الآيات 1-8
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴿1﴾ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ﴿2﴾ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ﴿3﴾ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴿4﴾ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿5﴾ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿6﴾ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ﴿7﴾ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴿8﴾
اللغة:
الشرح فتح الشيء بإذهاب ما يصد عن إدراكه وأصل الشرح التوسعة ويعبر عن السرور بسعة القلب وشرحه وعن الهم بضيق القلب لأنه يورث ذلك والوزر الثقل في اللغة ومنه اشتق اسم الوزير لتحمله أثقال الملك وإنما سميت الذنوب أوزارا لما يستحق عليها من العقاب العظيم والأنقاض الأثقال التي كان ينتقض بها ما حمل عليه والنقض والهدم واحد ونقض المذهب إبطاله بما يفسده وبعير نقض سفر إذا أثقله السفر والنصب التعب وأنصبه الهم فهو منصب قال الشاعر:
تعناك هم من أميمة منصب
وهم ناصب ذو نصب قال النابغة:
كليني لهم يا أميمة ناصب
المعنى:
ثم أتم سبحانه تعداد نعمه على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال ﴿ألم نشرح لك صدرك﴾ روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لقد سألت ربي مسألة وددت أني لم أسأله قلت أي رب أنه قد كان أنبياء قبلي منهم من سخرت له الريح ومنهم من كان يحيي الموتى قال فقال (ألم أجدك يتيما فأويتك) قال قلت بلى قال (ألم أجدك ضالا فهديتك) قال قلت بلى أي رب قال (ألم أشرح لك صدرك ووضعت عنك وزرك) قال قلت بلى أي رب والمعنى ألم نفتح لك صدرك ونوسع قلبك بالنبوة والعلم حتى قمت بأداء الرسالة وصبرت على المكاره واحتمال الأذى واطمأننت إلى الإيمان فلم تضق به ذرعا ومنه تشريح اللحم لأنه فتحه بترقيقه فشرح سبحانه صدره بأن ملأه علما وحكمة ورزقه حفظ القرآن وشرائع الإسلام ومن عليه بالصبر والاحتمال وقيل إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد ضاق صدره بمعاداة الجن والإنس إياه ومناصبتهم له فأتاه من الآيات ما اتسع به صدره بكل ما حمله الله إياه وأمره به وذلك من أعظم النعم عن البلخي وقيل معناه ألم نشرح صدرك بإذهاب الشواغل التي تصد عن إدراك الحق وعن ابن عباس قال سئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقيل يا رسول الله أ ينشرح الصدر قال نعم قالوا يا رسول الله وهل لذلك علامة يعرف بها قال نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والإعداد للموت قبل نزول الموت ومعنى الاستفهام في الآية التقرير أي قد فعلنا ذلك ويدل عليه قوله في العطف عليه ﴿ووضعنا عنك وزرك﴾ أي وحططنا عنك وزرك ﴿الذي أنقض ظهرك﴾ أي أثقله حتى سمع له نقيض أي صوت عن الزجاج قال: وهذا مثل معناه أنه لو كان حملا لسمع نقيض ظهره وقيل إن المراد به تخفيف أعباء النبوة التي تثقل الظهر من القيام بأمرها سهل الله ذلك عليه حتى تيسر له ومن عليه بذلك عن أبي عبيدة وعبد العزيز بن يحيى وقيل معناه وأزلنا عنك همومك التي أثقلتك من أذى الكفار فشبه الهموم بالحمل والعرب تجعل الهم ثقلا عن أبي مسلم وقيل معناه وعصمناك عن احتمال الوزر فإن المقصود من الوضع أن لا يكون عليه ثقل فإذا عصم كان أبلغ في أن لا يكون قال المرتضى قدس الله روحه إنما سميت الذنوب بأنها أوزار لأنها تثقل كاسبها وحاملها فكل شيء أثقل الإنسان وغمه وكده جاز أن يسمى وزرا فلا يمتنع أن يكون الوزر في الآية إنما أراد به غمه (صلى الله عليه وآله وسلم) بما كان عليه قومه من الشرك وأنه وأصحابه بينهم مقهور مستضعف فلما أعلى الله كلمته وشرح صدره وبسط يده خاطبه بهذا الخطاب تذكيرا له بمواقع النعمة ليقابله بالشكر ويؤيده ما بعده من الآيات فإن اليسر بإزالة الهموم أشبه والعسر بإزالة الشدائد والغموم أشبه فإن قيل أن السورة مكية نزلت قبل أن يعلي الله كلمة الإسلام فلا وجه لقولكم قلنا أنه سبحانه لما بشره بأن يعلي دينه على الدين كله ويظهره على أعدائه كان بذلك واضعا عنه ثقل غمه بما كان يلحقه من أذى قومه ومبدلا عسره يسرا فإنه يثق بأن وعد الله حق ويجوز أيضا أن يكون اللفظ وإن كان ماضيا فالمراد به الاستقبال كقوله ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك ولهذا نظائر كثيرة ﴿ورفعنا لك ذكرك﴾ أي قرنا ذكرك بذكرنا حتى لا أذكر إلا وتذكر معي يعني في الأذان والإقامة والتشهد والخطبة على المنابر عن الحسن وغيره قال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا وينادي بأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآية قال قال لي جبرائيل قال الله عز وجل إذا ذكرت ذكرت معي وفي هذا يقول حسان بن ثابت يمدح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
أغر عليه للنبوة خاتم
من الله مشهور يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه
إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله
فذو العرش محمود وهذا محمد
ثم وعد سبحانه اليسر والرخاء بعد الشدة وذلك أنه كان بمكة في شدة قال ﴿فإن مع العسر يسرا﴾ أي مع الفقر سعة عن الكلبي وقيل معناه أن مع الشدة التي أنت فيها من مزاولة المشركين يسرا ورخاء بأن يظهرك الله عليهم حتى ينقادوا للحق الذي جئتهم به طوعا أو كرها ثم كرر ذلك فقال ﴿إن مع العسر يسرا﴾ روى عطاء عن ابن عباس قال يقول الله تعالى خلقت عسرا واحدا وخلقت يسرين فلن يغلب عسر يسرين وعن الحسن قال خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما مسرورا فرحا وهو يضحك ويقول لن يغلب عسر يسرين ﴿فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا﴾ قال الفراء: إن العرب تقول إذا ذكرت نكرة ثم أعدتها نكرة مثلها صارتا اثنتين كقولك إذا كسبت درهما فأنفق درهما فالثاني غير الأول فإذا أعدتها معرفة فهي هي كقولك إذا كسبت الدرهم فأنفق الدرهم فالثاني هو الأول ونحو هذا ما قال الزجاج: أنه ذكر العسر مع الألف واللام ثم ثنى ذكره فصار المعنى إن مع العسر يسرين وقال صاحب كتاب النظم في تفسير هذه الآية: إن الله بعث نبيه وهو مقل مخف وكانت قريش تعيره بذلك حتى قالوا له إن كان بك من هذا القول الذي تدعيه طلب الغنى جمعنا لك مالا حتى تكون كأيسر أهل مكة فكره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك وظن أن قومه إنما يكذبوه لفقره فوعده الله سبحانه الغنى ليسليه بذلك عما خامره من الهم فقال ﴿فإن مع العسر يسرا﴾ وتأويله لا يحزنك ما يقولون وما أنت فيه من الإقلال فإن مع العسر يسرا في الدنيا عاجلا ثم أنجز ما وعده فلم يمت حتى فتح عليه الحجاز وما والاها من القرى العربية وعامة بلاد اليمن فكان يعطي المائتين من الإبل ويهب الهبات السنية ويعد لأهله قوت سنته ثم ابتدأ فصلا آخر فقال ﴿إن مع العسر يسرا﴾ والدليل على ابتدائه تعريه من فاء وواو وهو وعد لجميع المؤمنين لأنه يعني بذلك أن مع العسر في الدنيا للمؤمن يسرا في الآخرة وربما اجتمع له اليسران يسر الدنيا وهو ما ذكر في الآية الأولى ويسر الآخرة وهو ما ذكر في الآية الثانية فقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لن يغلب عسر يسرين أي يسر الدنيا والآخرة فالعسر بين يسرين أما فرج الدنيا وأما ثواب الآخرة وهذا الذي ذكره الجرجاني يؤيد ما ذهب إليه المرتضى قدس الله روحه من أن القائل إذا قال شيئا ثم كرره فإن الظاهر من تغاير الكلامين تغاير مقتضاهما حتى يكون كل واحد منهما مفيدا لما لا يفيده الآخر فيجب مع الإطلاق حمل الثاني على غير مقتضى الأول إلا إذا كان بين المتخاطبين عهد أو دلالة يعلم المخاطب بذلك أن المخاطب أراد بكلامه الثاني الأول فيحمله على ذلك وأنشد أبو بكر الأنباري:
إذا بلغ العسر مجهوده
فثق عند ذاك بيسر سريع
ألم تر نحس الشتاء الفظيع
يتلوه سعد الربيع البديع
وأنشد إسحاق بن بهلول القاضي:
فلا تيأس وإن أعسرت يوما
فقد أيسرت في دهر طويل
ولا تظنن بربك ظن سوء
فإن الله أولى بالجميل
فإن العسر يتبعه يسار
وقول الله أصدق كل قيل
﴿فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب﴾ معناه فإذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك في الدعاء وأرغب إليه في المسألة يعطك عن مجاهد وقتادة والضحاك ومقاتل والكلبي وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) ومعنى انصب من النصب وهو التعب أي لا تشتغل بالراحة وقال الزهري: إذا فرغت من الفرائض فادع بعد التشهد بكل حاجتك وقال الصادق (عليه السلام) هو الدعاء في دبر الصلاة وأنت جالس وقيل معناه فإذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل عن ابن مسعود وقيل معناه فإذا فرغت من دنياك فانصب في عبادة ربك وصل عن مجاهد والجبائي وقيل فإذا فرغت من الفرائض فانصب فيما رغبك الله فيه من الأعمال وصل عن ابن عباس وقيل إذا فرغت من جهاد أعدائك فانصب بالعبادة لله عن الحسن وابن زيد وقيل فإذا فرغت من جهاد الأعداء فانصب بجهاد نفسك وقيل إذا فرغت من أداء الرسالة فانصب لطلب الشفاعة وسئل علي بن طلحة عن هذه الآية فقال القول فيه كثير وقد سمعناه أنه يقال إذا صححت فاجعل صحتك وفراغك نصبا في العبادة ويدل على هذا ما روي أن شريحا مر برجلين يصطرعان فقال: ليس بهذا أمر الفارغ إنما قال الله سبحانه ﴿فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب﴾ أي فارفع حوائجك إلى ربك ولا ترفعها إلى أحد من خلقه وقال عطاء: يريد تضرع إليه راهبا من النار وراغبا إلى الجنة.