الآيات 111-112
إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿111﴾ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿112﴾
القراءة:
قرأ أهل الكوفة غير عاصم فيقتلون بضم الياء ويقتلون بفتح الياء والباقون ﴿فيقتلون﴾ بفتح الياء ﴿ويقتلون﴾ بضمها وفي قراءة أبي وعبد الله بن مسعود والأعمش التائبين العابدين بالياء إلى آخرها وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام).
الحجة:
قال أبو علي من قرأ ﴿فيقتلون ويقتلون﴾ فقدم الفعل المسند إلى الفاعل فلأنهم يقتلون أولا في سبيل الله ويقتلون ولا يقتلون إذا قتلوا ومن قدم الفعل المسند إلى المفعول به جاز أن يكون في المعنى مثل الأول لأن المعطوف بالواو يجوز أن يراد به التقديم فإن لم يقدر فيه التقديم كان المعنى في قوله ﴿فيقتلون﴾ بعد قوله ﴿يقتلون﴾ بقتل من بقي منهم بعد قتل من قتل وأما الرفع في قوله ﴿التائبون العابدون﴾ فعلى القطع والاستئناف أي هم التائبون ويكون على المدح وقيل أنه رفع على الابتداء وخبره محذوف بعد قوله ﴿والحافظون لحدود الله﴾ أي لهم الجنة أيضا عن الزجاج وقيل أنه رفع على البدل من الضمير في يقاتلون أي يقاتل التائبون وأما التائبين العابدين فيحتمل أن يكون جرا وأن يكون نصبا أما الجر فعلى أن يكون وصفا للمؤمنين أي من المؤمنين التائبين وأما النصب فعلى إضمار فعل بمعنى المدح كأنه قال أعني وأمدح التائبين.
اللغة:
السائح من ساح في الأرض يسيح سيحا إذا استمر في الذهاب ومنه السيح الماء الجاري ومن ذلك يسمى الصائم سائحا لاستمراره على الطاعة في ترك المشتهى.
الإعراب:
وعدا نصب على المصدر لأن قوله ﴿اشترى﴾ يدل على أنه وعد ومثله صنع الله الذي أتقن كل شيء وفطرة الله التي فطر الناس عليها.
المعنى:
لما تقدم ذكر المؤمنين والمنافقين عقب سبحانه بالترغيب في الجهاد فقال ﴿إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة﴾ حقيقة الاشتراء لا تجوز على الله تعالى لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملكه وهو عز اسمه مالك الأشياء كلها لكنه مثل قوله من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا في أنه ذكر لفظ الشراء والقرض تلطفا لتأكيد الجزاء ولما كان سبحانه ضمن الثواب على نفسه عبر عن ذلك بالاشتراء وجعل الثواب ثمنا والطاعات مثمنا على ضرب من المجاز وأخبر أنه اشترى من المؤمنين أنفسهم يبذلونها في الجهاد في سبيل الله وأموالهم أيضا ينفقونها ابتغاء مرضاة الله على أن يكون في مقابلة ذلك الجنة وروي عن الأعمش أنه قرأ بالجنة وهي قراءة عمر بن الخطاب والجهاد قد يكون بالسيف وقد يكون باللسان وربما كان جهاد اللسان أبلغ لأن سبيل الله دينه والدعاء إلى الدين يكون أولا باللسان والسيف تابع له ولأن إقامة الدليل على صحة المدلول أولى وإيضاح الحق وبيانه أحرى وذلك لا يكون إلا باللسان وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يا علي لأن يهدي الله على يديك نسمة خير مما طلعت عليه الشمس وإنما ذكر سبحانه شراء النفس والمال لأن العبادات على ضربين بدنية ومالية ولا ثالث لهما ويروى أن الله سبحانه تاجر المؤمنين فأغلى لهم الثمن فجعل ثمنهم الجنة وكان الصادق (عليه السلام) يقول أيا من ليست له همة أنه ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها وأنشد الأصمعي للصادق (عليه السلام):
أثامن بالنفس النفيسة ربها
فليس لها في الخلق كلهم ثمن
بها نشتري الجنات إن أنا بعتها
بشيء سواها إن ذلكم غبن
إذا ذهبت نفسي بدنيا أصبتها
فقد ذهب الدنيا وقد ذهب الثمن ﴿يقاتلون في سبيل الله﴾ هذا بيان للغرض الذي لأجله اشتراهم ﴿فيقتلون﴾ المشركين ﴿ويقتلون﴾ أي ويقتلهم المشركون يعني أن الجنة عوض عن جهادهم سواء قتلوا أو قتلوا ومن قرأ فيقتلون ويقتلون فهو المختار عن الحسن لأنه يكون تسليم النفس إلى المشتري أقرب والبائع إنما يستحق الثمن بتسليم المبيع ﴿وعدا عليه حقا﴾ معناه إن إيجاب الجنة لهم وعد على الله حق لا شك فيه وتقديره وعدهم الله الجنة على نفسه وعدا حقا أي صدقا واجبا لا خلف فيه ﴿في التوراة والإنجيل والقرآن﴾ وهذا يدل على أن أهل كل ملة أمروا بالقتال وعدوا عليه الجنة عن الزجاج ﴿ومن أوفى بعهده من الله﴾ معناه لا أحد أوفى بعهده من الله لأنه يفي ولا يخلف بحال ﴿فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به﴾ فافرحوا بهذه المبايعة حتى ترى آثار السرور في وجوهكم بسبب هذه المبايعة لأنكم بعتم الشيء من مالكه وأخذتم ثمنه ولأنكم بعتم فانيا بباق وزائلا بدائم ﴿وذلك هو الفوز العظيم﴾ أي ذلك الشراء والبيع الظفر الكبير الذي لا يقاربه شيء ثم وصف الله سبحانه المؤمنين الذين اشترى منهم الأنفس والأموال بأوصاف فقال ﴿التائبون﴾ أي الراجعون إلى طاعة الله والمنقطعون إليه النادمون على ما فعلوه من القبائح ﴿العابدون﴾ أي الذين يعبدون الله وحده ويتذللون له بطاعته في أوامره ونواهيه وقيل هم الذين أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم فعبدوا الله في السراء والضراء عن الحسن وقتادة ﴿الحامدون﴾ أي الذين يحمدون الله على كل حال عن الحسن وقيل هم الشاكرون لنعم الله على وجه الإخلاص له ﴿السائحون﴾ أي الصائمون عن ابن عباس وابن مسعود والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وروي مرفوعا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال سياحة أمتي الصيام وقيل هم الذين يسيحون في الأرض فيعتبرون بعجائب الله تعالى وقيل هم طلبة العلم يسيحون في الأرض لطلبه عن عكرمة ﴿الراكعون الساجدون﴾ أي المؤدون للصلاة المفروضة التي فيها الركوع والسجود ﴿الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر﴾ أدخل الواو هنا لأن الأمر بالمعروف يتضمن النهي عن المنكر فكأنهما شيء واحد ولأنه قرن النهي عن المنكر بالأمر بالمعروف في أكثر المواضع فأدخل الواو ليدل على المقارنة ﴿والحافظون لحدود الله﴾ أي والقائمون بطاعة الله عن ابن عباس يعني الذين يؤدون فرائض الله وأوامره ويجتنبون نواهيه لأن حدود الله أوامره ونواهيه وإنما أدخل الواو لأنه جاء وهو أقرب إلى المعطوف ﴿وبشر المؤمنين﴾ هذا أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يبشر المصدقين بالله المعترفين بنبوته بالثواب الجزيل والمنزلة الرفيعة خاصة إذا جمعوا هذه الأوصاف وقد روى أصحابنا أن هذه صفات الأئمة المعصومين (عليهم السلام) لأنه لا يكاد يجمع هذه الأوصاف على تمامها وكمالها غيرهم ولقي الزهري علي بن الحسين (عليهما السلام) في طريق الحج فقال له تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت إلى الحج والله سبحانه يقول ﴿إن الله اشترى من المؤمنين﴾ الآية فقال (عليه السلام) له أتم الآية الأخرى ﴿التائبون العابدون﴾ إلى آخرها ثم قال إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج.