الآيات 15-19

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿15﴾ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴿16﴾ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴿17﴾ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿18﴾ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴿19﴾

اللغة:

الوزع أصله المنع والكف يقال وزعه عن الظلم قال النابغة:

على حين عاتبت المشيب على الصبا

وقلت ألما تصح والشيب وازع

وقال آخر:

ألم تزع الهوى إذ لم تواتي

بلى وسلوت عن طلب الفتاة

والحطم الكسر ومنه الحطمة من أسماء جهنم والحطام ما تحطم والإيزاع الإلهام وفلان موزع بكذا أي مولع به قال الزجاج أوزعني تأويله في اللغة كفني عن الأشياء إلا عن شكر نعمتك وكفني عما يباعد منك.

الإعراب:

لا يحطمنكم في موضع جزم لأنه جواب الأمر قال الزجاج ضاحكا حال مؤكدة لأن تبسم في معنى ضحك وقال بعض المتأخرين يجوز أن يكون حالا بعد الفراغ من الفعل لأن التبسم دون الضحك فكأنه تبسم أولا ثم آل أمره إلى الضحك.

المعنى:

ثم عطف سبحانه على قصة موسى (عليه السلام) قصة داود وسليمان (عليهما السلام) فقال سبحانه ﴿ولقد آتينا داود وسليمان علما﴾ أي علما بالقضاء بين الخلق وبكلام الطير والدواب عن ابن عباس ﴿وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين﴾ أي اختارنا من بين الخلق بأن جعلنا أنبياء وبالمعجزة والملك والعلم الذي أتاناه وبإلانة الحديد وتسخير الشياطين والجن والإنس وإنما نكر قوله ﴿علما﴾ ليدل على أنه أراد علما احتاجا إليه مما ينبىء عن صدقهما في دعوى الرسالة ﴿وورث سليمان داود﴾ في هذا دلالة على أن الأنبياء يورثون المال كتوريث غيرهم وهو قول الحسن وقيل معناه أنه ورثه علمه ونبوته وملكه دون سائر أولاده ومعنى الميراث هنا أنه قام مقامه في ذلك فأطلق عليه اسم الإرث كما أطلق على الجنة اسم الإرث عن الجبائي وهذا خلاف للظاهر والصحيح عند أهل البيت (عليهم السلام) هو الأول ﴿وقال﴾ سليمان مظهرا لنعمة الله وشاكرا إياها ﴿يا أيها الناس علمنا منطق الطير﴾ أهل العربية يقولون أنه لا يطلق النطق على غير بني آدم وإنما يقال الصوت لأن النطق عبارة عن الكلام ولا كلام للطير إلا أنه لما فهم سليمان معنى صوت الطير سماه منطقا مجازا وقيل أنه أراد حقيقة المنطق لأن من الطير ما له كلام مهجى كالطيطوى قال المبرد العرب تسمي كل مبين عن نفسه ناطقا ومتكلما قال رؤبة:

لو أنني أعطيت علم الحكل

علم سليمان كلام النمل

والحكل ما لا يسمع له صوت وقال علي بن عيسى أن الطير كانت تكلم سليمان معجزة له كما أخبر عن الهدهد ومنطق الطير صوت يتفاهم به معانيها على صيغة واحدة بخلاف منطق الناس الذي يتفاهمون به المعاني على صيغ مختلفة ولذلك لم نفهم عنها مع طول مصاحبتها ولم تفهم هي عنا لأن أفهامها مقصورة على تلك الأمور المخصوصة ولما جعل سليمان يفهم عنها كان قد علم منطقها ﴿وأوتينا من كل شيء﴾ أي من كل شيء يؤتى الأنبياء والملوك وقيل من كل ما يطلبه طالب لحاجته إليه وانتفاعه به وقيل من كل شيء علما وتسخيرا في كل ما يصلح أن يكون معلوما لنا أو مسخرا لنا غير أن مخرجه مخرج العموم فيكون أبلغ وأحسن وروى الواحدي بالإسناد عن محمد بن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) قال أعطي سليمان بن داود ملك مشارق الأرض ومغاربها فملك سبعمائة سنة وستة أشهر ملك أهل الدنيا كلهم من الجن والإنس والشياطين والدواب والطير والسباع وأعطي علم كل شيء ومنطق كل شيء وفي زمانه صنعت الصنائع المعجبة التي سمع بها الناس وذلك قوله ﴿علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء﴾ ﴿إن هذا لهو الفضل المبين﴾ أي هذا فضل الله الظاهر الذي لا يخفى على أحد وهذا قول سليمان على وجه الاعتراف بنعم الله عليه ويحتمل أن يكون من قول الله سبحانه على وجه الأخبار بأن ما ذكره هو الفضل المبين ﴿وحشر لسليمان جنوده﴾ أي جمع له جموعه وكل صنف من الخلق جند على حدة بدلالة قوله ﴿من الجن والإنس والطير﴾ قال المفسرون كان سليمان إذا أراد سفرا أمر فجمع له طوائف من هؤلاء الجنود على بساط ثم يأمر الريح فتحملهم بين السماء والأرض والمعنى وحشر لسليمان جنوده أي جمع له جموعه في مسير له وقال محمد بن كعب بلغنا أن سليمان بن داود كان معسكره مائة فرسخ خمسة وعشرون منها للإنس وخمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للوحش وخمسة وعشرون للطير وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة صريحة وسبعمائة سرية فيأمر الريح العاصف فترفعه ويأمر الرخاء فتسير به فأوحى الله تعالى إليه وهو يسير بين السماء والأرض أني قد زدت في ملكك أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت به الريح فأخبرتك وقال مقاتل نسجت الشياطين لسليمان بساطا فرسخا في فرسخ ذهبا في إبريسم وكان يوضع فيه منبر من الذهب في وسط البساط فيقعد عليه وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس وترفع الريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ومن الرواح إلى الصباح ﴿فهم يوزعون﴾ أي يمنع أولهم على آخرهم عن ابن عباس ومعنى ذلك أن على كل صنف من جنوده وزعة ترد أولهم على آخرهم ليتلاحقوا ولا يتفرقوا كما تقوم الجيوش إذا كثرت بمثل ذلك وهو أن تدفع أخراهم وتوقف أولاهم وقيل معناه يحبسون عن ابن زيد وهو مثل الأول في أنه يحبس أولاهم على أخراهم ﴿حتى إذا أتوا على واد النمل﴾ أي فسار سليمان وجنوده حتى إذا أشرفوا على واد وهو بالطائف عن كعب وقيل هو بالشام عن قتادة ومقاتل ﴿قالت نملة﴾ أي صاحت بصوت خلق الله لها ولما كان الصوت مفهوما لسليمان عبر عنه بالقول وقيل كانت رئيسة النمل ﴿يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم﴾ أي لا يكسرنكم ﴿سليمان وجنوده وهم لا يشعرون﴾ بحطمكم ووطئكم فإنهم لو علموا بمكانكم لم يطؤوكم وهذا يدل على أن سليمان وجنوده كانوا ركبانا ومشاة على الأرض ولم تحملهم الريح لأن الريح لو حملتهم بين السماء والأرض لما خافت النمل أن يطئوها بأرجلهم ولعل هذه القصة كانت قبل تسخير الله الريح لسليمان فإن قيل كيف عرفت النملة سليمان وجنوده حتى قالت هذه المقالة قلنا إذا كانت مأمورة بطاعته فلا بد أن يخلق لها من الفهم ما تعرف به أمور طاعته ولا يمتنع أن يكون لها من الفهم ما يستدرك به ذلك وقد علمنا أنه تشق ما تجمع من الحبوب بنصفين مخافة أن يصيبها الندى فتنبت إلا الكزبرة فإنها تكسرها بأربع قطع لأنها تنبت إذا شقت بنصفين فمن هداها إلى هذا فإنه جل جلاله يهديها إلى تمييز ما يحطمها مما لا يحطمها وقيل إن ذلك كان منها على سبيل المعجز الخارق للعادة لسليمان (عليه السلام) قال ابن عباس فوقف سليمان بجنوده حتى دخل النمل مساكنه ﴿فتبسم﴾ سليمان ﴿ضاحكا من قولها﴾ وسبب ضحك سليمان التعجب وذلك إن الإنسان إذا رأى ما لا عهد له به تعجب وضحك وقيل أنه تبسم بظهور عدله حيث بلغ عدله في الظهور مبلغا عرفه النمل وقيل إن الريح أطارت كلامها إليه من ثلاثة أميال حتى سمع ذلك فانتهى إليها وهي تأمر النمل بالمبادرة فتبسم من حذرها ﴿وقال رب أوزعني﴾ أي ألهمني ﴿أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي﴾ بأن علمتني منطق النمل وأسمعتني قولها من بعيد حتى أمكنني الكف وأكرمتني بالنبوة والملك ﴿وعلى والدي﴾ أي أنعمت على والدي بأن أكرمته بالنبوة وفصل الخطاب وألنت له الحديد وعلى والدتي بأن زوجتها نبيك وجعل النعمة عليها نعمة لله سبحانه عليه يلزمه شكرها ﴿وأن أعمل صالحا ترضاه﴾ أي وفقني لأن أعمل صالحا في المستقبل ترضاه ﴿وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين﴾ قال ابن عباس يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين أي أدخلني في جملتهم وأثبت اسمي مع أسمائهم واحشرني في زمرتهم وقال ابن زيد في عبادك معناه مع عبادك قال الزجاج جاء لفظ ادخلوا كلفظ ما يعقل لأن النمل هاهنا أجري مجرى الآدميين حتى نطق كما ينطق الآدميون وإنما يقال لما لا يعقل ادخلي وفي الخبر دخلت أو دخلن وروي أن نمل سليمان هذا كان كأمثال الذئاب والكلاب.