معتذرا مستقيلا ﴿لا تؤاخذني بما نسيت﴾ أي غفلت من التسليم لك وترك الإنكار عليك وهو من النسيان الذي هو ضد الذكر وروي عن أبي ابن كعب قال إنه لم ينس ولكنه من معاريض الكلام وقيل بما تركت من وصيتك وعهدك عن ابن عباس وعلى هذا فيكون من النسيان بمعنى الترك لا بمعنى الغفلة والسهو ﴿ولا ترهقني من أمري عسرا﴾ أي لا تكلفني مشقة تقول أرهقته عسرا إذا كلفته ذاك والمعنى عاملني باليسر ولا تعاملني بالعسر ولا تضيق علي الأمر في صحبتي إياك ﴿فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله﴾ ومعناه فخرجا من البحر وانطلقا يمشيان في البر يعني موسى والخضر ولم يذكر يوشع لأنه كان تابعا لموسى أو كان قد تأخر عنهما وهو الأظهر لاختصاص موسى بالنبوة واجتماعه مع الخضر (عليه السلام) في البحر فلقيا غلاما يلعب مع الصبيان فذبحه بالسكين عن سعيد بن جبير وكان من أحسن أولئك الغلمان وأصبحهم وقيل صرعه ثم نزع رأسه من جسده وقيل ضربه برجله فقتله وقال الأصم كان شابا بالغا لأن غير البالغ لا يستحق القتل وقد يسمى الرجل غلاما قالت ليلى الأخيلية:
شفاها من العضال الذي بها
غلام إذا هز القناة سقاها
﴿قال أقتلت نفسا زكية﴾ أي طاهرة من الذنوب وزكية بريئة من الذنوب وقيل الزاكية التي لم تذنب والزكية التي أذنبت ثم تابت حكي ذلك عن أبي عمرو بن العلاء وقيل الزكية أشد مبالغة من الزاكية عن تغلب وقيل الزاكية في البدن والزكية في الدين ﴿بغير نفس﴾ أي بغير قتل نفس يريد القود ﴿لقد جئت شيئا نكرا﴾ أي قطعيا منكرا لا يعرف في شرع والمنكر أشد من الأمر عن قتادة وإنما قال ذلك لأن قلبه صار كالمغلوب عليه حين رأى قتله ﴿قال﴾ العالم ﴿ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا﴾ أعاد هذا القول لتأكيد الأمر عليه والتحقيق لما قاله أولا مع النهي عن العود بمثل سؤاله.