الآيات 110-111

حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴿110﴾ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿111﴾

القراءة:

قرأ أهل الكوفة وأبو جعفر ﴿كذبوا﴾ بالتخفيف وهي قراءة علي وزين العابدين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وزيد بن علي وابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير وعكرمة والضحاك والأعمش وغيرهم وقرأ الباقون كذبوا بالتشديد وهي قراءة عائشة والحسن وعطا والزهري وقتادة وروي عن ابن عباس بخلاف ومجاهد بخلاف كذبوا بالتخفيف وفتح الذال والكاف وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب وسهل ﴿فنجي من نشاء﴾ بنون واحدة وتشديد الجيم وفتح الياء وقرأ الباقون فننجي من نشاء بنونين وتخفيف الجيم وسكون الياء وفي الشواذ عن ابن محيصن فنجا بفتح النون والجيم والتخفيف وعن عيسى الثقفي ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة برفع الأحرف الثلاثة والقراءة بنصبها.

الحجة:

قال أبو علي الضمير في ظنوا في قول من شدد كذبوا للرسل تقديره ظن الرسل أي تيقنوا أو ظنوا الظن الذي هو حسبان ومعنى كذبوا تلقوا بالتكذيب كقولهم جبنته خطأته وتكذيبهم إياهم يكون بأن يلقوا بذلك كقولهم له وإن نظنك لمن الكاذبين أو بما يدل عليه وإن خالفه في اللفظ ومن حجة التثقيل قوله ﴿فقد كذبت رسل من قبلك﴾ وقوله ﴿و كذبوا رسلي﴾ وقوله ﴿إلا كذب الرسل﴾ وأما من خفف فقال كذبوا فهو من قولهم كذبتك الحديث أي لم أصدقك وفي التنزيل وقعد الذين كذبوا الله ورسوله وقياسه إذا اعتبر الخلاف أن يتعدى إلى مفعولين كما تعدى صدق في قوله ﴿لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق﴾ وقال الأعشى:

فصدقته وكذبته والمرء ينفعه كذابه قال سيبويه كذب يكذب كذبا وقالوا كذابا فجاؤوا به على فعال وقد خففه الأعشى وقال ذو الرمة:

وقد حلفت بالله مية ما الذي

أقول لها إلا الذي أنا كاذبة

والضمير الذي في قوله ﴿وظنوا أنهم قد كذبوا﴾ للمرسل إليهم وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به من أنهم إن لم يؤمنوا أنزل بهم العذاب وإنما ظنوا ذلك لما شاهدوه من إمهال الله إياهم وإملائه لهم فإن قلت كيف يجوز أن يحمل الضمير في ظنوا على أنه للمرسل إليهم الرسل والذين قد تقدم ذكرهم الرسل دون المرسل إليهم قيل إن ذلك لا يمتنع لأن ذكر الرسل يدل على المرسل إليهم لمقاربة إحدى الاسمين الآخر ولما في لفظ الرسل من الدلالة على المرسل إليهم وقد قال الشاعر:

أمنك البرق أرقبه فهاجا

فبت أخاله دهما خلاجا أي بت أخال الرعد صوت دهم فأضمر الرعد ولم يجر له ذكر لدلالة البرق عليه لمقاربة لفظ كل واحد منهما للآخر وفي التنزيل سرابيل تقيكم الحر واستغني عن ذكر البرد لدلالة الحر عليه وإن شئت قلت أن ذكرهم قد جرى في قوله ﴿أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم﴾ فيكون الضمير للذين من قبلهم من مكذبي رسل الله فإن ذهب ذاهب إلى أن المعنى ظن الرسل أن الذي وعد الله سبحانه أممهم على لسانهم قد كذبوا به فقد أتى عظيما لا يجوز أن ينسب مثله إلى الأنبياء ولا إلى صالحي عباد الله تعالى وكذلك من زعم أن ابن عباس ذهب إلى أن الرسل قد ضعفوا فظنوا أنهم قد أخلفوا لأن الله تعالى لا يخلف الميعاد حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا المؤمل قال حدثنا إسماعيل بن علية عن أبي المعلى عن سعيد بن جبير في قوله ﴿حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا﴾ قال إن الرسل يئسوا من قومهم أن يؤمنوا وأن قومهم ظنوا أن الرسل قد كذبوا فيما قالوا لهم أتاهم نصر الله عند ذلك وأما قوله ﴿فنجي من نشاء﴾ فإن ننجي حكاية للحال لأن القصة مما قد مضى وإنما حكي فعل الحال كما كانت عليه كما أن قوله ﴿وإن ربك ليحكم بينهم﴾ حكاية للحال الكائنة وكما أن قوله ﴿ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين﴾ جاء على الحكاية للحال الكائنة ومن ذلك قوله ﴿وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد﴾ فلو لا حكاية الحال لم يعمل اسم الفاعل لأنه إذا مضى اختص وصار معهودا فخرج بذلك من شبه الفعل ألا ترى أن الفعل لا يكون معهودا فكما أن اسم الفاعل إذا وصف أو حقر لم يعمل عمل الفعل لزوال شبه الفعل عنه بالاختصاص الذي يحدثه فيه التحقير والوصف كذلك إذا كان ماضيا وأما النون الثانية من ننجي فهي مخفاة مع الجيم وكذلك النون مع سائر حروف الفم لا تكون إلا مخفاة قال أبو عثمان تبيينها معها لحن وللنون مع الحروف ثلاث أحوال الإدغام والإخفاء والبيان وإنما تدغم إذا كانت مع مقاربها كما يدغم سائر المقاربة فيما يقاربه والإخفاء فيها مع حروف الفم التي لا تقاربها والبيان فيها مع حروف الحلق فأما حذف النون الثانية من الخط فيشبه أن يكون لكراهة اجتماع المثلين فيه أ لا ترى أنهم كتبوا مثل العليا والدنيا ويحيا ونحو ذلك بالألف فلو لا اجتماعها مع الياء لكتبت بالياء كما كتبت حبلى ويخشى وما لم يكن فيه ياء من هذا النحو بالياء فكأنهم لما كرهوا اجتماع المثلين في الخط حذفوا النون وقوي ذلك أنه لا يجوز فيها إلا الإخفاء ولا يجوز فيها البيان فأشبه بذلك الإدغام لأن الإخفاء لا يبين فيه الحرف المخفي كما أن الإدغام لا يبين فيه الحرف المدغم بيانه في غير الإدغام فلما وافق النون المدغم في هذا الوجه أستجيز حذفه من الخط ومن ذهب إلى أن النون الثانية مدغمة في الجيم فقد غلط لأنها ليست مثل الجيم ولا مقاربة لها وإذا خلا الحرف من هذين الوجهين لم يدغم فيما اجتمع معه ومن قرأ فنجي فإنه أتى على لفظ الماضي لأن القصة ماضية ويقوي ذلك أنه عطف عليه فعل مسند إلى المفعول به وهو قوله ﴿ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين﴾ ولو كان ننجي مسندا إلى الفاعل كقول من خالفه لكان لا نرد بأسنا أشبه ليكون مثل المعطوف عليه ومن قرأ ﴿تصديق الذي بين يديه﴾ وما بعده بالرفع فيكون التقدير لكن هو تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء فحذف المبتدأ وبقي الخبر.

اللغة:

استيئس بمعنى يئس كأنه طلب اليأس لعلمه بامتناع الأمر والبأس الشدة وهو شدة الأمر على النفس ومنه البؤس الفقر ومنه لا بأس عليك والقصص الخبر يتلو بعضه بعضا من أخبار من تقدم والعبرة الدلالة التي تعبر إلى البغية والألباب العقول واحدها لب وإنما سمي بذلك لأنه أنفس شيء في الإنسان ولب كل شيء خياره.

المعنى:

ثم أخبر سبحانه وتعالى عن حال الرسل مع أممهم تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال ﴿حتى إذا استيئس الرسل﴾ وهاهنا حذف يدل الكلام عليه وتقديره إنا أخرنا العقاب عن الأمم السالفة المكذبة لرسلنا كما أخرناه عن أمتك يا محمد حتى إذا بلغوا إلى حالة يأس الرسل عن إيمانهم وتحقق يأسهم بإخبار الله تعالى إياهم ﴿وظنوا أنهم قد كذبوا﴾ أي تيقن الرسل أن قومهم كذبوهم تكذيبا عاما حتى أنه لا يصلح واحد منهم عن عائشة والحسن وقتادة وأبي علي الجبائي ومن خفف فمعناه ظن الأمم أن الرسل كذبوهم فيما أخبروهم من نصر الله إياهم وإهلاك أعدائهم عن ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد والضحاك وأبي مسلم وقيل يجوز أن يكون الضمير في ظنوا راجعا إلى الرسل أيضا ويكون معناه وعلم الرسل أن الذين وعدوهم الإيمان من قومهم أخلفوهم أو كذبوا فيما أظهروه من الإيمان وروي أن سعيد بن جبير والضحاك اجتمعا في دعوة فسئل سعيد بن جبير في هذه الآية كيف يقرأها فقال ﴿وظنوا أنهم قد كذبوا﴾ بالتخفيف بمعنى وظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوهم فقال الضحاك ما رأيت كاليوم قط لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلا وروى أبي مليكة عن ابن عباس قال كانوا بشرا فضعفوا ويئسوا وظنوا أنهم قد أخلفوا ثم تلا قوله تعالى ﴿حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله﴾ الآية وهذا بعيد وقد بينا ما فيه ﴿جاءهم﴾ أي جاء الرسل ﴿نصرنا﴾ حين يأسوا بإرسال العذاب على الكفار ﴿فنجي من نشاء﴾ أي نخلص من نشاء من العذاب عند نزوله وهم المؤمنون ﴿ولا يرد بأسنا﴾ أي عذابنا ﴿عن القوم المجرمين﴾ أي المشركين ﴿لقد كان في قصصهم﴾ أي في قصص يوسف وإخوته ﴿عبرة﴾ أي فكرة وبصيرة من الجهل وموعظة وهو ما أصابه (عليه السلام) من ملك مصر والجمع بينه وبين أبويه وإخوته بعد إلقائه في الجب وبيعه وحبسه وقيل في قصصهم عبرة لأن نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يقرأ كتابا ولا سمع حديثا ولا خالط أهله ثم حدثهم به في حسن معانيه وبراعة ألفاظه ومبانيه بحيث لم يرد عليه أحد من ذلك شيئا فهذا من أدل الدلائل على صدقه وصحة نبوته ﴿لأولي الألباب﴾ أي لذوي العقول ﴿ما كان حديثا يفترى﴾ أي ما كان ما أداه محمد أو أنزل عليه حديثا يختلق كذبا ﴿ولكن تصديق الذي بين يديه﴾ أي ولكن كان تصديق الكتب الذي بين يديه لأنه جاء كما بشر به في الكتب عن الحسن وقتادة ﴿وتفصيل كل شيء﴾ أي وبيان كل شيء يحتاج إليه من الحلال والحرام وشرائع الإسلام ﴿وهدى﴾ أي ودلالة ﴿ورحمة﴾ أي ونعمة ينتفع بها المؤمنون علما وعملا ﴿لقوم يؤمنون﴾ إنما خصهم بذلك لأنهم المنتفعون به دون غيرهم وبالله التوفيق والعصمة وهو حسبنا ونعم الوكيل.