الآيات 21-23

وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ﴿21﴾ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي كِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴿22﴾ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿23﴾

القراءة:

قرأ روح وزيد عن يعقوب وسهل يمكرون بالياء والباقون بالتاء وقرأ ينشركم بالنون والشين من النشر أبو جعفر وابن عامر والباقون ﴿يسيركم﴾ بالسين والياء من التسيير وقرأ حفص وحده ﴿متاع﴾ بالنصب والباقون بالرفع.

الحجة:

من قرأ يمكرون بالياء فلقوله ﴿إذا لهم مكر في آياتنا﴾ ومن قرأ بالتاء فللخطاب أي قل لهم يا محمد إن رسل الله يكتبون ما تمكرون ومن قرأ ﴿يسيركم﴾ يقويه قوله فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وقوله قل سيروا في الأرض ويقال سار الدابة وسرته وسيرته قال:

فلا تجز عن من سنة أنت سرتها

وقال لبيد:

فبنيان حرب أن تبوء بحربة

وقد يقبل الضيم الذليل المسير

ومن قرأ ينشركم فحجته قوله وبث منهما رجالا كثيرا ونساء وقوله وما بث فيهما من دابة والبث التفريق والنشر في المعنى وأما ﴿متاع الحياة الدنيا﴾ فقد قال الزجاج من رفع فعلى وجهين (أحدهما) أن يكون ﴿متاع الحياة الدنيا﴾ خبرا لقوله ﴿بغيكم﴾ (والآخر) أن يكون خبر المبتدأ ﴿على أنفسكم﴾ و﴿متاع الحياة﴾ على إضمار هو ومن نصب فعلى المصدر أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا قال أبو علي قوله ﴿على أنفسكم﴾ يحتمل تأويلين (أحدهما) أن يكون متعلقا بالمصدر لأن فعله يتعدى بهذا الحرف ألا ترى إلى قوله بغى بعضنا على بعض ثم بغي عليه وإذا كان الجار من صلة المصدر كان الخبر ﴿متاع الحياة الدنيا﴾ فيكون معناه بغى بعضكم على بعض متاع الحياة في الدنيا وليس ما يقرب إلى الله ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف فيكون خبرا للمصدر وفيه ذكر يعود إليه فيكون كقولك الصلاة في المسجد فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل ومفعوله محذوفا والمعنى إنما بغى بعضكم على بعض بما يدل على أنفسكم ويكون كقوله ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله ومن نصب احتمل النصب وجهين (أحدهما) أن يكون على من صلة المصدر ويكون الناصب لمتاع هو المصدر الذي هو البغي ويكون خبر المبتدأ محذوفا وحسن حذفه لطول الكلام ولأن بغيكم يدل على تبغون فيحسن الحذف لذلك وهذا الخبر لو أظهرته لكان يكون مكروه أو مذموم أو منهي عنه ونحو ذلك (والآخر) أن يكون ﴿على أنفسكم﴾ خبر المبتدأ فيكون متاع منصوبا على وجهين (أحدهما) تمتعون متاعا فيدل انتصاب المصدر عليه (والآخر) أن يضمر تبغون لأن ما يجري مجرى ذكره قد تقدم كأنه لو أظهره لكان تبغون متاع الحياة الدنيا فيكون مفعولا له ولا يجوز أن يتعلق المصدر بالمصدر في قوله ﴿إنما بغيكم﴾ وقد جعلت على خبرا لقوله ﴿إنما بغيكم﴾ لفصلك بين الصلة والموصول.

اللغة:

التسيير التحريك في جهة تمتد كالسير الممدود والبر الأرض الواسعة التي تقطع من بلد إلى بلد ومنه البر لاتساع الخير به والبحر مستقر الماء الواسع حتى لا يرى من وسطه حافتاه والفلك السفن وسميت فلكا لدورانها في الماء وأصله الدور ومنه فلكة المغزل وتفلك ثدي الجارية إذا استدار والفلك يكون جمعا وواحدا وهو هاهنا جمع والعاصف الريح الشديدة وعصفت الريح فهي عاصف وعاصفة قال:

حتى إذا عصفت ريح مزعزعة

فيها قطار ورعد صوته زجل

الإعراب:

جواب إذا الأولى في إذا الثانية وإنما جعل إذا جوابا لكونها بمعنى الجملة لما فيها من معنى المفاجاة وهي ظرف مكان وهو كقوله ﴿وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون﴾ ومعناه إن تصبهم سيئة قنطوا وإذا أذقنا الناس رحمة مكروا وجرين بهم ابتداء الكلام خطاب وبعد ذلك إخبار عن غائب لأن كل من أقام الغائب مقام من يخاطبه جاز له أن يرده إلى الغائب قال كثير:

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة

لدينا ولا مقلية إن تقلت

وقال عنترة:

شطت مزار العاشقين فأصبحت

عسرا علي طلابك ابنة مخرم

وقوله ﴿فلما أنجاهم إذا هم يبغون﴾ المعنى فلما أنجاهم بغوا

المعنى:

ثم أخبر سبحانه عن ذميم فعالهم فقال ﴿وإذا أذقنا الناس رحمة﴾ يريد بالناس الكفار فهو عموم يراد به الخصوص ﴿من بعد ضراء مستهم﴾ أي راحة ورخاء بعد شدة وبلاء وحقيقة الذوق فيما له طعم يوجد إنما يكون طعمه بالفم وإنما قال أذقناهم الرحمة على طريق البلاغة لشدة إدراك الحاسة إياها ﴿إذا لهم مكر في آياتنا﴾ أي فهم يحتالون لدفع آياتنا بكل ما يجدون السبيل إليه من شبهة أو تخليط في مناظرة أو غير ذلك من الأمور الفاسدة وقال مجاهد مكرهم استهزاؤهم وتكذيبهم ﴿قل﴾ يا محمد لهم ﴿الله أسرع مكرا﴾ أي أقدر جزاء على المكر ومعناه أن ما يأتيهم من العقاب أسرع مما أتوه من المكر أي أوقع في حقه وقيل أن مكره سبحانه إنزاله العقوبة بهم من حيث لا يشعرون ﴿إن رسلنا﴾ يعني الملائكة الحفظة ﴿يكتبون ما تمكرون﴾ أي ما تدبرون من سوء التدبير وفي هذا غاية الزجر والتهديد من وجهين (أحدهما) أنه يحفظ مكرهم (والآخر) أنه أقدر على جزائهم وأسرع فيه ثم امتن الله سبحانه على خلقه بأن عدد نعمه التي يفعلها بهم في كل حال فقال ﴿هو الذي يسيركم في البر والبحر﴾ أي يمكنكم من المسير في البر والبحر بما هيأ لكم من آلات السير وهي خلق الدواب وتسخيرها لكم لتركبوها في البر وتحملوا عليها أثقالكم وهيأ السفن في البحر وإرسال الرياح المختلفة التي تجري بالسفن في الجهات المختلفة ﴿حتى إذا كنتم في الفلك﴾ خص الخطاب براكب البحر أي إذا كنتم راكبي السفن في البحر ﴿وجرين بهم﴾ أي وجرت السفن بالناس لما ركبوها عدل عن الخطاب إلى الإخبار عن الغائب تصرفا في الكلام على أنه يجوز أن يكون خطابا لمن كان في تلك الحال وإخبارا لغيرهم من الناس ﴿بريح طيبة﴾ أي بريح لينة يستطيبونها ﴿وفرحوا بها﴾ أي سروا بتلك الريح لأنها تبلغهم مقصودهم عن أبي مسلم وقيل فرحوا بالسفينة حيث حملتهم وأمتعتهم ﴿جاءتها ريح عاصف﴾ أي جاءت للسفينة ريح عاصف شديدة الهبوب الهائلة ﴿وجاءهم الموج من كل مكان﴾ من البحر والموج اضطراب البحر ومعناه وجاء راكبي البحر الأمواج العظيمة من جميع الوجوه ﴿وظنوا أنهم أحيط بهم﴾ أي أيقنوا أنهم دنوا من الهلاك وقيل غلب على ظنهم أنهم سيهلكون لما أحاط بهم من الأمواج ﴿دعوا الله﴾ عند هذه الشدائد والأهوال والتجئوا إليه ليكشف ذلك عنهم ﴿مخلصين له الدين﴾ أي على وجه الإخلاص في الاعتقاد ولم يذكروا الأوثان والأصنام لعلمهم بأنها لا تنفعهم هاهنا شيئا وقالوا ﴿لئن أنجيتنا﴾ يا رب ﴿من هذه﴾ الشدة ﴿لنكونن من الشاكرين﴾ أي من جملة من يشكرك على نعمك وقوله ﴿جاءتها ريح عاصف﴾ جواب قوله ﴿إذا كنتم في الفلك﴾ وقوله ﴿دعوا الله﴾ جواب قوله ﴿وظنوا أنهم أحيط بهم﴾ ﴿فلما أنجاهم﴾ أي خلصهم الله تعالى من تلك المحن ﴿إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق﴾ أي يعملون فيها بالمعاصي والفساد ويشتغلون بالظلم على الأنبياء وعلى المسلمين ﴿يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا﴾ أي بغي بعضكم على بعض وما ينالونه به متاع في الدنيا وإنما تأتونه لحبكم العاجلة وإيثارها على ما يقرب إلى الله تعالى من الطاعات وقد مر بيانه قبل ﴿ثم إلينا مرجعكم﴾ في الآخرة ﴿فننبئكم بما كنتم تعملون﴾ أي نخبركم بأعمالكم لأنا أثبتناها عليكم وهي كلمة تهديد ووعيد.

النظم:

قيل إنما اتصل قوله ﴿هو الذي يسيركم﴾ الآية بما قبله لأنه تفسير لبعض ما أجمل في الآية المتقدمة التي هي قوله ﴿وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم﴾ عن أبي مسلم وقيل إنه يتصل بما تقدم في السورة من دلائل التوحيد فكأنه قال إلهكم الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وهو الذي يسيركم.