الآيات 6-10

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ﴿6﴾ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴿7﴾ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا ﴿8﴾ فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ﴿9﴾ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ﴿10﴾

القراءة:

قرأ روح عن يعقوب مختلفا عنه من وجدكم بكسر الواو والقراءة بضم الواو وقرأ ابن كثير وكائن بالمد والهمز والباقون ﴿وكأين﴾ بالهمز والتشديد.

الحجة:

يقال وجدت في المال جدة ووجدا ووجدا ووجدا بتعاقب الحركات الثلاث على الواو ووجدت الضالة وجدانا ووجدت من الحزن وجدا ومن الغضب موجدة ووجدانا وكأين أصله أي دخلت عليها الكاف الجارة كما دخلت على ذا في كذا فموضع كأين رفع بالابتداء كما أن كذا كذلك ولا موضع للكاف كما أن الكاف في كذا كذلك قال أبو علي مثقل هذا في أنه دخل على المبتدأ حرف الجر فصار مع المجرور في موضع رفع قولهم بحسبك أن تفعل كذا يريدون حسبك فعل كذا فالجار مع المجرور في موضع رفع وأنشد أبو زيد:

بحسبك في القوم أن يعلموا

بأنك فيهم غني مضر

وأكثر العرب تستعملها مع من وكذلك ما جاء في التنزيل ومما جاء منه في الشعر قوله:

وكائن بالأباطح من صديق

يراني إن أصبت هو المصابا

وقول الآخر:

وكائن إليكم قاد من رأس فتنة

جنودا وأمثال الجبال كتائبه

المعنى:

ثم بين سبحانه حال المطلقة في النفقة والسكنى فقال ﴿أسكنوهن﴾ أي في بيوتكم ﴿من حيث سكنتم﴾ من المساكن ﴿من وجدكم﴾ أي من ملككم وما تقدرون عليه عن السدي وأبي مسلم وقيل هو من الوجدان أي مما تجدونه من المساكن عن الحسن والجبائي وقيل من سعتكم وطاقتكم من الوجد الذي هو المقدرة قال الفراء يعول على ما يجد فإن كان موسعا وسع عليها في المسكن والنفقة وإن كان فقيرا فعلى قدر ذلك ويجب السكنى والنفقة للمطلقة الرجعية بلا خلاف فأما المبتوتة ففيها خلاف فذهب أهل العراق إلى أن لها السكنى والنفقة معا وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وذهب الشافعي إلى أن لها السكنى بلا نفقة وذهب الحسن وأبو ثور إلى أنه لا سكنى لها ولا نفقة وهو المروي عن أئمة الهدى (عليهم السلام) وذهب إليه أصحابنا ويدل عليه ما رواه الشعبي قال دخلت على فاطمة بنت قيس بالمدينة فسألتها عن قضاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت طلقني زوجي البتة فخاصمته إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في السكنى والنفقة فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة وأمرني أن أعتد في بيت ابن أم مكتوم وروى الزهري عن عبد الله أن فاطمة بنت قيس كانت تحت أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي وأنه خرج مع علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى اليمن حين أمره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على اليمن فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها فأمر عياش ابن أبي ربيعة والحرث بن هشام أن ينفقا عليها فقالا والله ما لك من نفقة فأتت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكرت له قولهما فلم يجعل لها نفقة إلا أن تكون حاملا فاستأذنته في الانتقال فأذن لها فقالت إني أنتقل يا رسول الله قال عند ابن أم مكتوم وكان أعمى تضع ثيابها عنده ولا يراها فلم تزل هناك حتى مضت عدتها فأنكحها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أسامة بن زيد قال فأرسل إليها مروان بن الحكم قبيصة بن ذؤيب فسألها عن هذا الحديث ثم قال مروان لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة وسنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان بيني وبينكم القرآن قال الله تعالى لا تخرجوهن من بيوتهن إلى قوله لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا قالت هذا لمن كانت له مراجعة وأي أمر يحدث بعد الثلاث ثم قال سبحانه ﴿ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن﴾ أي لا تدخلوا الضرر عليهن بالتقصير في السكنى والنفقة والكسوة طالبين بالإضرار التضييق عليهن ليخرجن وقيل المعنى أعطوهن من المسكن ما يكفيهن لجلوسهن ومبيتهن وطهارتهن ولا تضايقوهن حتى يتعذر عليهن السكنى عن أبي مسلم ﴿وإن كن أولات حمل﴾ أي كن حوامل ﴿فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن﴾، لأن عدتهن إنما تنقضي بوضع حملهن أمر الله سبحانه بالإنفاق على المطلقة الحامل سواء كانت رجعية أو مبتوتة ﴿فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن﴾ أي فإن أرضعن الولد لأجلكم بعد البينونة فأعطوهن أجر الرضاع يعني أجرة المثل ﴿وأتمروا بينكم بمعروف﴾ هذا خطاب للرجل والمرأة والائتمار قبول الأمر وملاقاته بالتقبل أمر الله تعالى المرضعة والمرضع له بالتلقي لأمره عز وجل ولأمر صاحبه إذا كان حسنا وقيل معناه وليأمر بعضكم بعضا بالجميل في إرضاع الوالد أي بتراضي الوالد والوالدة بعد وقوع الفرقة في الأجرة على الأب وإرضاع الولد بحيث لا يضر بمال الوالد ولا بنفس الولد ولا يزاد على الأجر المتعارف ولا ينقص الولد عن الرضاع المعتاد قال الكسائي أصله التشاور ومنه يأتمرون بك أي يتشاورون والأقوى عندي أن يكون المعنى دبروا بالمعروف بينكم في أمر الولد ومراعاة أمه حتى لا يفوت الولد شفقتها وغير ذلك ويدل عليه قول امرىء القيس:

أحار بن عمرو كأني خمر

ويعدو على المرء ما يأتمر

يعني ما يدبره في نفسه لأن الرجل بما دبر أمرا ليس برشد فيعدو عليه ويهلكه ﴿وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى﴾ والمعنى فإن اختلفتم في الرضاع وفي الأجر فسترضع له امرأة أخرى أجنبية أي فليسترضع الوالد غير والدة الصبي ثم قال سبحانه ﴿لينفق ذو سعة من سعته﴾ أمر سبحانه أهل التوسعة أن يوسعوا على نسائهم المرضعات أولادهن على قدر سعتهم ﴿ومن قدر عليه﴾ أي ضيق عليه ﴿رزقه فلينفق مما آتاه الله﴾ والمعنى ومن كان رزقه بمقدار القوت فلينفق على قدر ذلك وعلى حسب إمكانه وطاقته ﴿لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها﴾ أي إلا بقدر ما أعطاها من الطاقة وفي هذا دلالة على أنه سبحانه لا يكلف أحدا ما لا يقدر عليه وما لا يطيقه ﴿سيجعل الله بعد عسر يسرا﴾ أي بعد ضيق سعة وبعد فقر غنى وبعد صعوبة الأمر سهولة وفي هذا تسلية للصحابة فإن الغالب على أكثرهم في ذلك الوقت الفقر ثم فتح الله تعالى عليهم البلاد فيما بعد ﴿وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله﴾ أي وكم من أهل قرية عتوا على الله وعلى أنبيائه يعني جاوزوا الحد في العصيان والمخالفة ﴿فحاسبناها حسابا شديدا﴾ بالمناقشة والاستقصاء باستيفاء الحق وإيفائه قال مقاتل حاسبها الله تعالى بعملها في الدنيا فجازاها بالعذاب وهو قوله ﴿وعذبناها عذابا نكرا﴾ فجعل المجازاة بالعذاب محاسبة وهو عذاب الاستئصال وقيل هو عذاب النار فإن اللفظ ماض بمعنى المستقبل والنكر المنكر الفظيع الذي لم ير مثله وقيل إن في الآية تقديما وتأخيرا تقديره فعذبناها في الدنيا بالجوع والقحط والسيف وسائر المصائب والبلايا وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا وقيل الحساب الشديد هو الذي ليس فيه عفو ﴿فذاقت وبال أمرها﴾ أي ثقل عاقبة كفرها ﴿وكان عاقبة أمرها خسرا﴾ أي خسرانا في الدنيا والآخرة وهو قوله ﴿أعد الله لهم عذابا شديدا﴾ يعني عذاب النار وهذا يدل على أن المراد بالعذاب الأول عذاب الدنيا ثم قال ﴿فاتقوا الله يا أولي الألباب﴾ أي يا أصحاب العقول ولا تفعلوا مثل ما فعل أولئك فينزل بكم مثل ما نزل بهم ثم وصف أولي الألباب بقوله ﴿الذين آمنوا﴾ وخص المؤمنين بالذكر لأنهم المنتفعون بذلك دون الكفار ثم ابتدأ سبحانه فقال ﴿قد أنزل الله إليكم ذكرا﴾ يعني القرآن وقيل يعني الرسول عن الحسن وروي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام).

النظم:

الوجه في اتصال قوله ﴿وكأين من قرية عتت عن أمر ربها﴾ الآية بما قبله أنه سبحانه بين أن الخوف في مقابلة الرجاء وسبيل العاقل أن يحترز من المخوف ويقدم الاحتراز عن الخوف على الرجاء والذي يقوي جانب الخوف أنه أهلك الأمم الماضية بسبب عصيانها وتمردها عن أمر ربها.