الآيات 56-60
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴿56﴾ وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿57﴾ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ﴿58﴾ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴿59﴾ وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿60﴾
القراءة:
قرأ أهل المدينة ويعقوب وسهل تجبي بالتاء والباقون بالياء وقرأ أبو عمرو ﴿أفلا تعقلون﴾ بالياء والتاء كيف شئت والباقون بالتاء.
الحجة:
قال أبو علي تأنيث ثمرات جمع وليس بتأنيث حقيقي فيكون بمنزلة الوعظ والموعظة والصوت والصيحة إذا ذكرت جاز وإذا أنثت جاز وحجة من قرأ ﴿أفلا تعقلون﴾ بالتاء قوله ﴿وما أوتيتم﴾ والياء على أفلا يعقلون يا محمد.
اللغة:
التخطف أخذ الشيء على وجه الاستلاب من كل وجه يقال تخطفه تخطفا واختطفه اختطافا وخطفه يخطفه خطفا قال امرؤ القيس:
تخطف خزان الأنيعم بالضحى
وقد حجرت منها ثعالب أورال
يجبى من جبيت الماء في الحوض أي جمعته والجابية الحوض والبطر الطغيان عند النعمة قال ابن الأعرابي البطر سوء احتمال الغنى وقيل إن أصله من قولهم ذهب دمه بطرا أي باطلا عن الكسائي وقيل هو أن يتكبر عند الحق فلا يقبله.
الإعراب:
﴿رزقا﴾ مصدر وضع موضع الحال تقديره يجبى إليه ثمرات كل شيء من رزقه ويجوز أن يكون مصدر فعل محذوف تقديره نرزق ويجوز أن يكون مصدرا من معنى قوله ﴿يجبى إليه ثمرات﴾ لأنه في معنى رزق فيكون مثل قولهم حمدته شكرا ويجوز أن يكون مفعولا له وقوله ﴿من لدنا﴾ في موضع نصب على الصفة لقوله ﴿رزقا﴾ ﴿وكم أهلكنا﴾ أي كثيرا من القرى أهلكنا فكم في موضع نصب بأهلكنا و﴿من قرية﴾ في موضع نصب على التمييز لأن كم الخبرية إذا فصل بينها وبين مميزها بكلام نصب كما ينصب كم الاستفهامية معيشتها انتصب بقوله ﴿بطرت﴾ وتقديره في معيشتها فحذف الجار فأفضى الفعل.
﴿فتلك مساكنهم﴾ مبتدأ وخبر.
لم تسكن في موضع نصب على الحال والعامل فيه معنى الإشارة في تلك قليلا صفة مصدر محذوف تقديره إلا سكونا قليلا أو صفة ظرف تقديره وقتا أو زمانا قليلا.
النزول:
قيل نزل قوله ﴿إنك لا تهدي من أحببت﴾ في أبي طالب فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحب إسلامه فنزلت هذه الآية وكان يكره إسلام وحشي قاتل حمزة فنزل فيه يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله الآية فلم يسلم أبو طالب وأسلم وحشي ورووا ذلك عن ابن عباس وغيره وفي هذا نظر كما ترى فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يجوز أن يخالف الله سبحانه في إرادته كما لا يجوز أن يخالفه في أوامره ونواهيه وإذا كان الله تعالى على ما زعم القوم لم يرد إيمان أبي طالب وأراد كفره وأراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إيمانه فقد حصل غاية الخلاف بين إرادتي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمرسل فكأنه سبحانه يقول على مقتضى اعتقادهم إنك يا محمد تريد إيمانه ولا أريد إيمانه ولا أخلق فيه الإيمان مع تكفله بنصرتك وبذل مجهوده في إعانتك والذب عنك ومحبته لك ونعمته عليك وتكره أنت إيمان وحشي لقتله عمك حمزة وأنا أريد إيمانه وأخلق في قلبه الإيمان وفي هذا ما فيه وقد ذكرنا في سورة الأنعام أن أهل البيت (عليهم السلام) قد أجمعوا على أن أبا طالب مات مسلما وتظاهرت الروايات بذلك عنهم وأوردنا هناك طرفا من أشعاره الدالة على تصديقه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوحيده فإن استيفاء ذلك جميعه لا تتسع له الطوامير وما روي من ذلك في كتب المغازي وغيرها أكثر من أن يحصى يكاشف فيها من كاشف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويناضل عنه ويصحح نبوته وقال بعض الثقات إن قصائده في هذا المعنى التي تنفث في عقد السحر وتغبر في وجه شعراء الدهر يبلغ قدر مجلد وأكثر من هذا ولا شك في أنه لم يختر تمام مجاهرة الأعداء استصلاحا لهم وحسن تدبيره في دفع كيادهم لئلا يلجئوا الرسول إلى ما ألجئوه إليه بعد موته.
المعنى:
لما تقدم ذكر الرسول والقرآن وأنه أنزل هدى للخلق بين سبحانه أنه ليس عليه الاهتداء وإنما عليه البلاغ والأداء فقال ﴿إنك﴾ يا محمد ﴿لا تهدي من أحببت﴾ هدايته وقيل من أحببته لقرابته والمراد بالهداية هنا اللطف الذي يختار عنده الإيمان فإنه لا يقدر عليه إلا الله تعالى لأنه إما أن يكون من فعله خاصة أو بإعلامه ولا يعلم ما يصلح المرء في دينه إلا الله تعالى فإن الهداية التي هي الدعوة والبيان قد أضافها سبحانه إليه في قوله وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم وقيل إن المراد بالهداية في الآية الإجبار على الاهتداء أي أنت لا تقدر على ذلك وقيل معناه ليس عليك اهتداؤهم وقبولهم الحق ﴿ولكن الله يهدي من يشاء﴾ بلطفه وقيل على وجه الإجبار ﴿وهو أعلم بالمهتدين﴾ أي القابلين للهدى فيدبر الأمور على ما يعلمه من صلاح العباد ثم قال سبحانه حاكيا عن الكفار ﴿وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا﴾ أي نستلب من أرضنا يعني أرض مكة والحرم وقيل إنما قاله الحرث بن نوفل بن عبد مناف فإنه قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنا لنعلم أن قولك حق ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك ونؤمن بك مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا ولا طاقة لنا بالعرب فقال سبحانه رادا عليه هذا القول ﴿أولم نمكن لهم حرما آمنا﴾ أي أو لم نجعل لهم مكة في أمن وأمان قبل هذا ودفعنا ضرر الناس عنهم حتى كانوا يأمنون فيه فكيف يخافون زواله الآن أ فلا نقدر على دفع ضرر الناس عنهم لو آمنوا بل حالة الإيمان والطاعة أولى بالأمن والسلامة من حالة الكفر ﴿يجبى إليه ثمرات كل شيء﴾ أي تجمع إليه ثمرات كل أرض وبلد ﴿رزقا من لدنا﴾ أي إعطاء من عندنا جاريا عليهم ﴿ولكن أكثرهم لا يعلمون﴾ ما أنعمنا به عليهم وقيل لا يعلمون الله ولا يعبدونه فيعلموا ما يفوتهم من الثواب ﴿وكم أهلكنا من قرية﴾ أي من أهل قرية ﴿بطرت معيشتها﴾ أي في معيشتها بأن أعرضت عن الشكر وتكبرت والمعنى أعطيناهم المعيشة الواسعة فلم يعرفوا حق النعمة وكفروا فأهلكناهم ﴿فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا﴾ تلك إشارة إلى ما يعرفونه هم من ديار عاد وثمود وقوم لوط أي صارت مساكنهم خاوية خالية عن أهلها وهي قريبة منكم فإن ديار عاد إنما كانت بالأحقاف وهو موضع بين اليمن والشام وديار ثمود بوادي القرى وديار قوم لوط بسدوم وكانوا هم يمرون بهذه المواضع في تجاراتهم ﴿وكنا نحن الوارثين﴾ أي المالكين لديارهم لم يخلفهم أحد فيها ثم خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال ﴿وما كان ربك﴾ يا محمد ﴿مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا﴾ قيل إن معنى أمها أم القرى وهي مكة وقيل يريد معظم القرى من سائر الدنيا ﴿يتلو عليهم آياتنا﴾ أي يقرأ عليهم حججنا وبيناتنا ﴿وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون﴾ لنفوسهم بالكفر والطغيان والعتو والعصيان ثم خاطب سبحانه خلقه فقال ﴿وما أوتيتم من شيء﴾ أي وما أعطيتموه من شيء ﴿فمتاع الحياة الدنيا وزينتها﴾ أي هو شيء تتمتعون به في الحياة وتتزينون به ﴿وما عند الله﴾ من الثواب ونعيم الآخرة ﴿خير﴾ من هذه النعم ﴿وأبقى﴾ لأنها فانية ونعم الآخرة باقية ﴿أفلا تعقلون﴾ ذلك وتتفكرون فيه حتى تميزوا بين الباقي والفاني.