الآيات 1-3

سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿1﴾ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿2﴾ الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴿3﴾

القراءة:

قرأ ابن كثير وأبو عمرو وفرضناها بالتشديد والباقون بالتخفيف وقرأ ابن كثير غير ابن فليح رأفة بفتح الهمزة والباقون بسكون الهمزة وفي الشواذ قراءة عيسى الثقفي سورة بالنصب والزانية والزاني بالنصب وروي عن عمر بن عبد العزيز وعيسى الهمداني سورة أيضا بالنصب.

الحجة:

قال أبو علي التثقيل في فرضناها لكثرة ما فيها من الفرض والتخفيف يصلح للقليل والكثير ومن حجة التخفيف إن الذي فرض عليك القرآن لرادك قال ولعل رأفة التي قرأها ابن كثير لغة وأما قراءة ﴿سورة﴾ بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هذه سورة ولا يجوز أن يكون مبتدأ لأنها نكرة ولا يبتدأ بالنكرة حتى توصف وإن جعلت ﴿أنزلناها وفرضناها﴾ صفة لها بقي المبتدأ بلا خبر فإن جعلت تقديره يتلى عليكم سورة أنزلناها جاز ومن قرأ سورة بالنصب فعلى إضمار فعل يفسره ﴿أنزلناها﴾ والتقدير أنزلنا سورة أنزلناه إلا أن هذا الفعل لا يظهر لأن التفسير يغني عنه ومثله قول الشاعر:

أصبحت لا أحمل السلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا

والذئب أخشاه إن مررت به

وحدي وأخشى الرياح والمطرا

أي وأخشى الذئب فلما أضمره فسره بقوله أخشاه ويجوز أن يكون الفعل الناصب لسورة من غير لفظ الفعل بعدها على معنى التخصيص أي اقرءوا سورة وتأملوا سورة أنزلناها كقوله سبحانه ناقة الله وسقياها أي احفظوا ناقة الله وكذلك قوله ﴿الزانية والزاني﴾ انتصب بفعل مضمر أي اجلدوا الزانية والزاني فلما أضمر الفعل الناصب فسره بقوله ﴿فاجلدوا كل واحد منهما﴾ وجاز دخول الفاء في هذا الوجه لأنه موضع أمر ولا يجوز زيدا فضربته لأنه خبر وإنما جاز في الأمر لمضارعته الشرط ألا تراه دالا على الشرط ولذلك انجزم جوابه في قولك زرني أكرمك لأن معناه فإنك إن تزرني أكرمك فلما آل معناه إلى الشرط جاز دخول الفاء في الفعل المفسر للمضمر وتقول على هذا بزيد فامرر وعلى عمرو فأغضب.

اللغة:

السورة مأخوذة من سور البناء وهو ارتفاعه وقيل هو ساق من أسواقه فعلى القول الأول يكون تسميتها بذلك لارتفاعها في النفوس وعلى القول الثاني يكون تسميتها بذلك لأنها قطعة من القرآن وقيل إن السورة المنزلة الشريفة والجلالة قال النابغة:

ألم تر أن الله أعطاك سورة

ترى كل ملك دونها يتذبذب

لأنك شمس والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهن كوكب

وقيل أصله الهمز وقيل اشتقاقها من أسأرت إذا أبقيت في الإناء بقية ومنه الحديث إذا شربتم فأساروا إلا أنه أجمع على تخفيفها كما أجمع على تخفيف برية وروية وأصلها من برأ الله الخلق وروأت في الأمر وأصل الفرض من فرض القوس وهو الحز الذي فيه الوتر ثم اتسع فيه فجعل في موضع الإيجاب وفصل بين الفرض والواجب فإن الفرض واجب بجعل جاعل لأنه فرضه على صاحبه كما أنه أوجبه عليه والواجب قد يكون واجبا من غير جعل جاعل كوجوب شكر المنعم فجرى دلالة الفعل على الفاعل في أنه يدل من غير جعل جاعل والزنا هو وطء المرأة في الفرج من غير عقد شرعي ولا شبهة عقد مع العلم بذلك أو غلبة الظن وليس كل وطء حرام زنا لأن الوطء في الحيض والنفاس حرام ولا يكون زنا والجلد ضرب الجلد يقال جلده كما يقال ظهره ورأسه وفاده وهذا قياس والرأفة التحنن والتعطف وفيه ثلاث لغات سكون الهمزة وفتحها ومدها وقال الأخفش الرأفة رحمة في توجع.

المعنى:

﴿سورة أنزلناها﴾ أي هذه سورة قطعة من القرآن لها أول وآخر أنزلها جبرائيل (عليه السلام) بأمرنا ﴿وفرضناها﴾ أي وأوجبنا عليكم العمل بها وعلى من بعدكم إلى يوم القيامة وقيل معناه وفرضنا فيها إباحة الحلال وحظر الحرام عن مجاهد وهذا يعود إلى معنى أوجبناها وقيل معناه وقدرنا فيها الحدود عن عكرمة وهو من قوله فنصف ما فرضتم وفسر أبو عمرو معنى القراءة بالتشديد بأن قال معناها فصلناها وبيناها بفرائض مختلفة ﴿وأنزلنا فيها آيات بينات﴾ أي دلالات واضحات على وحدانيتنا وكمال قدرتنا وقيل أراد بها الحدود والأحكام التي شرع فيها ﴿لعلكم تذكرون﴾ أي لكي تتذكروا فتعلموا بما فيها ثم ذكر سبحانه تلك الآيات وابتدأ بحكم الزنا فقال ﴿الزانية والزاني﴾ معناه التي تزني والذي يزني أي من زنى من النساء ومن زنى من الرجال فيفيد العموم في الجنس ﴿فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة﴾ يعني إذا كانا حرين بالغين بكرين غير محصنين فأما إذا كانا محصنين أو كان أحدهما محصنا كان عليه الرجم بلا خلاف والإحصان هو أن يكون له فرج يغدو إليه ويروح على وجه الدوام أو يكون حرا فأما العبد فلا يكون محصنا وكذلك الأمة لا تكون محصنة وإنما عليهما نصف الحد خمسون جلدة لقوله سبحانه فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب وقيل إنما قدم ذكر الزانية على الزاني لأن الزنى منهن أشنع وأعير وهو لأجل الحبل أضر لأن الشهوة فيهن أكثر وعليهن أغلب وقوله ﴿فاجلدوا﴾ هذا خطاب للأئمة ومن يكون منصوبا للأمر من جهتهم لأنه ليس لأحد أن يقيم الحدود إلا للأئمة وولاتهم بلا خلاف ﴿ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر﴾ معناه إن كنتم تصدقون بالله وتقرون بالبعث والنشور فلا تأخذكم بهما رحمة تمنعكم من إقامة الحدود عليهما فتعطلوا الحدود عن عطا ومجاهد وقيل معناه لا تأخذكم بهما رأفة تمنع من الجلد الشديد بل أوجعوهما ضربا ولا تخففوا كما يخفف في حد الشارب عن الحسن وقتادة وسعيد بن المسيب والنخعي والزهري وقوله ﴿في دين الله﴾ أي في طاعة الله وقيل في حكم الله عن ابن عباس كقوله ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك أي في حكمه ﴿وليشهد عذابهما﴾ أي وليحضر حال إقامة الحد عليهما ﴿طائفة﴾ أي جماعة ﴿من المؤمنين﴾ وهم ثلاثة فصاعدا عن قتادة والزهري وقيل الطائفة رجلان فصاعدا عن عكرمة وقيل أقله رجل واحد عن ابن عباس والحسن ومجاهد وإبراهيم وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) ويدل على ذلك قوله وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا وهذا الحكم يثبت للواحد كما يثبت للجمع وقيل أقلها أربعة لأن أقل ما يثبت به الزنا شهادة أربعة عن ابن زيد وقيل ليس لهم عدد محصور بل هو موكول إلى رأي الإمام والمقصود أن يحضر جماعة يقع بهم إذاعة الحد ليحصل الاعتبار وقوله ﴿الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك﴾ اختلف في تفسيره على وجوه (أحدها) أن المراد بالنكاح العقد ونزلت الآية على سبب وهو أن رجلا من المسلمين استأذن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أن يتزوج أم مهزول وهي امرأة كانت تسافح ولها راية على بابها تعرف بها فنزلت الآية عن عبد الله بن عباس وابن عمر ومجاهد وقتادة والزهري والمراد بالآية النهي وإن كان ظاهره الخبر ويؤيده ما روي عن أبي جعفر (عليه السلام) وأبي عبد الله (عليه السلام) أنهما قالا هم رجال ونساء كانوا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مشهورين بالزنا فنهى الله عن أولئك الرجال والنساء على تلك المنزلة فمن شهر بشيء من ذلك وأقيم عليه الحد فلا تزوجوه حتى تعرف توبته (وثانيها) أن النكاح هنا الجماع والمعنى أنهما اشتركا في الزنا فهي مثله عن الضحاك وابن زيد وسعيد بن جبير وفي إحدى الروايتين عن ابن عباس فيكون نظير قوله الخبيثات للخبيثين في أنه خرج مخرج الأغلب الأعم (وثالثها) أن هذا الحكم كان في كل زان وزانية ثم نسخ بقوله وأنكحوا الأيامى منكم الآية عن سعيد بن المسيب وجماعة (ورابعها) أن المراد به العقد وذلك الحكم ثابت فيمن زنا بامرأة فإنه لا يجوز له أن يتزوج بها روي ذلك عن جماعة من الصحابة وإنما قرن الله سبحانه بين الزاني والمشرك تعظيما لأمر الزنا وتفخيما لشأنه ولا يجوز أن تكون هذه الآية خبرا لأنا نجد الزاني يتزوج غير الزانية ولكن المراد هنا الحكم أو النهي سواء كان المراد بالنكاح العقد أو الوطء وحقيقة النكاح في اللغة الوطء ﴿وحرم ذلك على المؤمنين﴾ أي حرم نكاح الزانيات أو حرم الزنا على المؤمنين فلا يتزوج بهن أو لا يطأهن إلا زان أو مشرك.