الآيات 1-17

وَالسَّمَاء والطارَقِ ﴿1﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطارقُ ﴿2﴾ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ﴿3﴾ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴿4﴾ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴿5﴾ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ ﴿6﴾ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴿7﴾ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ﴿8﴾ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴿9﴾ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ ﴿10﴾ وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ ﴿11﴾ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ﴿12﴾ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ﴿13﴾ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ﴿14﴾ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ﴿15﴾ وَأَكِيدُ كَيْدًا ﴿16﴾ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ﴿17﴾

القراءة:

قرأ أبو جعفر وابن عامر وعاصم وحمزة لما عليها بتشديد الميم والباقون بالتخفيف وفي الشواذ قراءة ابن عباس مهلهم رويدا بغير ألف.

الحجة:

قال أبو علي من خفف لما كانت إن عنده المخففة من الثقيلة واللام معها هي اللام التي تدخل مع هذه المخففة لتخلصها من أن النافية وما صلة كالتي في قوله ﴿فبما رحمة من الله﴾ و﴿عما قليل﴾ وتكون إن متلقية للقسم كما تتلقاه مثقلة ومن ثقل لما كانت أن عنده النافية كالتي في قوله ﴿فيما إن مكناكم فيه﴾ ولما في معنى إلا وهي متلقية للقسم كما يتلقاه ما قال أبو الحسن الثقيلة في معنى إلا والعرب لا تكاد تعرف ذا وقال الكسائي لا أعرف وجه التثقيل وعن ابن عوف قال قرأت عند ابن سيرين ﴿إن كل نفس لما﴾ بالتشديد فأنكره قال الزجاج استعملت لما في موضع إلا في موضعين (أحدهما) هذا والآخر في باب القسم تقول سألتك لما فعلتك بمعنى إلا فعلت.

اللغة:

طرقني فلان إذا أتاني ليلا وأصل الطرق الدق ومنه المطرقة لأنها يدق بها والطريق لأن المارة تدقه والطارق الآتي ليلا يحتاج إلى الدق للتنبيه ونهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يطرق الرجل أهله ليلا حتى تستحد المغيبة وتمشط الشعثة وقالت هند بنت عتبة:

نحن بنات طارق

نمشي على النمارق

تريد أن أبانا نجم في شرفه وعلوه وقال الشاعر:

يا راقد الليل مسرورا بأوله

إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

لا تأمنن بليل طاب أوله

فرب آخر ليل أجج النارا

والنجم الكواكب الطالعة في السماء يقال لكل طالع ناجم تشبيها به نجم النبت ونجم السن والقرن والثاقب المضيء النير وثقوبة توقده بنوره والثاقب العالي الشديد العلو والدفق صب الماء الكثير باعتماد قوي ومثله الدفع فالماء الذي يكون منه الولد يكون دافقا وهو القاطر المصب وهي النطفة التي يخلق الله منها الولد وقيل ماء دافق معناه مدفوق ومثله سر كاتم وعيشة راضية والترائب نواحي الصدر واحدتها تريبة وهو مأخوذ من تذليل حركتها كالتراب قال المثقب:

ومن ذهب يسن على تريب

كلون العاج ليس بذي غضون

وقال آخر:

والزعفران على ترائبها

شرقا به اللبات والصدر والرجع

أصله من الرجوع وهو الماء الكثير تزدده الرياح تمر عليه قال المنخل في صفة السيف:

أبيض كالرجع رسوب إذا

ما ثاخ في محتفل يختلي

قال الزجاج الرجع المطر لأنه يجيء ويرجع ويتكرر والصدع الشق فصدع الأرض انشقاقها بالنبات وضروب الزروع والأشجار.

الإعراب:

﴿ما الطارق﴾ ما استفهام والجملة مبتدأ وخبر وهي معلقة بإدراك في موضع المفعول الثاني والثالث وقوله ﴿يوم تبلى السرائر﴾ العامل فيه فعل مضمر يدل عليه قوله ﴿على رجعه لقادر﴾ والتقدير يرجعه يوم إبلاء السرائر ولا يجوز أن يعمل فيه المصدر لأنه يكون من صلته وقد فرق بينه وبينه بقوله ﴿لقادر﴾ ويجوز أن يكون العامل فيه قوله ﴿لقادر﴾ ورويدا صفة لمصدر محذوف وتقديره إمهالا رويدا.

المعنى:

أقسم الله سبحانه فقال ﴿والسماء﴾ أي بالسماء وقيل برب السماء وقد بينا القول في ذلك ﴿والطارق﴾ وهو الذي يجيء ليلا ﴿وما أدريك ما الطارق﴾ وذلك أن هذا الاسم يقع على كل ما طرق ليلا ولم يكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يدري ما المراد لو لم يبينه ثم بينه بقوله ﴿النجم الثاقب﴾ أي هو الكوكب المضيء ويريد به العموم وهو جماع النجوم عن الحسن وقيل هو زحل والثاقب العالي على النجوم عن ابن زيد وقيل أراد به الثريا والعرب تسميه النجم وقيل هو القمر لأنه يطلع بالليل عن الفراء وجواب القسم قوله ﴿إن كل نفس لما عليها حافظ﴾ أي ما كل نفس إلا عليها حافظ من الملائكة يحفظ عملها وقولها وفعلها ويحصي ما يكتسبه من خير وشر ومن قرأ لما بالتخفيف فالمعنى إن كل نفس لعليها حافظ يحفظها وقال قتادة حافظ من الملائكة يحفظ عملها ورزقها وأجلها ثم نبه سبحانه على البعث بقوله ﴿فلينظر الإنسان﴾ يعني المكذب بالبعث عن مقاتل ﴿مم خلق﴾ أي فلينظر نظر التفكر والاستدلال من أي شيء خلقه الله وكيف خلقه وأنشأه حتى يعرف أن الذي ابتدأه من نطفة قادر على إعادته ثم ذكر من أي شيء خلقه فقال ﴿خلق من ماء دافق﴾ أي من ماء مهراق في رحم المرأة يعني المني الذي يكون منه الولد عن ابن عباس قال الفراء وأهل الحجاز يجعلون الفاعل بمعنى المفعول في كثير من كلامهم نحو سر كاتم وهم ناصب وليل نائم وقد ذكرناه قبل ثم وصف سبحانه ذلك الماء فقال ﴿يخرج من بين الصلب والترائب﴾ وهو موضع القلادة من الصدر عن ابن عباس قال عطاء يريد صلب الرجل وترائب المرأة والولد لا يكون إلا من الماءين وقيل الترائب اليدان والرجلان والعينان عن الضحاك وسئل عكرمة عن الترائب فقال هذه ووضع يده على صدره بين ثدييه وقيل ما بين المنكبين والصدر عن مجاهد والمشهور في كلام العرب أنها عظام الصدر والنحر ﴿إنه على رجعه لقادر﴾ يعني أن الذي خلقه ابتداء من هذا الماء يقدر على أن يرجعه حيا بعد الموت عن الحسن وقتادة والجبائي وقيل معناه أنه تعالى على رد الماء في الصلب لقادر عن عكرمة ومجاهد وقيل إنه على رد الإنسان ماء كما كان قادر عن الضحاك وقال مقاتل بن حيان يقول إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب ومن الشباب إلى الصبي ومن الصبي إلى النطفة والأصح القول الأول لقوله ﴿يوم تبلى السرائر﴾ أي أنه قادر على بعثه يوم القيامة ومعنى الرجع رد الشيء إلى أول حاله والسرائر أعمال بني آدم والفرائض التي أوجبت عليه وهي سرائر بين الله والعبد وتبلى أي تختبر تلك السرائر يوم القيامة حتى يظهر خيرها من شرها ومؤديها من مضيعها روي ذلك مرفوعا عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ضمن الله خلقه أربع خصال الصلاة والزكاة وصوم رمضان والغسل من الجنابة وهي السرائر التي قال الله ﴿يوم تبلى السرائر﴾ وعن معاذ بن جبل قال سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما هذه السرائر التي تبلى بها العباد في الآخرة فقال سرائركم هي أعمالكم من الصلاة والصيام والزكاة والوضوء والغسل من الجنابة وكل مفروض لأن الأعمال كلها سرائر خفية فإن شاء قال الرجل صليت ولم يصل وإن شاء قال توضأت ولم يتوضأ فذلك قوله ﴿يوم تبلى السرائر﴾ وقيل يظهر الله أعمال كل أحد لأهل القيامة حتى يعلموا على أي شيء أثابه ويكون فيه زيادة سرور له وإن يكن من أهل العقوبة يظهر عمله ليعلموا على أي شيء عاقبه ويكون ذلك زيادة غم له والسرائر ما أسره من خير أو شر وما أضمره من إيمان أو كفر وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال يبدي الله يوم القيامة كل سر ويكون زينا في الوجوه وشينا في الوجوه ﴿فما له﴾ أي فما لهذا الإنسان المنكر للبعث والحشر ﴿من قوة﴾ يمتنع به من عذاب الله ﴿ولا ناصر﴾ ينصره من الله والقوة هي القدرة ثم ذكر سبحانه قسما آخر تأكيدا لأمر القيامة فقال ﴿والسماء ذات الرجع﴾ أي ذات المطر عن أكثر المفسرين وقيل يعني بالرجع شمسها وقمرها ونجومها تغيب ثم تطلع عن ابن زيد وقيل رجع السماء إعطاؤها الخير الذي يكون من جهتها حالا بعد حال على مرور الأزمان فترجع بالغيث وأرزاق العباد وغير ذلك ﴿والأرض ذات الصدع﴾ تتصدع بالنبات أي تنشق فيخرج منها النبات والأشجار ﴿إنه لقول فصل﴾ هذا جواب القسم يعني أن القرآن يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما وروي ذلك عن الصادق (عليه السلام) وقيل معناه إن الوعد بالبعث والإحياء بعد الموت قول فصل أي مقطوع به لا خلاف ولا ريب فيه ﴿وما هو بالهزل﴾ أي هو الجد وليس باللعب وقيل إن القرآن لم ينزل باللعب ثم أخبر سبحانه عن مشركي قريش فقال ﴿إنهم يكيدون كيدا﴾ أي يحتالون في الإيقاع بك وبمن معك ويريدون إطفاء نورك ﴿وأكيد كيدا﴾ أي أريد أمرا آخر على ضد ما يريدون وأدبر ما ينقض تدابيرهم ومكايدهم فسمى ذلك كيدا من حيث يخفى ذلك عليهم ﴿فمهل الكافرين﴾ أي انتظر بهم يا محمد ولا تعاجلهم وارض بتدبير الله فيهم ﴿أمهلهم رويدا﴾ أي إمهالا قليلا عن قتادة وإنما قلل الإمهال لأن ما هو كائن آت لا محالة فهو قليل والمراد به يوم القيامة وقيل أراد يوم بدر والمعنى لا تعجل علي في طلب هلاكهم بل اصبر عليهم قليلا فإن الله مجزيهم لا محالة إما بالقتل والذل في الدنيا أو بالعذاب في الآخرة قال ابن جني قوله ﴿فمهل الكافرين أمهلهم﴾ غير اللفظ لأنه أثر التأكيد وكره التكرير فلما تجشم إعادة اللفظ انحرف عنه بعض الانحراف بتغييره المثال وانتقل عن لفظ فعل إلى لفظ افعل فقال ﴿أمهلهم﴾ ولما تجشم التثليث جاء بالمعنى وترك اللفظ البتة فقال ﴿رويدا﴾.