الآيات 83-87

وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا ﴿83﴾ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ﴿84﴾ فَأَتْبَعَ سَبَبًا ﴿85﴾ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ﴿86﴾ قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا ﴿87﴾

القراءة:

قرأ ابن عامر وأهل الكوفة ﴿فأتبع﴾ ثم أتبع بهمزة القطع وفتحها وتخفيف التاء وسكونها والباقون فاتبع بهمزة الوصل وتشديد التاء وفتحها وقرأ أبو جعفر وابن عامر وأهل الكوفة غير حفص حامية والباقون ﴿حمئة﴾ بغير ألف مهموز.

الحجة:

قال أبو علي: تبع فعل يتعدى إلى مفعول واحد فإذا نقلته بالهمزة تعدى إلى مفعولين يدلك على ذلك قوله وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة وأما اتبع فإنه افتعل يتعدى إلى مفعول واحد كما يتعدى فعل إليه مثل حفرته واحتفرته وشويته واشتويته ومن قرأ ﴿فأتبع سببا﴾ تقديره فأتبع سببا سببا أو أتبع أمره سببا أو أتبع ما هو عليه سببا فحذف أحد المفعولين كما حذف في قوله لينذر بأسا شديدا ولا يكادون يفقهون قولا والمعنى لينذر الناس بأسا شديدا ولا يكادون يفقهون أحدا قولا ومن قرأ فاتبع سببا فالمعنى اتجه في كل وجه وجهناه له وأمرناه به السبب الذي ينال به صلاح ما مكن منه وقال أبو عبيدة: معناه اتبع طريقا وأثرا ومن قرأ ﴿حمئة﴾ فعلى فعلة ومن قرأ حامية فهي فاعلة من حيث تحمي فهي حامية وروي عن الحسن أنه قال: حارة ويجوز فيمن قرأ حامية أن يكون فاعلة من الحماة فخفف الهمزة على قياس قول أبي الحسن فيقلبها ياء محضة وإن خففها على قول الخليل كانت بين بين قال سيبويه: وهو قول العرب.

اللغة:

القرن قرن الشاة وغيرها وقرون الشعر الذوائب ومنه قول أبي سفيان:

ولا الروم ذوات القرون أراد قرون شعورهم لأنهم كانوا يطولونه والذكر حضور المعنى للنفس وقد يكون بالقلب وهو التفكر وقد يكون باللسان وكل ما وصل شيئا إلى شي‏ء فهو سبب يقال للطريق إلى الشي‏ء سبب وللحبل سبب وللباب سبب والحمأة الطين الأسود يقال حمئت البئر تحمأ فهي حمئة إذا صار فيها الحمأة قال أبو الأسود:

تجي‏ء بملئها طورا وطورا

تجي‏ء بحماة وقليل ماء

وحمأت البئر أخرجت منه الحمأة وأحمأتها ألقيت فيها الحمأة.

الإعراب:

﴿إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا﴾ أن مع الفعل في موضع نصب بفعل مضمر كما أن قوله فإما منا بعد وإما فداء كذلك ويجوز أن يكون أن مع الفعل في موضع المبتدأ والخبر مضمر أي إما العذاب واقع منك فيهم وإما اتخاذ أمر ذي حسن واقع منك فيهم فحذف الخبر لطول الكلام بالصلة وهذا أظهر والأول عن أحمد بن يحيى.

المعنى:

ثم بين سبحانه قصة ذي القرنين فقال ﴿ويسألونك﴾ يا محمد ﴿عن ذي القرنين﴾ أي عن خبره وقصته لا عن شخصه واختلف فيه فقيل إنه نبي مبعوث فتح الله على يديه الأرض عن مجاهد وعبد الله بن عمر وقيل إنه كان ملكا عادلا وروي عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه كان عبدا صالحا أحب الله وأحبه الله وناصح الله وناصحه قد أمر قومه بتقوى الله فضربوه على قرنه ضربة بالسيف فغاب عنهم ما شاء الله ثم رجع إليهم فدعاهم إلى الله فضربوه على قرنه الآخر بالسيف فذلك قرناه وفيكم مثله يعني نفسه (عليه السلام) وفي سبب تسميته بذي القرنين أقوال أخر (منها) أنه سمي به لأنه كانت له ضفيرتان عن الحسن (و منها) أنه كان على رأسه شبه القرنين تواريه العمامة عن يعلى بن عبيد ومنها أنه بلغ قطري الأرض من المشرق والمغرب فسمي بذلك لاستيلائه على قرن الشمس من مغربها وقرنها من مطلعها عن الزهري واختاره الزجاج (ومنها) أنه رأى في منامه أنه دنى من الشمس حتى أخذ بقرنيها في شرقها وغربها فقص رؤياه على قومه فسموه ذا القرنين عن وهب (ومنها) أنه عاش عيش قرنين فانقرض في وقته قرنان من الناس وهو حي (ومنها) أنه كان كريم الطرفين من أهل بيت الشرف من قبل أبيه وأمه قال معاذ بن جبل كان من أبناء الروم واسمه الإسكندر وهو الذي بنى الإسكندرية ﴿قل سأتلو عليكم منه ذكرا﴾ معناه قل يا محمد سأقرأ عليكم منه خبرا وقصة ﴿إنا مكنا له في الأرض﴾ أي بسطنا يده في الأرض وملكناه حتى استولى عليها وقام بمصالحها وروي عن علي (عليه السلام) أنه قال سخر الله له السحاب فحمله عليها ومد له في الأسباب وبسط له النور فكان الليل والنهار عليه سواء فهذا معنى تمكينه في الأرض وهو أنه سهل عليه المسير فيها وذلل له طريقها وحزونها حتى تمكن منها أنى شاء ﴿وآتيناه من كل شي‏ء سببا﴾ أي فأعطيناه من كل شي‏ء علما يتسبب به إلى إرادته ويبلغ به إلى حاجته عن ابن عباس وقتادة والضحاك وقيل معناه وآتيناه من كل شي‏ء يستعين به الملوك على فتح البلاد ومحاربة الأعداء عن الجبائي وقيل معناه وآتيناه من كل شي‏ء سبيلا كما قال سبحانه لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات أي سبلها ﴿فاتبع سببا﴾ معناه فاتبع طريقا واحدا في سلوكه قال الزجاج: معناه فاتبع سببا من الأسباب التي أوتي بها وذلك أنه أوتي من كل شي‏ء سببا فاتبع من تلك الأسباب التي أوتي سببا في المسير إلى المغرب ومن قرأ فأتبع سببا فمعناه لحق كقوله فأتبعه الشيطان والأصل فيه ما مر ذكره في الحجة ﴿حتى إذا بلغ مغرب الشمس﴾ أي موضع غروبها أنه انتهى إلى آخر العمارة من جانب المغرب وبلغ قوما لم يكن وراءهم أحد إلى موضع غروب الشمس ولم يرد بذلك أنه بلغ إلى موضع الغروب لأنه لا يصل إليه أحد ﴿وجدها تغرب﴾ معناه وجدها كأنها تغرب ﴿في عين حمئة﴾ وإن كانت تغرب في ورائها عن الجبائي وابن مسلم والبلخي لأن الشمس لا تزايل الفلك ولا تدخل عين الماء ولأنه قال ﴿وجد عندها قوما﴾ ولكن لما بلغ ذو القرنين ذلك الموضع تراءى له كان الشمس تغرب في عين كما أن من كان في البحر رآها كأنها تغرب في الماء ومن كان في البر يراها كأنها تغرب في الأرض الملساء والعين الحمئة هي ذات الحمأة وهي الطين الأسود المنتن والحامية الحارة وعن كعب قال: أجدها في التوراة تغرب في ماء وطين وقوله ﴿ووجد عندها قوما﴾ معناه ووجد عند العين ناسا ﴿قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا﴾ في هذا دلالة على أن القوم كانوا كفارا والمعنى إما أن تعذب بالقتل من أقام منهم على الشرك وإما أن تأسرهم وتمسكهم بعد الأمر لتعلمهم الهدى وتستنقذهم من العمى وقيل معناه وإما أن تعفو عنهم واستدل من ذهب إلى أن ذا القرنين كان نبيا بهذا قال لأن أمر الله تعالى لا يعلم إلا بالوحي والوحي لا يجوز إلا على الأنبياء وقال الكلبي: إن الله تعالى ألهمه ولم يوح إليه وقال ابن الأنباري: إن كان ذو القرنين نبيا فإن الله تعالى قال له كما يقول للأنبياء إما بتكليم أو بوحي وإن لم يكن نبيا فإن معنى قلنا ألهمنا لأن الإلهام ينوب عن الوحي قال سبحانه وأوحينا إلى أم موسى أي وألهمناها قال قتادة فقضى ذو القرنين فيهم بقضاء الله تعالى وكان عالما بالسياسة ﴿قال أما من ظلم﴾ أي أشرك عن ابن عباس ﴿فسوف نعذبه﴾ أي نقتله إذا لم يرجع عن الشرك ﴿ثم يرد إلى ربه﴾ بعد قتلي إياه ﴿فيعذبه عذابا نكرا﴾ أي منكرا غير معهود يعني في النار وهو أشد من القتل في الدنيا.