الآيات 192-212

وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿192﴾ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴿193﴾ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴿194﴾ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ﴿195﴾ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ﴿196﴾ أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿197﴾ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ﴿198﴾ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ﴿199﴾ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ﴿200﴾ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴿201﴾ فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿202﴾ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ ﴿203﴾ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ﴿204﴾ أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ﴿205﴾ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ ﴿206﴾ مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ﴿207﴾ وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ ﴿208﴾ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴿209﴾ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ﴿210﴾ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ﴿211﴾ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ﴿212﴾

القراءة:

قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو وحفص وزيد ﴿نزل﴾ بالتخفيف ﴿الروح الأمين﴾ بالرفع والباقون نزل بالتشديد الروح الأمين بالنصب وقرأ ابن عامر أو لم تكن بالتاء آية بالرفع والباقون ﴿لم يكن﴾ بالياء ﴿آية﴾ بالنصب وفي الشواذ قراءة الحسن الأعجميين وقراءته أيضا فتأتيهم بغتة بالتاء ما تنزلت به الشياطون.

الحجة:

قال أبو علي حجة من قال نزل به بالتشديد قوله فإنه نزله على قلبك وتنزل الملائكة بالروح فإنه مطاوع نزل وقوله نزله روح القدس من ربك بالحق ومن أسند الفعل إلى الروح فقال نزل به الروح الأمين فإنه ينزل بأمر الله تعالى فمعناه معنى المثقلة والوجه في قراءة ابن عامر أو لم تكن لهم آية إن في تكن ضمير القصة والحديث لأن ما يقع تفسيرا للقصة والحديث من الجملة إذا كان فيها اسم مؤنث جاز تأنيث المضمر على شريطة التفسير كقوله فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا وقوله فإنها لا تعمى الأبصار وكذلك ﴿أن يعلمه علماء بني إسرائيل﴾ لما كان فيه مؤنث جاز أن يؤنث تكن فآية مرتفعة بأنها خبر المبتدأ الذي هو ﴿أن يعلمه علماء بني إسرائيل﴾ ولا يمتنع أن لا يضمر القصة والحديث ولكن يرفع ﴿أن يعلمه﴾ بقوله تكن وإن كان في تكن علامة التأنيث لأن ﴿أن يعلمه﴾ في المعنى هو الآية فيحمل الكلام على المعنى كما حمل على المعنى في قوله فله عشر أمثالها فأنث لما كان المراد بالأمثال الحسنات وكذلك قراءة من قرأ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا وقال ابن جني في قراءة الحسن الأعجميين إنها تفسير للغرض في القراءة المجمع عليها وهي قوله بعض الأعجميين وذلك أن ما كان من الصفات على أفعل ومؤنثه فعلى لا يجمع بالواو والنون ولا بالألف والتاء فكان قياسه أن لا يجوز فيه الأعجمون لأن مؤنثه عجمى لكن سببه أنه أريد به الأعجميون ثم حذف ياء النسب وجعل جمعه بالواو والنون دليلا عليها وأمارة لإرادتها كما جعلت صحة الواو في عواور أمارة لإرادة الياء في عواوير وقوله فتأتيهم بغتة بالتاء معناه فتأتيهم الساعة فأضمر الساعة لدلالة العذاب الواقع فيها عليها ولكثرة ما يرد في القرآن من ذكر إتيانها وأما قوله الشياطون فقد قال الفراء فيه غلط الشيخ يعني الحسن فقيل ذلك للنضر بن شميل فقال إذا جاز أن يحتج بقول العجاج ورؤبة فهلا جاز أن يحتج بقول الحسن مع أنا نعلم أنه لم يقرأ به إلا وقد سمعه قال ابن جني هذا مما يعرض مثله للفصيح لتداخل الجمعين عليه وتشابهما عنده ونحو منه قولهم مسيل فيمن أخذه من السيل ثم قالوا في جمعه مسلان وأمسلة وفي معين معنان وأمعنة مع أن الأقوى أن يكون معنان من العين فالشياطون غلط لكن يشبهه كما أن من همز مصائب كذلك عندهم وقال الزمخشري الوجه فيه أنه رأى آخره كآخر يبرين وفلسطين فتخير بين أن يجري الإعراب على النون وبين أن يجريه على ما قبله فيقول الشياطين والشياطون كما تخيرت العرب بين أن تقول هذه يبرون ويبرين وفلسطون وفلسطين وحقه أن يشق من الشيطوطة وهي الهلاك كما قيل له الباطل.

اللغة:

الأعجم الذي يمتنع لسانه عن العربية والعجمي نقيض العربي والأعجمي نقيض الفصيح.

الإعراب:

﴿لا يؤمنون به﴾ في موضع النصب على الحال و﴿بغتة﴾ مصدر وضع موضع الحال.

﴿سنين﴾ ظرف زمان لمتعناهم.

﴿ما أغنى﴾ ما نافية ومفعول أغنى محذوف وتقديره ما أغنى عنهم تمتعهم شيئا.

﴿ذكرى﴾ في محل النصب لأنه مفعول له.

﴿وما ينبغي﴾ فاعل ينبغي مستكن فيه عائد إلى مصدر تنزل تقديره وما ينبغي لهم أن يتنزلوا به.

المعنى:

ثم بين سبحانه أمر القرآن بعد أن قص أخبار الأنبياء (عليهم السلام) ليتصل بها حديث نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال ﴿وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به﴾ أي نزل الله بالقرآن ﴿الروح الأمين﴾ يعني جبرائيل (عليه السلام) وهو أمين الله لا يغيره ولا يبدله وسماه روحا لأنه يحيي به الدين وقيل لأنه يحيي به الأرواح بما ينزل من البركات وقيل لأنه جسم روحاني ﴿على قلبك﴾ يا محمد وهذا على سبيل التوسع لأن الله تعالى يسمعه جبرائيل (عليه السلام) فيحفظه وينزل به على الرسول ويقرأه عليه فيعيه ويحفظه بقلبه فكأنه نزل به على قلبه وقيل معناه لقنك الله حتى تلقنته وثبته على قلبك وجعل قلبك وعاء له ﴿لتكون من المنذرين﴾ أي لتخوف به الناس وتنذرهم بآيات الله ﴿بلسان عربي مبين﴾ أي بلغة العرب مبين للناس ما بهم إليه الحاجة في دينهم وقيل أراد به لسان قريش ليفهموا ما فيه ولا يقولوا ما نفهم ما قال محمد عن مجاهد وقيل لسان جرهم وإنما جعله عربيا لأن المنزل عليه عربي والمخاطبون به عرب ولأنه تحدى بفصاحته فصحاء العرب وقد تضمنت هذه الآية تشريف هذه اللغة لأنه سماها مبينا ولذلك اختارها لأهل الجنة ﴿وأنه﴾ أي وإن ذكر القرآن وخبره ﴿لفي زبر الأولين﴾ أي في كتب الأولين على وجه البشارة به وبمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لا بمعنى أن الله أنزله على غير محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وواحد الزبر زبور وقيل معناه أنه أنزل على سائر الأنبياء من الدعاء إلى التوحيد والعدل والاعتراف بالبعث وأقاصيص الأمم مثل الذي نزل في القرآن ﴿أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل﴾ معناه أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل بمجيئه على ما تقدمت البشارة دلالة لهم على صحة نبوته لأن العلماء الذين آمنوا من بني إسرائيل كانوا يخبرون بوجود ذكره في كتبهم وكانت اليهود تبشر به وتستفتح على العرب به وكان ذلك سبب إسلام الأوس والخزرج على ما مر بيانه وعلماء بني إسرائيل عبد الله بن سلام وأصحابه عن ابن عباس وقيل هم خمسة عبد الله بن سلام وابن يامين وثعلبة وأسد وأسيد عن عطية ﴿ولو نزلناه على بعض الأعجمين﴾) أي ولو نزلنا القرآن على رجل ليس من العرب وعلى من لا يفصح ﴿فقرأه عليهم﴾ أي على العرب ﴿ما كانوا به مؤمنين﴾ أي لم يؤمنوا به وأنفوا من اتباعه لكنا أنزلناه بلسان العرب على أفصح رجل منهم من أشرف بيت ليتدبروا فيه وليكون أدعى إلى اتباعه وتصديقه وقيل معناه لو نزلناه على أعجم من البهائم أو غيرها لما آمنوا به وإن كان فيه زيادة أعجوبة عن عبد الله بن مطيع وروي عن عبد الله بن مسعود أنه سئل عن هذه الآية وهو على بعير فأشار إليه وقال هذا من الأعجمين ﴿كذلك سلكناه في قلوب المجرمين﴾ أي كما أنزلنا القرآن عربيا مبينا أمررناه وأدخلناه وأوقناه في قلوب الكافرين بأن أمرنا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى قرأه عليهم وبينه لهم ثم بين أنهم مع ذلك ﴿لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم﴾ فيلجئهم إلى الإيمان به وهذا خبر عن الكفار الذين علم الله أنهم لا يؤمنون أبدا ﴿فيأتيهم﴾ أي العذاب الذي يتوقعونه ويستعجلونه ﴿بغتة﴾ أي فجاة ﴿وهم لا يشعرون﴾ بمجيئه ﴿فيقولوا هل نحن منظرون﴾ أي مؤخرون لنؤمن ولنصدق قال مقاتل لما أوعدهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعذاب استعجلوا العذاب تكذيبا له فقال الله ﴿أفبعذابنا يستعجلون﴾ توبيخا لهم ثم قال ﴿أفرأيت أن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون﴾ أي أ رأيت إن أنظرناهم وأخرناهم سنين ومتعناهم بشيء من الدنيا ثم أتاهم العذاب لم يغن عنهم ما متعوا في تلك السنين من النعيم لازديادهم في الآثام واكتسابهم من الأجرام وهو استفهام في معنى التقرير ﴿وما أهلكنا من قرية﴾ أي وما أهلكنا قرية ﴿إلا لها منذرون﴾ أي إلا بعد إقامة الحجج عليهم بتقديم الإنذار وإرسال الرسل ﴿ذكرى﴾ أي تذكيرا وموعظة لهم ليتعظوا ويصلحوا فإذا لم يصلحوا مع التخويف والتحذير واستحقوا عذاب الاستئصال بإصرارهم على الكفر والعناد أهلكناهم ﴿وما كنا ظالمين﴾ أي وما ظلمناهم بالإهلاك لأنا لا نظلم أحدا، نفى سبحانه عن نفسه الظلم وفي هذا تكذيب لمن زعم أن كل ظلم وكفر في الدنيا هو من خلقه وإرادته وغاية الظلم أن يعاقب عباده على ما خلقه فيهم وأراده منهم تعالى الله عن ذلك وتقدس ﴿وما تنزلت به﴾ أي بالقرآن ﴿الشياطين﴾ كما يزعمه بعض المشركين ﴿وما ينبغي لهم﴾ إنزال ذلك أي الشياطين ﴿وما يستطيعون﴾ ذلك ولا يقدرون عليه لأن الله تعالى يحرس المعجزة عن أن يموه بها المبطل فإنه إذا أراد أن يدل بها على صدق الصادق أخلصها بمثل هذه الحراسة حتى تصح الدلالة بها ومعنى قول العرب ينبغي لك أن تفعل كذا أنه يطلب منك فعله في مقتضى العقل من البغية التي هي الطلب ﴿إنهم عن السمع لمعزولون﴾ أي مصروفون عن استماع القرآن أي عن المكان الذي يستمعون ذلك فيه ممنوعون عنه بالشهب الثاقبة وقيل معناه أن الشياطين عن سمع القرآن منحون عن قتادة فإن العزل تنحية الشيء عن موضع إلى خلافه وإزالته عن أمر إلى نقيضه قال مقاتل قالت قريش إنما تجيء بالقرآن الشياطين فتلقيه على لسان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فأكذبهم لله تعالى بأن قال إنهم لا يقدرون بأن يأتوا بالقرآن من السماء قد حيل بينهم وبين السمع بالملائكة والشهب.