الآيات 61-70

تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا ﴿61﴾ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴿62﴾ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴿63﴾ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ﴿64﴾ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ﴿65﴾ إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴿66﴾ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴿67﴾ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ﴿68﴾ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ﴿69﴾ إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿70﴾

القراءة:

قرأ أهل الكوفة غير عاصم سرجا بضمتين من غير ألف والباقون ﴿سراجا﴾ وقرأ حمزة وخلف أن يذكر خفيفا والباقون يذكر بتشديدتين وقرأ أهل المدينة وابن عامر يقتروا بضم الياء وقرأ أهل الكوفة بفتح الياء وضم التاء وقرأ أهل البصرة وابن كثير بفتح الياء وكسر التاء وقرأ أبو جعفر وابن عامر ويعقوب وسهل يضعف له العذاب بالتشديد والجزم و﴿يخلد﴾ بالجزم وقرأ ابن عامر يضعف بالتشديد والرفع ويخلد بالرفع وقرأ أبو بكر يضاعف بالألف والرفع ويخلد بالرفع وقرأ نافع وأبو عمرو وأهل الكوفة إلا أبا بكر ﴿يضاعف﴾ بالألف والجزم ﴿ويخلد﴾ بالجزم وقرأ ابن كثير وحفص فيهي مهانا بإشباع كسرة الهاء وذلك مذهب ابن كثير في جميع القرآن ووافقه حفص في هذا الموضع فقط وقرأ يبدل الله بسكون الباء البرجمي عن أبي بكر مختلفا عنه والباقون بالتشديد.

الحجة:

من قرأ ﴿سراجا﴾ فحجته قوله ﴿وجعل فيها سراجا﴾ ومن قرأ سرجا فحجته قوله ﴿ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح﴾ فشبهت الكواكب بالمصابيح كما شبهت المصابيح بالكواكب في قوله الزجاجة كأنها كوكب دري وإنما المصباح الزجاجة في المعنى وقد سبق القول في يذكر ويذكر فيما مضى والإقتار خلاف الإيسار قال الشاعر:

لكم مسجد الله المزوران والحصى

لكم قبصة من بين أثرى وأقترا

تقديره من بين رجل أثرى ورجل أقترا فأقام الصفة مقام الموصوف ومثله في التنزيل ومن أهل المدينة مردوا على النفاق قال أبو علي يجوز أن يكون على قبيل مردوا مثل قوله ومن آياته يريكم البرق وأما قتر يقتر ويقتر فمثل عكف يعكف ويعكف وعرش يعرش ويعرش فمن ضم الياء أراد لم يقتروا في إنفاقهم لأن المسرف مشرف على الإقتار ومن فتح الياء فالمعنى لم يضيقوا في الإنفاق ومن قرأ يضاعف بالجزم جعله بدلا من الفعل الذي هو جزاء الشرط وهو قوله ﴿يلق أثاما﴾ وذلك أن تضعيف العذاب هو لقي جزاء الآثام في المعنى ومثله قول الشاعر:

إن يجبنوا أو يغدروا أو يبخلوا لا يحفلوا

يغدوا عليك مرجلين كأنهم لم يفعلوا

فغدوهم مرجلين في المعنى ترك الاحتفال وقد أبدل من الشرط كما أبدل من الجزاء وذلك في قول الشاعر:

متى تأتنا ثلمم بنا في ديارنا

تجد حطبا جزلا ونارا تأججا

فأبدل تلمم من تأتنا لأن الإلمام إتيان في المعنى قال أبو علي ومثل حذف الجزاء الذي هو مضاف في المعنى في قوله ﴿يلق أثاما﴾ أي جزاء أثام قوله ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم المعنى من جزاء ما كسبوا وقال أبو عبيدة ﴿يلق أثاما﴾ أي عقوبة وأنشد لمسافع الليثي:

جزى الله ابن عروة حيث أمسى

عقوقا والعقوق له أثام

قال وابن عروة رجل من ليث كان دل عليهم ملكا من غسان فأغار عليهم قال أبو علي ويمكن أن يكون هذا من قول بشر:

فكان مقامنا ندعو عليهم

بأسفل ذي المجاز له أثام

ومن رفع يضاعف ويخلد قطعه عما قبله واستأنف وأما يضاعف ويضعف فهما في المعنى سواء وكذلك ويبدل ويبدل.

اللغة:

قال أبو عبيدة الخلفة كل شيء بعد شيء الليل خلفة النهار والنهار خلفة الليل لأن أحدهما يخلف الآخر قال زهير:

بها العين والآرام يمشين خلفة

وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم

والهون مصدر إلهين في السكينة والوقار والغرام أشد العذاب وهو اللازم الملح ومنه الغريم لملازمته وإلحاحه وفلان مغرم بالنساء أي ملازم لهن لا يصبر عنهن قال بشر بن أبي حازم:

ويوم النسار ويوم الجفار

كانا عذابا وكانا غراما

وقال آخر:

إن يعاقب يكن غراما وإن يعط

جزيلا فإنه لا يبالي

الإعراب:

﴿الذين يمشون﴾ خبر المبتدأ الذي هو ﴿عباد الرحمن﴾ ويجوز أن يكون خبره أولئك يجزون الغرفة ويكون ﴿الذين يمشون﴾ صفة العباد و﴿هونا﴾ في موضع الحال و﴿سلاما﴾ نصب على المصدر بفعل محذوف وتقديره فتسلم منكم سلاما لا نجاهلكم كأنهم قالوا تسلما منكم.

و﴿مستقرا ومقاما﴾ منصوبان على التمييز والمخصوص بالذم محذوف وتقديره ساءت مستقرا جهنم ﴿وكان بين ذلك قواما﴾ أي كان الإنفاق ذا قوام بين الإسراف والإقتار فقوله ﴿بين ذلك﴾ تبيين لقوام وإن شئت علقته بنفس كان وإن شئت علقته بخبر كان أي ثابتا بين ذلك فيكون خبرا بعد خبر.

المعنى:

ثم مدح سبحانه نفسه بأن قال ﴿تبارك﴾ وقد مر معناه في أول السورة ﴿الذي جعل في السماء بروجا﴾ يريد منازل النجوم السبعة السيارة التي هي زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر وهي اثنا عشر برجا الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت وقيل هي النجوم الكبار عن الحسن ومجاهد وقتادة وسميت بروجا لظهورها ﴿وجعل فيها سراجا﴾ يعني الشمس ومن قرأ سرجا أراد الشمس والكواكب معها ﴿وقمرا منيرا﴾ أي مضيئا بالليل إذا لم تكن شمس ﴿وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة﴾ أي يخلف كل واحد منهما صاحبه فيما يحتاج أن يعمل فيه فمن فاته عمل الليل استدركه بالنهار ومن فاته عمل النهار استدركه بالليل وهو قوله ﴿لمن أراد أن يذكر﴾ عن عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن وروي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال تقضي صلاة النهار بالليل وصلاة الليل بالنهار وقيل معناه أنه جعل كل واحد منهما مخالفا لصاحبه فجعل أحدهما أسود والآخر أبيض عن مجاهد ﴿لمن أراد أن يذكر﴾ أي يتفكر ويستدل بذلك على أن لهما مدبرا ومصرفا لا يشبههما ولا يشبهانه فيوجه العبادة إليه ﴿أو أراد شكورا﴾ يقال شكر يشكر شكرا وشكورا أي أراد شكر نعمة ربه عليه فيهما وعلى القول الأول فمعناه أو أراد النافلة بعد أداء الفريضة ﴿وعباد الرحمن﴾ يريد أفاضل عباده وهذه إضافة التخصيص والتشريف كما يقال ابني من يطيعني أي ابني الذي أنا عنه راض ويكون توبيخا لأولاده الذين لا يطيعونه ﴿الذين يمشون على الأرض هونا﴾ أي بالسكينة والوقار والطاعة غير أشرين ولا مرحين ولا متكبرين ولا مفسدين عن ابن عباس ومجاهد وقال أبو عبد الله (عليه السلام) هو الرجل يمشي بسجيته التي جبل عليها لا يتكلف ولا يتبختر وقيل معناه حلماء علماء لا يجهلون وإن جهل عليهم عن الحسن وقيل أعفاء أتقياء عن الضحاك ﴿وإذا خاطبهم الجاهلون﴾ بما يكرهونه أو يثقل عليهم ﴿قالوا﴾ في جوابه ﴿سلاما﴾ أي سدادا من القول لا يقابلونهم بمثل قولهم من الفحش عن مجاهد وقيل سلاما أي قولا يسلمون فيه من الإثم أو سلموا عليهم دليله قوله وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم وقال قتادة كانوا لا يجاهلون أهل الجهل وقال ابن عباس لا يجهلون مع من يجهل قال الحسن هذه صفة نهارهم إذا انتشروا في الناس وليلهم خير ليل إذا خلوا فيما بينهم وبين ربهم يراوحون بين أطوافهم وهو قوله ﴿والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما﴾ قال الزجاج كل من أدركه الليل فقد بات نام أو لم ينم والمعنى يبيتون لربهم بالليل في الصلاة ساجدين وقائمين طالبين لثواب ربهم فيكونون سجدا في مواضع السجود وقياما في مواضع القيام ﴿والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما﴾ أي يدعون بهذا القول وغراما أي لازما ملحا دائما غير مفارق ﴿إنها ساءت مستقرا ومقاما﴾ أي إن جهنم بئس موضع قرار وإقامة هي ﴿والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا﴾ واختلف في معنى الإسراف فقيل هو النفقة في المعاصي والإقتار الإمساك عن حق الله تعالى عن ابن عباس وقتادة وقيل السرف مجاوزة الحد في النفقة والإقتار التقصير عما لا بد منه عن إبراهيم النخعي وروي عن معاذ أنه قال سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك فقال من أعطى في غير حق فقد أسرف ومن منع عن حق فقد قتر وروي عن أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة أنه قال ليس في المأكول والمشروب سرف وإن كثر ﴿وكان بين ذلك قواما﴾ أي وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار لا إسرافا يدخلون به في حد التبذير ولا تضييقا يصيرون به في حد المانع لما يجب وهذا هو المحمود والقوام من العيش ما أقامك وأغناك وقيل القوام بالفتح وهو العدل والاستقامة وبالكسر ما يقوم به الأمر ويستقر عن تغلب وقال أبو عبد الله (عليه السلام) القوام هو الوسط وقال (عليه السلام) أربعة لا يستجاب لهم دعوة رجل فاتح فاه جالس في بيته فيقول يا رب ارزقني فيقول له أ لم آمرك بالطلب ورجل كانت له امرأة يدعو عليها يقول يا رب أرحني منها فيقول أ لم أجعل أمرها بيدك ورجل كان له مال فأفسده فيقول يا رب ارزقني فيقول أ لم آمرك بالاقتصاد ورجل كان له مال فأدانه بغير بينة فيقول أ لم آمرك بالشهادة ﴿والذين لا يدعون مع الله إلها آخر﴾ أي لا يجعلون لله سبحانه شريكا بل يوجهون عبادتهم إليه وحده ﴿ولا يقتلون النفس التي حرم الله﴾ أي حرم الله قتلها ﴿إلا بالحق﴾ والنفس المحرم قتلها نفس المسلم والمعاهد والمستثناة قتلها نفس الحربي ومن يجب قتلها على وجه القود والارتداد أو للزنا بعد الإحصان وللسعي في الأرض بالفساد ﴿ولا يزنون﴾ والزنا هو الفجور بالمرأة في الفرج وفي هذا دلالة على أن أعظم الذنوب بعد الشرك القتل والزنا وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما بالإسناد عن عبد الله بن مسعود قال سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أي الذنب أعظم قال إن تجعل لله ندا وهو خلقك قال قلت ثم أي قال إن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قال قلت ثم أي قال إن تزاني حليلة جارك فأنزل الله تصديقها ﴿والذين لا يدعون مع الله إلها آخر﴾ الآية ﴿ومن يفعل ذلك﴾ قال مقاتل هذه الخصال جميعا ﴿يلق أثاما﴾ أي عقوبة وجزاء لما فعل قال الفراء أثمه الله يأثمه إثما وأثاما أي جزاه جزاء الإثم وقال الشاعر:

وهل يأثمني الله في أن ذكرتها

وعللت أصحابي بها ليلة النفر

وقيل إن أثاما اسم واد في جهنم عن عبد الله بن عمر وقتادة ومجاهد وعكرمة ثم فسر سبحانه لقي الآثام بقوله ﴿يضاعف له العذاب يوم القيامة﴾ يريد سبحانه مضاعفة أجزاء العذاب لا مضاعفة الاستحقاق لأنه تعالى لا يجوز أن يعاقب بأكثر من الاستحقاق لأن ذلك ظلم وهو منفي عنه وقيل معناه أنه يستحق على كل معصية منها عقوبة فيضاعف عليه العقاب وقيل المضاعفة عذاب الدنيا وعذاب الآخرة عن قتادة ﴿ويخلد فيه مهانا﴾ أي ويدوم في العذاب مستحقا به وإنما قال ذلك لأنه عز اسمه قد يوصل الآلام إلى بعض المكلفين لا على وجه الاستخفاف والإهانة فبين أنه يوصل العقاب إليهم على وجه الإهانة ثم استثنى من جملتهم التائب بقوله ﴿إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات﴾ قال قتادة إلا من تاب من ذنبه وآمن بربه وعمل عملا صالحا فيما بينه وبين ربه قال والتبديل في الدنيا طاعة الله بعد عصيانه وذكر الله بعد نسيانه والخير يعمله بعد الشر وقيل يبدلهم الله بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام بالشرك إيمانا وبقتل المؤمنين قتل المشركين وبالزنا عفة وإحصانا عن ابن عباس ومجاهد والسدي وقيل إن معناه أن يمحو السيئة عن العبد ويثبت له بدلها الحسنة عن سعيد بن المسيب ومكحول وعمرو بن ميمون واحتجوا بالحديث الذي رواه مسلم في الصحيح مرفوعا إلى أبي ذر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال أعرضوا عليه صغار ذنوبه ونحوا عنه كبارها فيقال عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وهو مقر لا ينكر وهو مشفق من الكبائر فيقال أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة فيقول أن لي ذنوبا ما أراها هاهنا قال ولقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ضحك حتى بدت نواجذه ﴿وكان الله غفورا﴾ أي ساترا لمعاصي عباده ﴿رحيما﴾ أي منعما عليهم بالرحمة الفضل.