الآيات 20-26
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴿20﴾ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴿21﴾ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴿22﴾ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴿23﴾ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴿24﴾ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴿25﴾ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴿26﴾
القراءة:
قرأ ابن كثير أو ليأتينني بنونين أولاهما مشددة مفتوحة والباقون بنون واحدة مشددة وقرأ عاصم ويعقوب ﴿فمكث﴾ بفتح الكاف والباقون بضم الكاف وقرأ أبو عمرو وابن كثير في رواية البزي من سباء بفتح الهمزة وقرأ ابن كثير في رواية القواس وابن فليح من سبأ بغير همزة وقرأ الباقون ﴿من سبأ﴾ مجرورة منونة ومثله سواء في سورة سبأ لقد كان لسبإ وقرأ أبو جعفر والكسائي ورويس عن يعقوب ألا يسجدوا خفيفة اللام وقرأ الباقون ﴿ألا يسجدوا﴾ مثل قوله ألا يقولوا ومن خفف وقف على ألا يا وابتدأ اسجدوا وقرأ الكسائي وحفص عن عاصم ﴿ما تخفون وما تعلنون﴾ بالتاء والباقون بالياء.
الحجة:
من قرأ ﴿ليأتيني﴾ حذف النون الثالثة التي هي قبل ياء المتكلم لاجتماع النونات ومن قرأ ليأتينني فهو على الأصل ومكث ومكث لغتان ومما يقوي الفتح وقوله إنكم ماكثون وقوله ماكثين فيه أبدا وقال سيبويه ثمود وسبأ مرة للقبيلتين ومرة للحيين قال أبو علي يريد أن هذه الأسماء منها ما جاء على أنه اسم الحي نحو معد وقريش وثقيف ومنها ما يستوي فيه الأمران كثمود وسبإ وقال أبو الحسن في سبإ إن شئت صرفت فجعلته اسم أبيهم أو اسم الحي وإن شئت لم تصرف فجعلته اسم القبيلة قال والصرف أحب إلي لأنه قد عرف أنه اسم أبيهم وإن كان اسم الأب يصير كالقبيلة إلا أني أحمله على الأصل وقال غيره هو اسم رجل واليمانية كلها تنسب إليه يقولون سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان قال الزجاج من قال إن سبأ اسم رجل فغلط لأن سبأ هي مدينة تعرف بمأرب من اليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام قال الشاعر:
من سبي الحامرين مأرب إذ
يبنون من دون سيله العرما فمن لم يصرف فلأنه اسم مدينة ومن صرفه فلأن يكون اسما للبلد قال جرير:
الواردون وتيم في ذري سبأ
قد عض أعناقهم جلد الجواميس
ومن قرأ ألا يسجدوا فالتقدير فصدهم عن السبيل لأن لا يسجدوا على أنه مفعول له قال أبو علي وهذا هو الوجه لتجري القصة على سننها ولا يفصل بين بعضها وبعض ما ليس منها وإن كان الفصل بهذا النحو غير ممتنع لأنه يجري مجرى الاعتراض وكأنه لما قيل ﴿وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون﴾ فدل هذا الكلام على أنهم لا يسجدون لله قال ألا يا قوم اسجدوا لله خلافا عليهم ووجه دخول حرف التنبيه على الأمر أنه موضع يحتاج فيه إلى استعطاف المأمور لتأكيد ما يؤمر به عليه كما أن النداء موضع يحتاج فيه إلى استعطاف المنادى لما ينادي له من إخبار أو أمر أو نهي ونحو ذلك مما يخاطب به وإذا كان كذلك فيجوز أن لا تريد منادى في نحو قولك ألا يسجدوا كما لا تريد المنادى في نحو قوله:
يا لعنة الله والأقوام كلهم
والصالحين على سمعان من جار
وكذلك ما حكي عن أبي عمرو من قوله يا ويل له ويجوز أن يراد بعد يا مأمورون فحذفوا كما حذف في قوله يا لعنة الله فكما أن يا هاهنا لا يجوز أن يكون إلا لغير اللعنة كذلك يجوز أن يكون المأمورون مرادين وحذفوا من اللفظ وقد جاء هذا في مواضع من الشعر فمن ذلك ما أنشده أبو زيد:
فقالت ألا يا اسمع نعظك بخطة
فقلت سميعا فانطقي وأصيبي
وأنشد الزجاج لذي الرمة
ألا يا أسلمي يا دار مي على البلى
ولا زال منهلا بجرعائك القتر
و للأخطل:
ألا يا أسلمي يا هند هند بني بدر
ولا زال حيانا عدى آخر الدهر
ومما يؤكد قراءة من قرأ ﴿ألا يسجدوا﴾ بالتشديد أنها لو كانت مخففة لما كانت في يسجدوا ياء لأنها اسجدوا ففي ثبات الياء في المصحف دلالة على التشديد ومن قرأ يخفون ويعلنون بالياء فلأن الكلام على الغيبة وقراءة الكسائي فيهما بالتاء لأن الكلام قد دخله خطاب على قراءة اسجدوا لله ومن قرأ ألا يا اسجدوا فيجوز أن يكون الخطاب للمؤمنين والكافرين الذين جرى ذكرهم على لفظ الغيبة.
الإعراب:
كان أبو عمرو يسكن الياء في قوله ما لي لا أرى الهدهد ويفتح في قوله وما لي لا أعبد الذي فطرني لئلا يقف الواقف على ما لي ويبتدىء بلا أعبد و﴿لا أرى﴾ في موضع نصب على الحال.
﴿أم كان من الغائبين﴾ أم منقطعة التقدير بل أهو من الغائبين وكان بمعنى يكون واللام في ﴿لأعذبنه﴾ جواب قسم مقدر أي والله لأعذبنه ﴿غير بعيد﴾ منصوب لأنه صفة ظرف أو صفة مصدر تقديره فمكث وقتا غير بعيد أو مكثا غير بعيد و﴿يسجدون﴾ في موضع نصب على الحال من وجدت.
المعنى:
ثم أخبر سبحانه عن سليمان فقال ﴿وتفقد الطير﴾ أي طلبه عند غيبته ﴿فقال ما لي لا أرى الهدهد﴾ أي ما للهدهد لا أراه تقول العرب ما لي أراك كئيبا ومعناه ما لك
ولكنه من القلب الذي يوضح المعنى واختلف في سبب تفقده الهدهد فقيل إنه احتاج إليه في سفره ليدله على الماء لأنه يقال إنه يرى الماء في بطن الأرض كما يراه في القارورة عن ابن عباس وروى العياشي بالإسناد قال قال أبو حنيفة لأبي عبد الله (عليه السلام) كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير قال لأن الهدهد يرى الماء في بطن الأرض كما يرى أحدكم الدهن في القارورة فنظر أبو حنيفة إلى أصحابه وضحك قال أبو عبد الله (عليه السلام) ما يضحكك قال ظفرت بك جعلت فداك قال وكيف ذلك قال الذي يرى الماء في بطن الأرض لا يرى الفخ في التراب حتى يؤخذ بعنقه قال أبو عبد الله (عليه السلام) يا نعمان أما علمت أنه إذا نزل القدر أغشى البصر وقيل إنما تفقده لإخلاله بنوبته عن وهب وقيل كانت الطيور تظله من الشمس فلما أخل الهدهد بمكانه بان بطلوع الشمس عليه ﴿أم كان من الغائبين﴾ معناه أتأخر عصيانا أم غاب لعذر وحاجة قال المبرد لما تفقد سليمان الطير ولم ير الهدهد قال ما لي لا أرى الهدهد على تقدير أنه مع جنوده وهو لا يراه ثم أدركه الشك فشك في غيبته عن ذلك الجمع بحيث لم يره فقال أم كان من الغائبين أي بل أ كان من الغائبين كأنه ترك الكلام الأول واستفهم عن حاله وغيبته ثم أوعده على غيبته فقال ﴿لأعذبنه عذابا شديدا﴾ معناه لأعذبنه بنتف ريشه وإلقائه في الشمس عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وقيل بأن أجعله بين أضداده وكما صح نطق الطير وتكليفه في زمانه معجزة له جازت معاتبته على ما وقع منه من تقصير فإنه كان مأمورا بطاعته فاستحق العقاب على غيبته ﴿أو لأذبحنه﴾ أي لأقطعن حلقه عقوبة على عصيانه ﴿أو ليأتيني بسلطان مبين﴾ أي بحجة واضحة تكون له عذرا في الغيبة ﴿فمكث غير بعيد﴾ أي فلم يلبث سليمان إلا زمانا يسيرا حتى جاء الهدهد وقيل معناه فلبث الهدهد في غيبته قليلا ثم رجع وعلى هذا فيجوز أن يكون التقدير فمكث في مكان غير بعيد قال ابن عباس فأتاه الهدهد بحجة ﴿فقال أحطت بما لم تحط به﴾ أي اطلعت على ما لم تطلع عليه وجئتك بأمر لم يخبرك به ولم يعلم به الإنس وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جنودك وهو قوله ﴿وجئتك من سبإ بنبأ يقين﴾ أي بخبر صادق وعلم الإحاطة وهو أن يعلم الشيء من جميع جهاته التي يمكن أن يعلم عليها تشبيها بالسور المحيط بما فيه وفي الكلام حذف تقديره ثم جاء الهدهد فسأله سليمان عن سبب غيبته فقال أحطت بما لم تحط به وفي هذا دلالة على أنه يجوز أن يكون في زمن الأنبياء من يعرف ما لا يعرفونه وسبأ مدينة بأرض اليمن عن قتادة وقيل إن الله تعالى بعث إلى سبإ اثني عشر نبيا عن السدي وروى علقمة بن وعلة عن ابن عباس قال سئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن سبإ فقال هو رجل ولد له عشرة من العرب تيامن منهم ستة وتشأم أربعة فالذين تشأموا لخم وجذام وغسان وعاملة والذين تيامنوا كندة والأشعرون والأزد ومذحج وحمير وأنمار ومن الأنمار خثعم وبجيلة ﴿إني وجدت امرأة تملكهم﴾ أي تتصرف فيهم بحيث لا يعترض عليها أحد ﴿وأوتيت من كل شيء﴾ وهذا اختار عن سعة ملكها أي من كل شيء من الأموال وما يحتاج إليه الملوك من زينة الدنيا وقال الحسن وهي بلقيس بنت شراحيل ملكة سبإ وقيل شرحبيل ولدها أربعون ملكا آخرهم أبوها " شرحبيل " قال قتادة وكان أولوا مشورتها ثلاثمائة واثني عشر قيلا كل قيل منهم تحت رايته ألف مقاتل ﴿ولها عرش عظيم﴾ أي سرير أعظم من سريرك وكان مقدمه من ذهب مرصع بالياقوت الأحمر والزمرد الأخضر ومؤخرة من فضة مكلل بألوان الجواهر وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق وعن ابن عباس قال كان عرش بلقيس ثلاثين ذراعا في ثلاثين ذراعا وطوله في الهواء ثلاثون ذراعا وقال أبو مسلم المراد بالعرش الملك ﴿وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم﴾ أي عبادتهم للشمس من دون الله ﴿فصدهم عن السبيل﴾ أي صرفهم عن سبيل الحق ﴿فهم لا يهتدون﴾ قال الجبائي لم يكن الهدهد عارفا بالله تعالى وإنما أخبر بذلك كما يخبر مراهقو صبياننا لأنه لا تكليف إلا على الملائكة والإنس والجن فيرانا الصبي على عبادة الله فيتصوران ما خالفها باطل فكذلك الهدهد تصور له أن ما خالف فعل سليمان باطل وهذا الذي ذكره خلاف ظاهر القرآن لأنه لا يجوز أن يفرق بين الحق الذي هو السجود لله وبين الباطل الذي هو السجود للشمس وأن أحدها حسن والآخر قبيح إلا العارف بالله سبحانه وبما يجوز عليه وما لا يجوز أن يفرق بين الحق الذي هو السجود لله وبين الباطل الذي هو السجود للشمس وأن أحدها حسن والآخر قبيح إلا العارف بالله سبحانه وبما يجوز عليه وما لا يجوز هذا مع نسبة تزين أعمالهم وصدهم عن طريق الحق إلى الشيطان وهذا مقالة من يعرف العدل وأن القبيح غير جائز على الله سبحانه ﴿ألا يسجدوا لله﴾ قد بينا أن التخفيف إنما هو على معنى الأمر بالسجود ودخلت الياء للتنبيه أو على تقدير ألا يا قوم اسجدوا لله وقيل إنه أمر من الله تعالى لجميع خلقه بالسجود له اعترض في الكلام وقيل إنه من كلام الهدهد قاله لقوم بلقيس حين وجدهم يسجدون لغير الله وقاله لسليمان عند عوده إليه استنكارا لما وجدهم عليه والقراءة بالتشديد على معنى زين لهم الشيطان ضلالتهم لئلا يسجدوا لله وذكر الفراء أن القراءة بالتشديد لا توجب سجدة التلاوة وهذا غير صحيح لأن الكلام قد تضمن الذم على ترك السجود فيه دلالة على وجوب السجود وهو كقوله وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن الآية ﴿الذي يخرج الخبء في السموات والأرض﴾ الخبء المخبوء وهو ما أحاط به غيره حتى منع من إدراكه وهو مصدر وصف به يقال خبأته أخبؤه خبأ وما يوجده الله تعالى فيخرجه من العدم إلى الوجود يكون بهذه المنزلة وقيل الخبء الغيب وهو كل ما غاب عن الإدراك فالمعنى يعلم غيب السماوات والأرض عن عكرمة ومجاهد وقيل إن خبء السماوات المطر وخبء الأرض النبات والأشجار عن ابن زيد ﴿ويعلم ما تخفون وما تعلنون﴾ أي يعلم السر والعلانية ﴿الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم﴾ إلى هاهنا تمام الحكاية لما قاله الهدهد ويحتمل أن يكون ابتداء إخبار من الله تعالى والعرش سرير الملك الذي عظمه الله ورفعه فوق السماوات السبع وجعل الملائكة تحف به وترفع أعمال العباد إليه وتنشأ البركات من جهته فهو عظيم الشأن كما وصفه الله تعالى وهو أعظم خلق الله تعالى.