الآيات 57-74

نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ﴿57﴾ أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ ﴿58﴾ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ﴿59﴾ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴿60﴾ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿61﴾ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ ﴿62﴾ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ﴿63﴾ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ﴿64﴾ لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴿65﴾ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ﴿66﴾ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴿67﴾ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ ﴿68﴾ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ ﴿69﴾ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴿70﴾ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ﴿71﴾ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ ﴿72﴾ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ ﴿73﴾ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴿74﴾

القراءة:

قرأ ابن كثير نحن قدرنا بالتخفيف والباقون ﴿قدرنا﴾ بالتشديد وقرأ أبو بكر أ إنا لمغرمون بهمزتين والباقون بهمزة واحدة.

الحجة:

قال أبو علي قدرنا في معنى قدرنا ويدل عليه قوله:

ومفرهة عنس قدرت لساقها

فخرت كما تتايع الريح بالقفل

والمعنى قدرت ضربي لساقها فضربتها فخرت ومثله في المعنى:

فإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعها

على الضيف نجرح في عراقيبها نصلي

اللغة:

يقال أمنى يمني ومنى يمني بمعنى ومنه قراءة أبي السماك تمنون بفتح التاء والأصل من المني وهو التقدير قال الشاعر:

لا تأمنن وإن أمسيت في حرم

حتى تلاقي ما يمني لك الماني

ومنه المنية لأنها مقدرة تأتي على مقدار والحطام الهشيم الذي لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء وأصل الحطم الكسر والحطم السواق بعنف يحطم بعضها على بعض قال: قد لفها الليل بسواق حطم والتفكه أصله تناول ضروب الفواكه للأكل والفكاهة المزاح ومنه حديث زيد كان من أفكه الناس مع أهله ورجل فكه طيب النفس والمغرم الذي ذهب ماله بغير عوض وأصل الباب اللزوم والغرام العذاب اللازم قال الأعشى:

إن يعاقب يكن غراما وإذن يعط

جزيلا فإنه لا يبالي

والنار مأخوذة من النور قال الحارث:

فتنورت نارها من بعيد

بخزازي هيهات منك الصلاء

والإيراء إظهار النار بالقدح يقال أورى يوري ووريت بك زنادي أي أضاء بك أمري ويقال قدح فأورى إذا أظهر النار فإذا لم يور قيل قدح فأكبى والمقوي النازل بالقواء من الأرض ليس بها أحد وأقوت الدار خلت من أهلها قال النابغة:

أقوى وأقفر من نعم وغيرها

هوج الرياح بها الترب موار

وقال عنترة:

حييت من طلل تقادم عهده

أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

المعنى:

ثم احتج سبحانه عليهم في البعث بقوله ﴿نحن خلقناكم﴾ أي نحن خلقناكم ولم تكونوا شيئا وأنتم تعلمون ذلك عن مقاتل ﴿فلولا تصدقون﴾ أي فهلا تصدقون ولم لا تصدقون بالبعث لأن من قدر على الإنشاء والابتداء قدر على الإعادة ثم نبههم سبحانه على وجه الاستدلال على صحة ما ذكره فقال ﴿أفرأيتم ما تمنون﴾ أي ما تقذفون وتصبون في أرحام النساء من النطف فيصير ولدا ﴿أأنتم تخلقونه﴾ أي أ أنتم تخلقون ما تمنون بشرا ﴿أم نحن الخالقون﴾ فإذا لم تقدروا أنتم وأمثالكم على ذلك فاعلموا أن الله سبحانه الخالق لذلك وإذا ثبت أنه قادر على خلق الولد من النطفة وجب أن يكون قادرا على إعادته بعد موته لأنه ليس بأبعد منه ثم بين سبحانه أنه كما بدأ الخلق فإنه يميتهم فقال ﴿نحن قدرنا بينكم الموت﴾ التقدير ترتيب الأمر على مقدار أي نحن أجرينا الموت بين العباد على مقدار كما تقتضيه الحكمة فمنهم من يموت صبيا ومنهم من يموت شابا ومنهم من يموت كهلا وشيخا وهرما عن مقاتل وقيل معناه قدرناه بأن سوينا فيه بين المطيع والعاصي وبين أهل السماء والأرض عن الضحاك ﴿وما نحن بمسبوقين﴾ قيل أنه من تمام ما قبله أي لا يسبقنا أحد منكم على ما قدرناه من الموت حتى يزيد في مقدار حياته وقيل أنه ابتداء كلام يتصل به ما بعده والمعنى وما نحن بمغلوبين ﴿على أن نبدل أمثالكم﴾ أي نأتي بخلق مثلكم بدلا منكم وتقديره نبدلكم بأمثالكم فحذف المفعول الأول والجار من المفعول الثاني قال الزجاج معناه إن أردنا أن نخلق خلقا غيركم لم يسبقنا سابق ولا يفوتنا ﴿وننشئكم فيما لا تعلمون﴾ من الصور أي إن أردنا أن نجعل منكم القردة والخنازير لم نسبق ولا فاتنا ذلك وتقديره كما لم نعجز عن تغيير أحوالكم بعد خلقكم لا نعجز عن أحوالكم بعد موتكم وقيل أراد النشأة الثانية أي ننشئكم فيما لا تعلمون من الهيئات المختلفة فإن المؤمن يخلق على أحسن هيئة وأجمل صورة والكافر على أقبح صورة وقيل إنما قال ذلك لأنهم علموا حال النشأة الأولى كيف كانت في بطون الأمهات وليست الثانية كذلك لأنها تكون في وقت لا يعلمه العباد ﴿ولقد علمتم النشأة الأولى﴾ أي المرة الأولى من الإنشاء وهو ابتداء الخلق حين خلقتم من نطفة وعلقة ومضغة ﴿فلولا تذكرون﴾ أي فهلا تعتبرون وتستدلون بالقدرة عليها على الثانية ﴿أفرأيتم ما تحرثون﴾ أي ما تعملون في الأرض وتلقون فيها من البذر ﴿أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون﴾ أي أ أنتم تنبتونه وتجعلونه زرعا أم نحن المنبتون فإن من قدر على إنبات الزرع من الحبة الصغيرة وأن يجعلها حبوبا كثيرة قدر على إعادة الخلق إلى ما كانوا عليه وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال لا يقولن أحدكم زرعت وليقل حرثت ﴿لو نشاء لجعلناه﴾ أي جعلنا ذلك الزرع ﴿حطاما﴾ أي هشيما لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء وقيل تبنا لا قمح فيه عن عطاء ﴿فظلتم تفكهون﴾ أي تتعجبون مما نزل بكم في زرعكم عن عطاء والكلبي ومقاتل وقيل معناه تندمون وتتأسفون على ما أنفقتم فيه عن عكرمة وقتادة والحسن وأصله من التفكه بالحديث وهو التلهي به فكأنه قال فظلتم تتروحون إلى التندم كما يتروح الفكه إلى الحديث بما يزيل الهم وقيل معناه يتلاومون عن عكرمة أي يلوم بعضكم بعضا على التفريط في طاعة الله ﴿إنا لمغرمون﴾ أي تقولون إنا لمغرمون والمعنى أنا قد ذهب مالنا كله ونفقتنا وضاع وقتنا ولم نحصل على شيء وقيل معناه إنا لمعذبون مجدودون عن الحظ عن مجاهد وفي رواية أخرى عنه أنا لمولع بنا وفي رواية أخرى منه إنا لملقون في الشر وقيل محارفون عن قتادة ومن قرأ أإنا على الاستفهام حمله على أنهم يقومون فيقولون منكرين لذلك ومن قرأ ﴿إنا﴾ على الخبر حمله على أنهم مخبرون بذلك عن أنفسهم ثم يستدركون فيقولون ﴿بل نحن محرومون﴾ أي مبخوسو الحظ محارفون ممنوعون من الرزق والخير ثم قال سبحانه منبها على دلالة أخرى ﴿أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن﴾ أي من السحاب ﴿أم نحن المنزلون﴾ نعمة منا عليكم ورحمة بكم ثم قال ﴿لو نشاء جعلناه أجاجا﴾ أي مرا شديد المرارة وقيل هو الذي اشتدت ملوحته ﴿فلولا تشكرون﴾ أي فهلا تشكرون على هذه النعمة السنية التي لا يقدر عليها أحد غير الله ثم نبه سبحانه على دلالة أخرى فقال ﴿أفرأيتم النار التي تورون﴾ أي تستخرجونها وتقدحونها بزنادكم من الشجر ﴿أأنتم أنشأتم شجرتها﴾ التي تنقدح النار منها أي أأنتم أنبتموها وابتدأتموها ﴿أم نحن المنشئون﴾ لها فلا يمكن أحدا أن يقول أنه أنشأ تلك الشجرة غير الله تعالى والعرب تقدح بالزند والزندة وهو خشب يحك بعضه ببعض فتخرج منه النار وفي المثل في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار ﴿نحن جعلناها تذكرة﴾ أي نحن جعلنا هذه النار تذكرة للنار الأخرى الكبرى فإذا رآها الرائي ذكر جهنم واستعاذ بالله منها عن عكرمة ومجاهد وقتادة وقيل معناه تذكرة يتذكر بها ويتفكر فيها فيعلم أن من قدر عليها وعلى إخراجها من الشجر الرطب قدر على النشأة الثانية ﴿ومتاعا للمقوين﴾ أي وجعلناها بلغة ومنفعة للمسافرين عن ابن عباس والضحاك وقتادة يعني الذين نزلوا الأرض القي وهو القفر وقيل للمستمتعين بها من الناس أجمعين المسافرين والحاضرين عن عكرمة ومجاهد والمعنى أن جميعهم يستضيئون بها من في الظلمة ويصطلون من البرد وينتفعون بها في الطبخ والخبز وعلى هذا فيكون المقوي من الأضداد فيكون المقوي الذي صار ذا قوة من المال والنعمة والمقوي أيضا الذاهب ماله النازل بالقواء من الأرض فالمعنى ومتاعا للأغنياء والفقراء ولما ذكر سبحانه ما يدل على توحيده وإنعامه على عبيده قال ﴿فسبح باسم ربك العظيم﴾ أي فبرىء الله تعالى مما يقولونه في وصفه ونزهه عما لا يليق بصفاته وقيل معناه قل سبحان ربي العظيم فقد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه لما نزلت هذه الآية قال اجعلوها في ركوعكم.