الآيات 11-15
إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿11﴾ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ﴿12﴾ لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴿13﴾ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿14﴾ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴿15﴾
القراءة:
قرأ يعقوب كبره بضم الكاف وهو قراءة أبي رجا وحميد الأعرج وقراءة القراء ﴿كبره﴾ بكسر الكاف وفي الشواذ قراءة عائشة وابن عباس وابن معمر إذ تلقونه وقراءة ابن السميفع تلقونه والقراءة المشهورة ﴿تلقونه﴾.
الحجة:
من ضم كبره أراد عظمه ومن كسر أراد وزره وإثمه قال قيس بن الخطيم:
تنام عن كبر شأنها فإذا
قامت رويدا تكاد تتغرف
أي عن معظم شأنها وأما قوله ﴿تلقونه﴾ فمعناه تسرعون فيه وتخفون إليه قال الراجز جاءت به عنس من الشام تلق أي تخف وأصله تلقون فيه أو إليه فحذف حرف الجر فوصل الفعل إلى المفعول وقيل إن الولق الكذب فكان الكاذب يستمر في الكذب ويسرع فيه وجاء في حديث علي (عليه السلام) كذبت وولقت وأما تلقونه فمعناه تلقونه بأفواهكم وأما تلقونه فهو من تلقيت الحديث من فلان أي أخذته منه قبلته.
النزول:
روى الزهري عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وغيرهما عن عائشة أنها قالت كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيهن خرج سهمها خرج بها فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي وذلك بعد ما أنزل الحجاب فخرجت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى فرغ من غزوة وقفل وروي أنها كانت غزوة بني المصطلق من خزاعة قالت ودنونا من المدينة فقمت حين أذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدرتي فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذي كانوا يرحلونني فحملوا هودجي على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه وكانت النساء إذا ذاك خفافا لم يهبلهن اللحم (ولم يغشهن اللحم خل) إنما يأكلن العلقة من الطعام فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي وجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فسموت منزلي الذي كنت فيه وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إلي فبينا أنا جالسة إذ غلبتني عيناي فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي قد عرس من وراء الجيش فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني فخمرت وجهي بجلبابي ووالله ما كلمني بكلمة حتى أناخ راحلته فركبتها فانطلق يقود الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في حر الظهيرة فهلك من هلك في وكان الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبي سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمتها شهرا والناس يفيضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يرثيني في وجعي غير أني لا أعرف من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اللطف الذي كنت أرى منه حين اشتكى إنما يدخل فيسلم ثم يقول كيف تيكم فذلك يحزنني ولا أشعر بالسر حتى خرجت بعد ما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المصانع وهو متبرزنا ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا وانطلقت أنا وأم مسطح وأمها بنت ضخرة بن عامر خالة أبي فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت تعس مسطح فقلت لها بئس ما قلت أ تسبين رجلا قد شهد بدرا فقالت أي بنتاه أ لم تسمعي ما قال قلت وما ذا قال فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا إلى مرضي فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قال كيف تيكم قلت تأذن لي أن آتي أبوي قالت وأنا أريد أن أتيقن الخبر من قبله فأذن لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجئت أبوي وقلت لأمي يا أماه ما ذا يتحدث الناس فقالت أي بنية هوني عليك فو الله لقل ما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها قلت سبحان الله أو قد يحدث الناس بهذا قالت نعم فمكثت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي ودعا رسول الله أسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله فأما أسامة فأشار على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالذي علم من براءة أهله وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود فقال يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا فأما علي بن أبي طالب عليه أفضل الصلوات فقال لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثيرة وإن تسأل الجارية تصدقك فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بريرة فقال يا بريرة هل رأيت شيئا يريبك من عائشة قالت بريرة والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا قط أغمضه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها قالت وأنا والله أعلم أني بريئة وما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله رؤيا يبرئني الله بها فأنزل الله تعالى على نبيه وأخذه ما كان يأخذه من برحاء الوحي حتى أنه لينحدر عنه مثل الجمان من العرق في اليوم الثاني من ثقل القول الذي أنزل عليه فلما سرى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال أبشري يا عائشة أما الله فقد برأك فقالت لي أمي قومي إليه فقلت والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله فهو الذي أنزل براءتي فأنزل الله تعالى ﴿إن الذين جاءوا بالإفك﴾ الآيات العشر.
المعنى:
﴿إن الذين جاءوا بالإفك﴾ أي بالكذب العظيم الذي قلب فيه الأمر عن وجهه ﴿عصبة منكم﴾ أيها المسلمون قال ابن عباس وعائشة منهم عبد الله بن أبي سلول وهو الذي تولى كبره ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ﴿لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم﴾ هذا خطاب لعائشة وصفوان لأنهما قصدا بالإفك ولمن اغتم بسبب ذلك وخطاب لكل من رمى بسبب عن ابن عباس أي لا تحسبوا غم الإفك شرا لكم بل هو خير لكم لأن الله تعالى يبريء عائشة ويأجرها بصبرها واحتسابها ويلزم أصحاب الإفك ما استحقوه بالإثم الذي ارتكبوه في أمرها وقال الحسن هذا خطاب للقاذفين من المؤمنين والمعنى لا تحسبوا أيها القذفة هذا التأديب شرا لكم بل هو خير لكم فإنه يدعوكم إلى التوبة ويمنعكم عن المعاودة إلى مثله ﴿لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم﴾ أي لكل امرىء من القذفة جزاء ما اكتسبه من الإثم بقدر ما خاض وأفاض فيه وقيل معناه على كل امرىء منهم عقاب ما اكتسب كقوله ﴿وإن أسأتم فلها﴾ أي فعليها ﴿والذي تولى كبره﴾ أي تحمل معظمه ﴿منهم له عذاب عظيم﴾ المراد به عبد الله بن أبي سلول أي فإنه كان رأس أصحاب الإفك كان يجتمع الناس عنده ويحدثهم بحديث الإفك ويشيع ذلك بين الناس ويقول قال امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها والله ما نجت منه ولا نجا منها والعذاب العظيم عذاب جهنم في الآخرة وقيل المراد به مسطح بن أثاثة وقيل حسان بن ثابت فإنه روي أنه دخل على عائشة بعد ما كف بصره فقيل لها أنه يدخل عليك وقد قال فيك ما قال وقد قال الله تعالى والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم فقالت عائشة أ ليس قد كف بصره فأنشد حسان قوله فيها:
حصان رزان ما تزن بريبة
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت عائشة لكنك لست كذلك ﴿لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا﴾ معناه هلا حين سمعتم هذا الإفك من القائلين له ظن المؤمنون والمؤمنات بالذين هم كأنفسهم خيرا لأن المؤمنين كلهم كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور فإذا جرى على أحدهم محنة فكأنها جرت على جماعتهم فهو كقوله ﴿فسلموا على أنفسكم﴾ عن مجاهد وعلى هذا يكون خطابا لمن سمعه فسكت ولم يصدق ولم يكذب وقيل هو خطاب لمن أشاعه والمعنى هلا إذا سمعتم هذا الحديث ظننتم بها ما تظنونه بأنفسكم لو خلوتم بها وذلك لأنها كانت أم المؤمنين ومن خلا بأمه فإنه لا يطمع فيها وهي لا تطمع فيه ﴿وقالوا هذا إفك مبين﴾ أي وهلا قالوا هذا القول كذب ظاهر ﴿لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء﴾ أي هلا جاءوا على ما قالوه ببينة وهي أربعة شهداء يشهدون بما قالوه ﴿فإذا لم يأتوا بالشهداء﴾ أي فحين لم يأتوا بالشهداء ﴿فأولئك﴾ الذين قالوا هذا الإفك ﴿عند الله﴾ أي في حكمه ﴿هم الكاذبون ولو لا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة﴾ بأن أمهلكم لتتوبوا ولم يعاجلكم بالعقوبة ﴿لمسكم﴾ أي أصابكم ﴿فيما أفضتم﴾ أي خضتم ﴿فيه﴾ من الإفك ﴿عذاب عظيم﴾ أي عذاب لا انقطاع له عن ابن عباس ثم ذكر الوقت الذي كان يصيبهم العذاب فيه لو لا فضله فقال ﴿إذ تلقونه بألسنتكم﴾ أي يرويه بعضكم عن بعض عن مجاهد ومقاتل وقيل معناه تقبلونه من غير دليل ولذلك إضافة إلى اللسان وقيل معناه يلقيه بعضكم إلى بعض عن الزجاج ﴿وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا﴾ أي تظنون أن ذلك سهل لا إثم فيه ﴿وهو عند الله عظيم﴾ في الوزر لأنه كذب وافتراء.