الآيات 11-15

وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿11﴾ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴿12﴾ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿13﴾ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿14﴾ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ﴿15﴾

اللغة:

القص اتباع الأثر ومنه القصص في الحديث لأنه يتبع فيه الثاني الأول والقصاص اتباع الجاني في الأخذ بمثل جنايته في النفس فبصر به رآه فبصر لا يتعدى إلا بحرف الجر ورأى يتعدى بنفسه ومعنى بصرت به عن جنب أبصرته عن جنابة أي عن بعد قال الأعشى:

أتيت حريثا زائرا عن جنابة

وكان حريث عن عطائي جامدا

وقيل جنب صفة وقعت موقع الموصوف أي عن مكان جنب والمراضع جمع مرضعة والنصح إخلاص العمل من جانب الفساد وهو نقيض الغش والوكز الدفع وقيل هو بجمع الكف ومثله اللكز واللهز.

الإعراب:

﴿عن جنب﴾ الجار والمجرور في موضع نصب على الحال وتقديره فبصرت به بعيدة وإن جعلت جنبا صفة على تقدير من مكان جنب فهو في موضع نصب بأنه ظرف مكان ﴿هذا من شيعته وهذا من عدوه﴾ جملتان في محل النصب لأنهما صفة رجلين صفة بعد صفة.

المعنى:

ثم ذكر سبحانه لطف صنعه في تسخيره لفرعون حتى تولى تربية موسى فقال ﴿وقالت﴾ يعني أم موسى ﴿لأخته﴾ يعني أخت موسى واسمها كلثمة عن الضحاك ﴿قصيه﴾ أي اتبعي أثره وتعرفي خبره ﴿فبصرت به عن جنب﴾ في الكلام حذف واقتصار تقديره فذهبت أخت موسى فوجدت آل فرعون قد أخرجوا التابوت وأخرجوا موسى فبصرت به وهذا من الإيجاز الدال على الإعجاز باللفظ القليل المعنى على المعنى الكثير أي فرأت أخاها موسى عن جنب أي عن بعد عن مجاهد وقيل عن جانب تنظر إليه كأنها لا تريده عن قتادة وتقديره عن مكان جنب ﴿وهم لا يشعرون﴾ أي وآل فرعون لا يشعرون أنها أخته عن قتادة وقيل معناه وهم لا يشعرون أنها جاءت متعرفة عن خبره ويمكن أن يكون سبحانه كرر هذا القول تنبيها على أن فرعون لو كان إلها لكان يشعر بهذه الأمور ﴿وحرمنا عليه المراضع﴾ المعنى أنه لا يؤتى بمرضع فيقبلها وتأويله منعناهن منه وبغضناهن إليه عن ابن عباس وقيل هو جمع مرضع بمعنى الرضاع أي منعناه من الرضاع فهذا تحريم منع لا أن هناك نهيا عن الفعل ومثله قول امرىء القيس:

جالت لتصرعني فقلت لها اقصري

إني امرؤ صرعي عليك حرام

أي صرعي ممتنع عليك فإني فارس أمنعك من ذلك ويقال فلان حرم على نفسه كذا أي امتنع منه كما يمتنع بالنهي ﴿من قبل﴾ أي من قبل مجيء أخته وقيل من قبل رده على أمه ﴿فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم﴾ وهذا يدل على أن الله تعالى ألقى محبته في قلب فرعون فلشدة محبته وغاية شفقته عليه طلب له المراضع وكان موسى لا يقبل ثدي واحدة منهن بعد أن أتته مرضع بعد مرضع فلما رأت أخته وجدهم به وحبهم له ورقتهم عليه قالت لهم هل أدلكم على أهل بيت يقبلون هذا الولد ويبذلون النصح في أمره ويحسنون تربيته ويضمنون لكم القيام بأمره ﴿وهم له ناصحون﴾ يشفقون عليه وينصحونه وقيل أنه لما قالت أخته ذلك قال هامان إن هذه المرأة تعرف أن هذا الولد من أي أهل بيت هو فقالت هي إنما عنيت أنهم ناصحون للملك فأمسكوا عنها ﴿فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن﴾ يعني عين أمه وانطلقت أخت موسى إلى أمها فجاءت بها إليهم فلما وجد موسى ريح أمه قبل ثديها وسكن بكاؤه وقيل إن فرعون قال لأمه كيف ارتضع منك ولم يرتضع من غيرك فقالت لأني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أكاد أوتي بصبي إلا ارتضع مني فسر فرعون بذلك ﴿ولتعلم أن وعد الله حق﴾ أراد به ما وعدها الله به في الآية المتقدمة لقوله إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ﴿ولكن أكثرهم لا يعلمون﴾ تحقيق ذلك الوعد كما علمت ﴿ولما بلغ أشده﴾ أي ثلاثا وثلاثين سنة ﴿واستوى﴾ أي بلغ أربعين سنة عن مجاهد وقتادة وابن عباس ﴿آتيناه حكما وعلما﴾ أي فقها وعلما وعقلا بدينه ودين آبائه فعلم موسى وحكم قبل أن يبعث نبيا وقيل نبوة وعلما عن السدي ﴿وكذلك نجزي المحسنين﴾ وهذه الآية مفسرة في سورة يوسف ﴿ودخل المدينة﴾ يريد مصر وقيل مدينة منف من أرض مصر وقيل على فرسخين من أرض مصر ﴿على حين غفلة من أهلها﴾ أراد به نصف النهار والناس قائلون عن سعيد بن جبير وقيل ما بين المغرب والعشاء الآخرة عن ابن عباس وقيل كان يوم عيد لهم وقد اشتغلوا بلعبهم عن الحسن وقيل اختلفوا في سبب دخوله المدينة في هذا الوقت على أقوال (أحدها) أنه كان موسى حين كبر يركب في مواكب فرعون فلما جاء ذات يوم قيل له إن فرعون قد ركب فركب في أثره فلما كان وقت القائلة دخل المدينة ليقيل عن السدي (والثاني) أن بني إسرائيل كانوا يجتمعون إلى موسى ويسمعون كلامه ولما بلغ أشده خالف قوم فرعون فاشتهر ذلك منه وأخافوه فكان لا يدخل مصر إلا خائفا فدخلها على حين غفلة عن ابن إسحاق (والثالث) أن فرعون أمر بإخراجه من البلد فلم يدخل إلا الآن عن ابن زيد ﴿فوجد فيها رجلين يقتتلان﴾ أي يختصمان في الدين عن الجبائي وقيل في أمر الدنيا ﴿هذا من شيعته وهذا من عدوه﴾ أي أحدهما إسرائيلي والآخر قبطي يسخر الإسرائيلي ليحمل حطبا إلى مطبخ فرعون وقيل كان أحدهما مسلما والآخر كافرا عن محمد بن إسحاق ﴿فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه﴾ أي استنصره لينصره عليه وروى أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال ليهنكم الاسم قال قلت وما الاسم قال الشيعة قال أما سمعت الله سبحانه يقول فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ﴿فوكزه موسى﴾ أي دفع في صدره بجمع كفه عن مجاهد وقيل ضربه بعصاه عن قتادة ﴿فقضى عليه﴾ أي فقتله وفرغ من أمره ﴿قال هذا من عمل الشيطان﴾ أي بسببه حتى هيج غضبي فضربته فهو من إغرائه قال الحسن لم يكن يحل قتل الكافر يومئذ لأن الحال كانت حال الكف عن القتال وقيل معناه أن الأمر الذي وقع القتل بسببه من عمل الشيطان أي حصل بوسوسة الشيطان وذكر المرتضى قدس الله روحه فيه وجهين آخرين (أحدهما) أنه أراد أن تزيين قتلي له وتركي لما ندبت إليه من تأخيره وتفويتي ما استحقه عليه من الثواب من عمل الشيطان (والآخر) أنه يريد أن عمل المقتول من عمل الشيطان يبين بذلك أنه مخالف لله تعالى مستحق للقتل ثم وصف الشيطان فقال ﴿إنه عدو﴾ لبني آدم ﴿مضل مبين﴾ ظاهر العداوة والإضلال (سؤال) قالوا إن هذا القتل لا يخلو من أن يكون مستحقا أو غير مستحق فإن كان غير مستحق فالأنبياء (عليهم السلام) لا يجوز عليهم ذلك عندكم لا قبل النبوة ولا بعدها وإن كان مستحقا فلا معنى لندمه عليه واستغفاره منه (والجواب) أن القتل إنما وقع على سبيل تخليص المؤمن من يد من أراد ظلمه والبغي عليه ودفع مكروهه عنه ولم يكن مقصودا في نفسه وكل ألم وقع على هذا الوجه فهو حسن غير قبيح سواء كان القاتل مدافعا عن نفسه أو عن غيره وسنذكر الوجه في استغفاره منه وندمه عليه.