الآيات 75-87
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴿75﴾ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴿76﴾ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ﴿77﴾ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ﴿78﴾ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴿79﴾ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴿80﴾ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ ﴿81﴾ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴿82﴾ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ﴿83﴾ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ﴿84﴾ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ ﴿85﴾ فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ﴿86﴾ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿87﴾
القراءة:
قرأ أهل الكوفة غير عاصم بموقع النجوم بغير ألف والباقون ﴿بمواقع النجوم﴾ على الجمع وروى بعضهم عن عاصم أنكم تكذبون بالتخفيف والقراءة المشهورة بالتشديد وفي الشواذ قراءة الحسن والثقفي فلا قسم بغير ألف وقراءة علي (عليه السلام) وابن عباس ورويت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتجعلون شكركم.
الحجة:
قال أبو عبيدة ﴿فلا أقسم بمواقع النجوم﴾ أي فأقسم ومواقعها مساقطها حيث تغيب وقال غيره أنه مواقع القرآن حين نزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نجوما فأما الجمع في ذلك وإن كان مصدرا فلاختلاف ذلك فإن المصادر وسائر أسماء الأجناس إذا اختلفت جاز جمعها ومن قرأ بموقع فأفرد فلأنه اسم جنس ومن قرأ تكذبون فالمعنى تجعلون رزقكم الذي رزقكموه الله فيما قال ﴿ونزلنا من السماء ماء مباركا﴾ إلى قوله ﴿رزقا للعباد﴾ وقال وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم أنكم تكذبون في أن تنسبوا هذا الرزق إلى غير الله تعالى فتقولون مطرنا بتوء كذا فهذا وجه التخفيف ومن قرأ ﴿تكذبون﴾ فالمعنى أنكم تكذبون بالقرآن لأن الله تعالى هو الذي رزقكم ذلك على ما جاء في قوله تعالى ﴿رزقا للعباد﴾ فتنسبونه أنتم إلى غيره فهذا تكذيبكم بما جاء به التنزيل وأما ما روي من قوله وتجعلون شكركم فالمعنى تجعلون مكان الشكر الذي يجب عليكم التكذيب وقد يكون المعنى وتجعلون شكر رزقكم التكذيب فحذف المضاف وقال ابن جني هو على وتجعلون بدل شكركم ومثله قول العجاج:
ربيته حتى إذا تمعددا
كان جزائي بالعصا أن أجلدا
أي كان بدل جزائي الجلد بالعصا وأما قوله فلا أقسم فالتقدير لأنا أقسم وهو فعل الحال يدل على ذلك أن جميع ما في القرآن من الأقسام إنما هو حاضر الحال لا وعد الأقسام كقوله ﴿والتين والزيتون﴾ ﴿والشمس وضحاها﴾ ولذلك حملت لا على الزيادة في قوله ﴿فلا أقسم بمواقع النجوم﴾ ونحوه نعم ولو أريد به الفعل المستقبل للزمت منه النون فقيل لأقسمن.
اللغة:
القسم جملة من الكلام يؤكد بها الخبر بما يجعله في قسم الصواب دون الخطأ والعظيم هو الذي يقصر مقدار ما يكون من غيره عما يكون منه وهو ضربان عظيم الشخص وعظيم الشأن والكريم هو الذي من شأنه أن يعطي الخير الكثير فلما كان القرآن من شأنه أن يعطي الخير الكثير بأدلته المؤدية إلى الحق كان كريما على حقيقة معنى الكريم لا على التشبيه بطريق المجاز والكريم في صفات الله تعالى من الصفات النفسية التي يجوز أن يقال فيها لم يزل كريما لأن حقيقته تقتضي ذلك من جهة أن الكريم هو الذي من شأنه أن يعطي الخير الكثير فلما كان القادر على الكرم الذي لا يمنعه مانع من شأنه أن يعطي الخير الكثير صح أن يقال أنه لم يزل كريم والمدهن الذي يجري في الباطن على خلاف الظاهر كالدهن في سهولة ذلك عليه والإسراع فيه يقال أدهن يدهن وداهن يداهن مثل نافق والدين هو الجزاء ومنه قولهم كما تدين تدان أي كما تجزي تجزى والدين العمل الذي يستحق به الجزاء.
الإعراب:
﴿فلولا إذا بلغت الحلقوم﴾ العامل في إذا محذوف يدل عليه الفعل الواقع بعد لو لا وهو ترجعونها في ﴿فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها﴾ وجواب الشرط أيضا هو مدلول قوله فلو لا ترجعونها ولو لا هذه للتحضيض بمعنى هلا ولا يقع بعدها إلا الفعل ويكون التقدير فلو لا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم فلو لا أن كنتم فكرر لو لا ثانيا لطول الكلام.
المعنى:
ثم أكد سبحانه ما تقدم ذكره بقوله ﴿فلا أقسم بمواقع النجوم﴾ ولا زائدة والمعنى فأقسم عن سعيد بن جبير ويجوز أن يكون لا ردا لما يقوله الكفار في القرآن من أنه سحر وشعر وكهانة ثم استأنف القسم فقال أقسم وقيل أن لا تزاد في القسم فيقال لا والله لا أفعل وقال امرؤ القيس:
لا وأبيك ابنة العامري
لا يدعي القوم أني أفر
والمعنى وأبيك وقيل أن المعنى لا أقسم على هذه الأشياء فإن أمرها أظهر وآكد من أن يحتاج فيه إلى اليمين عن أبي مسلم واختلف في معنى ﴿مواقع النجوم﴾ فقيل هي مطالع النجوم ومساقطها عن مجاهد وقتادة وقيل انكدارها وهو انتشارها يوم القيامة عن الحسن وقيل هي الأنواء التي كان أهل الجاهلية إذا مطروا قالوا مطرنا بنوء كذا فيكون المعنى فلا أقسم بها وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) أن مواقع النجوم رجومها للشياطين وكان المشركون يقسمون بها فقال سبحانه فلا أقسم بها وقيل معناه أقسم بنزول القرآن فإنه نزل متفرقا قطعا نجوما عن ابن عباس ﴿وإنه لقسم لو تعلمون عظيم﴾ قال الزجاج والفراء وهذا يدل على أن المراد بمواقع النجوم نزول القرآن والضمير في إنه يعود إلى القسم ودل عليه قوله ﴿أقسم﴾ والمعنى أن القسم بمواقع النجوم لقسم عظيم لو تعلمون ففصل بين الصفة والموصوف بالجملة ثم ذكر المقسم به فقال ﴿إنه لقرآن كريم﴾ معناه إن الذي تلوناه عليك لقرآن كريم أي عام المنافع كثير الخير ينال الأجر العظيم بتلاوته والعمل بما فيه وقيل كريم عند الله تعالى أكرمه الله تعالى وأعزه لأنه كلامه عن مقاتل وقيل كريم لأنه كلام رب العزة ولأنه محفوظ عن التغيير والتبديل ولأنه معجز ولأنه يشتمل على الأحكام والمواعظ وكل جليل خطير وعزيز فهو كريم ﴿في كتاب مكنون﴾ أي مستور من خلقه عند الله وهو اللوح المحفوظ أثبت الله فيه القرآن عن ابن عباس وقيل هو المصحف الذي في أيدينا عن مجاهد ﴿لا يمسه إلا المطهرون﴾ معناه في القول الأول لا يمسه إلا الملائكة الذين وصفوا بالطهارة من الذنوب وفي القول الثاني إلا المطهرون من الشرك عن ابن عباس وقيل المطهرون من الأحداث والجنابات وقالوا لا يجوز للجنب والحائض والمحدث مس المصحف عن محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) وطاووس وعطاء وسالم وهو مذهب مالك والشافعي فيكون خبرا بمعنى النهي وعندنا أن الضمير يعود إلى القرآن فلا يجوز لغير الطاهر مس كتابة القرآن ﴿تنزيل من رب العالمين﴾ أي هذا القرآن منزل من عند الله تعالى الذي خلق العباد ودبرهم على ما أراد على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم خاطب سبحانه أهل مكة فقال ﴿أفبهذا الحديث﴾ الذي حدثناكم به وأخبرناكم فيه عن حوادث الأمور وهو القرآن ﴿أنتم مدهنون﴾ أي مكذبون عن ابن عباس وقيل مدهنون ممالئون للكفار على الكفر به عن مجاهد وقيل منافقون على التصديق به أي تقولون آمنا به وتدهنون فيما بينكم وبين المشركين إذا خلوتم فقلتم إنا معكم قال مؤرج هو الذي يلين جانبه ليخفي كفره وأصله من الدهن ﴿وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون﴾ أي وتجعلون حظكم من الخير الذي هو كالرزق لكم أنكم تكذبون به وقيل وتجعلون شكر رزقكم التكذيب عن ابن عباس قال أصاب الناس عطش في بعض أسفاره فدعا (صلى الله عليه وآله وسلم) فسقوا فسمع رجلا يقول مطرنا بنوء كذا فنزلت الآية وقيل معناه وتجعلون حظكم من القرآن الذي رزقكم الله التكذيب به عن الحسن ﴿فلو لا إذا بلغت الحلقوم﴾ أي فهلا إذا بلغت النفس الحلقوم عند الموت ﴿وأنتم﴾ يا أهل الميت ﴿حينئذ تنظرون﴾ أي ترون تلك الحال وقد صار إلى أن تخرج نفسه وقيل معناه تنظرون لا يمكنكم الدفع ولا تملكون شيئا ﴿ونحن أقرب إليه منكم﴾ بالعلم والقدرة ﴿ولكن لا تبصرون﴾ ذلك ولا تعلمونه وقيل معناه ورسلنا الذين يقبضون روحه أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون رسلنا القابضين روحه ﴿فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين﴾ يعني فهلا ترجعونها أي فهلا ترجعون نفس من يعز عليكم إذا بلغت الحلقوم وتردونها إلى موضعها إن كنتم غير مجزيين بثواب وعقاب وغير محاسبين وقيل غير مدينين معناه غير مملوكين وقيل غير مبعوثين عن الحسن والمراد أن الأمر إن كان كما تقولونه من أنه لا بعث ولا حساب ولا جزاء ولا إله يحاسب ويجازي فهلا رددتم الأرواح والنفوس من حلوقكم إلى أبدانكم إن كنتم صادقين في قولكم فإذا لم تقدروا على ذلك فاعلموا أنه من تقدير مقدر حكيم وتدبير مدبر عليم.