الآيات 41-46
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴿41﴾ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴿42﴾ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ﴿43﴾ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ ﴿44﴾ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿45﴾ لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿46﴾
القراءة:
قرأ أبو جعفر يذهب بالأبصار بضم الياء وكسر الهاء والباقون ﴿يذهب﴾.
الحجة:
من قرأ يذهب فالباء زائدة وتقديره يذهب الأبصار ومثله قوله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وقول الهذلي:
شربن بماء البحر ثم ترفعت
متى لجج خضر لهن نئيج
أي شربن ماء البحر قال ابن جني إنما يزاد اللام لتوكيد معنى الإضافة في قوله:
يا بوس للحرب ضرارا لأقوام وإن شئت حملته على المعنى فكأنه قال يكاد سنا برقه يلوي بالأبصار أي يستأثر بالأبصار وقد ذكرنا اختلافهم في قوله ﴿خلق كل دابة﴾ والوجه في سورة إبراهيم.
اللغة:
الإزجاء والتزجية الدفع والسوق وزجا الخراج يزجو زجاء إذا انساق إلى أهله وتيسر جبايته والركام المتراكم بعضه على بعض والركمة الطين المجموع والودق المطر ودقت السماء تدق ودقا إذا أمطرت قال الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها
ولا أرض أبقل أبقالها
والخلال جمع الخلل وهو الفرجة بين الشيئين والبرد أصله من البرد خلاف الحر وسحاب برد أتى بالبرد ويقال سمي البرد لأنه يبرد وجه الأرض أي يقشره من بردت الشيء بالمبرد والسنا مقصورا الضوء وهو بالمد الرفعة.
الإعراب:
﴿صافات﴾ حال من ﴿الطير﴾ و﴿ينزل من السماء﴾ من لابتداء الغاية لأن السماء مبدأ لإنزال المطر ﴿من جبال﴾ من للتبعيض لأن البرد بعض الجبال التي في السماء ﴿من برد﴾ من لتبيين الجنس لأن جنس الجبال جنس أبرد عن علي بن عيسى والتحقيق أن قوله ﴿من جبال﴾ بدل من قوله ﴿من السماء﴾ وقوله ﴿فيها﴾ في يتعلق بمحذوف وتقديره من جبال كائنة في السماء فالجار والمجرور في موضع الصفة لجبال تقديره من جبال سماوية وقوله ﴿من برد﴾ يتعلق بمحذوف آخر في محل جر لأنه صفة بعد صفة تقديره من جبال سماوية بردية ومفعول ﴿ينزل﴾ محذوف أي ينزل من جبال في السماء من برد بردا كما يقال أخذت من المال شيئا وقوله ﴿على بطنه﴾ في موضع نصب على الحال وكذلك قوله ﴿على رجلين﴾ و﴿على أربع﴾ ومن الأولى والثالثة بمعنى ما.
المعنى:
ثم ذكر سبحانه الآيات التي جعلها نورا للعقلاء العارفين بالله وصفاته فقال ﴿ألم تر﴾ أي ألم تعلم يا محمد لأن ما ذكر في الآية لا يرى بالأبصار وإنما يعلم بالأدلة والخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد به جميع المكلفين ﴿إن الله يسبح له من في السماوات والأرض﴾ والتسبيح التنزيه لله تعالى عما لا يجوز عليه ولا يليق به أي ينزهه أهل السماوات وأهل الأرض بألسنتهم وقيل عنى به العقلاء وغيرهم وكنى عن الجميع بلفظة من تغليبا للعقلاء على غيرهم ﴿والطير﴾ أي ويسبح له الطير ﴿صافات﴾ أي واقفات في الجو مصطفات الأجنحة في الهواء وتسبيحها ما يرى عليها من آثار الحدوث ﴿كل قد علم صلاته وتسبيحه﴾ معناه أن جميع ذلك قد علم الله تعالى دعاءه إلى توحيده وتسبيحه وتنزيهه وقيل إن الصلاة للإنسان والتسبيح لكل شيء عن مجاهد وجماعة وقيل معناه كل واحد منهم قد علم صلاته وتسبيحه أي صلاة نفسه وتسبيح نفسه فيؤديه في وقته فيكون الضمير في علم الكل وفي الأول يعود الضمير إلى اسم الله تعالى وهو أجود لأن الأشياء كلها لا يعلم كيفية دلالتها على الله وإنما يعلم الله تعالى ذلك ﴿والله عليم بما يفعلون﴾ أي عالم بأفعالهم فيجازيهم بحسبها ﴿ولله ملك السماوات والأرض﴾ والملك المقدور الواسع لمن يملك السياسة والتدبير فملك السماوات والأرض لا يصح إلا لله وحده لأنه القادر على الأجسام لا يقدر على خلقها غيره فالملك التام لا يصح إلا له سبحانه ﴿وإلى الله المصير﴾ أي المرجع يوم القيامة ثم قال ﴿ألم تر﴾ أي ألم تعلم ﴿أن الله يزجي سحابا﴾ أي يسوقه سوقا رفيقا إلى حيث يريد ﴿ثم يؤلف بينه﴾ أي يضم بعضه إلى بعض فيجعل القطع المتفرقة منه قطعة واحدة ﴿ثم يجعله ركاما﴾ أي متراكما متراكبا بعضه فوق بعض ﴿فترى الودق يخرج من خلاله﴾ أي ترى المطر والقطر يخرج من خلال السحاب أي مخارج القطر منه ﴿وينزل من السماء من جبال فيها من برد﴾ أي وينزل من جبال في السماء تلك الجبال من برد بردا والسماء السحاب لأن كل ما علا مطبقا فهو سماء ويجوز أن يكون البرد يجتمع في السحاب كالجبال ثم ينزل منها عن البلخي وغيره وقيل معناه وينزل من السماء مقدار جبال من برد كما يقول عندي بيتان من تبن أي قدر بيتين عن الفراء وقيل أراد السماء المعروفة فيها جبال من برد مخلوقة عن الحسن والجبائي ﴿فيصيب به﴾ أي بالبرد أي بضرره ﴿من يشاء﴾ فيهلك زرعه وماله ﴿و يصرفه عمن يشاء﴾ أي ويصرف ضرره عمن يشاء فيكون أصابته نقمة وصرفه نعمة ﴿يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار﴾ أي يقرب ضوء برق السحاب من أن يذهب بالبصر ويخطفه لشدة لمعانه كما قال يكاد البرق يخطف أبصارهم ﴿يقلب الله الليل والنهار﴾ أي يصرفهما في اختلافهما وتعاقبهما وإدخال أحدهما في الآخر ﴿إن في ذلك﴾ التقليب ﴿لعبرة﴾ أي دلالة ﴿لأولي الأبصار﴾ أي لذوي العقول والبصائر ﴿والله خلق كل دابة﴾ أي كل حيوان يدب على وجه الأرض ولا يدخل فيه الجن والملائكة ﴿من ماء﴾ أي من نطفة وقيل عنى به الماء لأن أصل الخلق من الماء لأن الله خلق الماء وجعل بعضه نارا فخلق الجن منها وبعضه ريحا فخلق منه الملائكة وبعضه طينا فخلق منه آدم (عليه السلام) فأصل الحيوان كله الماء ويدل عليه قوله وجعلنا من الماء كل شيء حي ﴿فمنهم من يمشي على بطنه﴾ كالحية والحوت والدود ﴿ومنهم من يمشي على رجلين﴾ كالإنس والطير ﴿ومنهم من يمشي على أربع﴾ كالأنعام والوحوش والسباع ولم يذكر ما يمشي على أكثر من أربع لأنه كالذي يمشي على أربع في رأي العين فترك ذكره لأن العبرة تكفي بذكر الأربع قال البلخي إن الفلاسفة تقول كل ما له قوائم كثيرة فإن اعتماده إذا سعى على أربعة قوائم فقط وقال أبو جعفر (عليه السلام) ومنهم من يمشي على أكثر من ذلك ﴿يخلق الله ما يشاء﴾ أي يخترع ما يشاء وينشئه من الحيوان وغيره وقال المبرد قوله ﴿كل دابة﴾ للناس وغيرهم وإذا اختلط النوعان حمل الكلام على الأغلب فلذلك قال من لغير ما يعقل ﴿إن الله على كل شيء قدير﴾ يخلق هذه الأشياء لقدرته عليها فاختلاف هذه الحيوانات مع اتفاق أصلها يدل على أن لها قادرا خالقا عالما حكيما ﴿لقد أنزلنا آيات مبينات﴾ أي دلالات واضحات بينات ﴿والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم﴾ أي من جملة تلك الدواب وعنى به المكلفين دون من ليس بمكلف والصراط المستقيم الإيمان لأنه يؤدي إلى الجنة وقيل إن المراد يهدي في الآخرة إلى طريق الجنة.