الآيات 43-49

وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ﴿43﴾ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ ﴿44﴾ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ﴿45﴾ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿46﴾ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ﴿47﴾ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ﴿48﴾ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴿49﴾

القراءة:

قرأ حفص دأبا بفتح الهمزة والباقون بسكونها وقرأ تعصرون بالتاء أهل الكوفة غير عاصم والباقون بالياء وفي الشواذ قراءة ابن عباس وابن عمر بخلاف والضحاك وقتادة وزيد بن علي (ع) وادكر بعد أمه بالهاء وقراءة الأشهب العقيلي بعد إمة بكسر الهمزة وقرأ جعفر بن محمد (عليهما السلام) وسبع سنابل وقرأ أيضا ما قربتم وقرأ هو والأعرج وعيسى بن عمر وفيه يعصرون بياء مضمومة وصاد مفتوحة.

الحجة:

قال أبو علي انتصب ﴿دأبا﴾ بما دل عليه تزرعون وفيه علاج ودؤوب فكأنه قال تدأبون فانتصب دأبا به لا بالمضمر ولعل الفتح لغة فيه فيكون كشمع وشمع ونهر ونهر و﴿يعصرون﴾ يحتمل أمرين أحدهما أن يكون من العصر الذي يراد به الضغط الذي يلحق ما فيه دهن أو ماء نحو الزيتون والسمسم والعنب ليخرج ذلك منه وهذا يمكن أن يكون تأويل الآية عليه لأن من المتأولين من يحكي أنهم لم يعصروا أربع عشر سنة زيتا ولا عنبا فيكون المعنى تعصرون للخصب الذي أتاكم كما كنتم تعصرون أيام الخصب من قبل الجدب الذي دفعتم إليه ويكون يعصرون من العصر الذي هو الالتجاء إلى ما يقدر به من النجاة قال ابن مقبل:

وصاحبي صهوة مستوهل زعل

يحول بين حمار الوحش والعصر

أي يحول بينه وبين الملجأ الذي يقدر به النجاة وقال أبو زبيد الطائي:

صاديا يستغيث غير مغاث

و لقد كان عصره المنجود

قال أبو عبيدة يعصرون ينجون وأنشد للبيد:

فبات وأسرى القوم آخر ليلهم

وما كان وقافا بدار معصر

فأما من قال ﴿يعصرون﴾ بالياء فإنه جعل الفاعلين الناس لأن ذكرهم قد تقدم ومن قرأ بالتاء وجه الخطاب إلى المستفتين الذين قالوا أفتنا ويجوز أن يريدهم وغيرهم إلا أنه غلب الخطاب على الغيبة كما يغلب التذكير على التأنيث وأما الأمة فهو النسيان يقال أمه يأمه إذا نسي أنشد أبو عبيدة:

أمهت وكنت لا أنسى حديثا

كذاك الدهر يؤذي بالعقول والأمة النعمة فيكون المراد بعد أن أنعم عليه بالنجاة وأما يعصرون بضم الياء فيجوز أن يكون من العصرة والعصر للنجاة ويجوز أن يكون من عصرت السحابة ماءها عليهم وفي كتاب علي بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قرأ رجل على أمير المؤمنين علي (عليه السلام) هذه الآية فقال يعصرون بالياء وكسر الصاد فقال ويحك وأي شيء يعصرون أ يعصرون الخمر فقال الرجل يا أمير المؤمنين فكيف أقرأها قال عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون مضمومة الياء مفتوحة الصاد أي يمطرون بعد سني المجاعة ويدل عليه قوله وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا.

اللغة:

الملك القادر الواسع المقدور الذي إليه السياسة والتدبير والرؤيا ما يراه النائم ويرجع إلى الاعتقاد ثم يكون على وجوه منها ما يكون من الله تعالى وملائكته وهو الذي له تعبير وتأويل ومنها ما يكون من الشيطان ولا تأويل له ومنها ما يكون من جهة النائم واعتقاداته أو يكون بقية اعتقاد كان اعتقده والعجف ذهاب السمن والذكر أعجف والأنثى عجفاء وجمعها عجاف ولا يجمع أفعل على فعال إلا هذا والعبر والتعبير تفسير الرؤيا وهو من عبور النهر ونحوه والأضغاث الأحلام الملتبسة والضغث الحزمة من كل شيء وقال الترمذي الضغث ملء اليد من الحشيش ومنه وخذ بيدك ضغثا أي قبضة والفعل منه أضغث وقيل الضغث خلط قش المد وهو غير متشاكل ولا متلائم فشبهوا به تخليط المنام والأحلام جمع حلم وهو الرؤيا في النوم ويقال حلم يحلم حلما واحتلم فهو حالم والحلم بكسر الحاء ضد الطيش وهو الأناءة وكان أصل حلم النوم من هذا لأنه حال أناءة وسكون وتأويل الرؤيا تفسير ما يؤول إليه معناه وتأويل كل شيء تفسير ما يؤول إليه معنى الكلام والادكار افتعال من الذكر وأصله إذتكار لكن التاء أبدل منها الدال وأدغمت الذال في الدال ويجوز اذكر بالذال أيضا إلا أن الأجود الدال وهو طلب الذكر ونظيره الاستذكار والتذكر والأمة الجماعة تؤم أمرا والأمة المدة وهي الجملة من الحين والصديق الكثير التصديق للحق وقيل هو الكثير الصدق وفعيل بناء المبالغة والكثرة والفتيا الجواب عن حكم المعنى وقد يكون الجواب عن نفس المعنى فلا يكون فتيا والزرع إلقاء البذر في الأرض للنبات ومنه المزارعة بالثلث أو الربع وتسمى المخابرة أيضا وهي مأخوذة من فعل أهل خيبر والدأب العادة يقال دأب يدأب دأبا ويقال دأب في عمله يدأب دءوبا اجتهد وأدأبته أنا إدآبا وذر ودع بمعنى ، لم يجيء منهما لفظة الماضي استغني عن ذلك بترك والشدة والصلابة والصعوبة نظائر وقيل الشدة تكون في سبعة أصناف في العقد والمد والزمان والغضب والألم والشراب والبدن والإحصان مثل الإحراز أحصنه إحصانا جعله في حرز والغوث هو نفع يأتي على شدة حاجة ينفي المضرة ومنه الغيث المطر الذي يأتي في وقت الحاجة قال الأزهري غاث الله البلاد يغيثها وقد غيثت الأرض فهي مغيثة ومغيوثة والغيث الكلاء ينبت من ماء السماء وجمعه غيوث والغياث أصله الواو ومنه الغوث وغوث تغويثا إذا قال واغوثاه من يغيثني ويغاث يحتمل أن يكون من الواو ويحتمل أن يكون من الياء.

الإعراب:

﴿إن كنتم للرؤيا تعبرون﴾ هذه اللام دخلت للتبيين المعنى إن كنتم تعبرون ثم بين باللام فقال للرؤيا عن الزجاج وهذه اللام تزاد في المفعول به إذا تقدم على الفعل تقول عبرت الرؤيا وللرؤيا عبرت وقد جاء مثله في قوله للذين هم لربهم يرهبون وقد جاء فيما ليس بمقدم من المفعول نحو قوله ردف لكم وآخر لا ينصرف لأنه صرف عن جهة صواحبها التي جاءت بالألف واللام وهذه جاءت خاصة بغير ألف ولام فكأنها عدلت عن وجهها تقول هذه النسوة الوسط والكبر ولا تقول وسط وكبر وتقول نسوة أخر فلما خالفت أخواتها ترك صرفها وموضعها في الآية الرابعة جر تقديره وفي آخر أضغاث أحلام تقديره هي أضغاث أحلام يوسف والمراد به يا يوسف ويجوز حذف حرف النداء في المنادى المفرد العلم تقول يا زيد أقبل وزيد أقبل قال:

محمد تفد نفسك كل نفس

إذا ما خفت من أمر وبالا ويروى تبالا أراد يا محمد.

المعنى:

ثم أخبر سبحانه عن سبب نجاة يوسف من السجن وهو أنه لما قرب الفرج رأى الملك رؤيا هالته وأشكل تعبيرها على قومه حتى عبرها يوسف فقال سبحانه ﴿وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان﴾ يعني وقال ملك مصر وهو الوليد بن ريان والعزيز وزيره وفيما رواه الأكثرون إني أرى في منامي سبع بقرات سمان ﴿يأكلهن سبع﴾ أي سبع بقرات أخر ﴿عجاف﴾ أي مهازيل فدخلت السمان في بطون المهازيل حتى لم أر منهن شيئا ﴿وسبع سنبلات خضر﴾ أي وأرى في منامي سبع سنبلات قد انعقد حبها ﴿وأخر﴾ أي وسبعا أخر ﴿يابسات﴾ قد احتصدت فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها ﴿يا أيها الملأ﴾ أي جمع الأشراف وقيل جمع السحرة والكهنة وقص رؤياه عليهم وقال يا أيها الأشراف أو الجماعة ﴿أفتوني في رؤياي﴾ أي عبروا ما رأيت في منامي وبينوا لي الفتوى فيه وهو حكم الحادثة ﴿إن كنتم للرؤيا تعبرون﴾ معناه إن كنتم عابرين للرؤيا وقيل إن اللام تفيد معنى إلى أي إن كنتم توجهون العبارة إلى الرؤيا ﴿قالوا أضغاث أحلام﴾ أي هذه أباطيل أحلام عن الكلبي وقيل تخاليط أحلام عن قتادة والمعنى هذا منامات كاذبة لا يصح تأويلها ﴿وما نحن بتأويل الأحلام﴾ التي هذه صفتها ﴿بعالمين﴾ وإنا نعلم تأويل ما يصح وكان جهل الملأ بتأويل رؤيا الملك سبب نجاة يوسف لأن الساقي تذكر حديث يوسف فجثا بين يديه وقال يا أيها الملك إني قصصت أنا وصاحب الطعام على رجل في السجن منامين فخبر بتأويلهما وصدق في جميع ما وصف فإن أذنت مضيت إليه وأتيتك من قبله بتفسير هذه الرؤيا فذلك قوله ﴿وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون﴾ عن الكلبي وقوله ﴿وادكر بعد أمة﴾ معناه تذكر شأن يوسف وما وصاه به بعد حين من الدهر وزمان طويل عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وهاهنا حذف يدل الكلام عليه وهو فأرسلون إلى يوسف فأرسل فأتى يوسف في السجن وقال له ﴿يوسف﴾ أي يا يوسف ﴿أيها الصديق﴾ أي الكثير الصدق فيما تخبر به ﴿أفتنا في سبع بقرات سمان﴾ إلى قوله ﴿يابسات﴾ فإن الملك رأى هذه الرؤيا واشتبه تأويلها ﴿لعلي أرجع إلى الناس﴾ يعني الملك وأصحابه والعلماء الذين جمعهم لتعبير رؤياه ﴿لعلهم يعلمون﴾ فضلك وعلمك فيخرجوك من السجن وقيل لعلهم يعرفون تأويل رؤيا الملك ﴿قال﴾ يوسف في جوابه معبرا ومعلما أما البقرات السبع العجاف والسنابل السبع اليابسات فالسنون الجدبة وأما السبع السمان والسنابل السبع الخضر فإنهن سبع سنين مخصبات ذوات نعمة وأنتم تزرعون فيها فذلك قوله ﴿تزرعون سبع سنين دأبا﴾ أي فازرعوا سبع سنين متوالية عن ابن عباس أي زراعة متوالية في هذه السنين على عادتكم في الزراعة سائر السنين وقبل دأبا أي بجد واجتهاد في الزراعة ويجوز أن يكون حالا فيكون معناه تزرعون دائبين ﴿فما حصدتم﴾ من الزرع ﴿فذروه﴾ اتركوه ﴿في سنبله﴾ لا تذروه ولا تدوسوه ﴿إلا قليلا مما تأكلون﴾ وإنما أمرهم بذلك ليكون أبقى وأبعد من الفساد يعني أن ما أردتم أكله فدوسوه واتركوا الباقي في السنبل وقيل إنما أمرهم بذلك لأن السنبل لا يقع فيه سوس ولا يهلك وإن بقي مدة من الزمان وإذا صفي أسرع إليه الهلاك ﴿ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد﴾ أي سبع سنين مجدبات صعاب تشد على الناس ﴿يأكلن ما قدمتم لهن﴾ معناه تأكلن فيها ما قدمتم في السنين المخصبة لتلك السنين وإنما أضاف الأكل إلى السنين لأنه يقع فيها كما قال الشاعر:

نهارك يا مغرور سهو وغفلة

وليلك نوم والردى لك لازم

وسعيك فيما سوف تكره غبه

كذلك في الدنيا تعيش البهائم

وقيل أراد بالأكل الإفناء والإهلاك كما يقال أكل السير لحم الناقة أي ذهب به قال زيد بن أسلم كان يوسف يصنع طعام اثنين فيقربه إلى رجل فيأكل نصفه حتى كان ذات يوم قربه إليه فأكله كله فقال هذا أول يوم من السبع الشداد ﴿إلا قليلا مما تحصنون﴾ معناه إلا شيئا قليلا مما تحرزون وتدخرون ﴿ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس﴾ معناه ثم يأتي من بعد هذه السنين الشداد عام فيه يمطر الناس من الغيث وقيل يغاثون من الغوث والغياث أي ينقذون وينجون من القحط ﴿وفيه يعصرون﴾ الثمار التي تعصر في الخصب كالعنب والزيت والسمسم عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ينجون من الجدب من العصرة والعصر والاعتصار الالتجاء قال عدي بن زيد:

لو بغير الماء حلقي شرق

كنت كالغصان بالماء اعتصاري

وهذا القول من يوسف إخبار بما لم يسألوه منه ولم يكن في رؤيا الملك بل هو مما أطلعه الله تعالى عليه من علم الغيب ليكون من آيات نبوته (ع) قال البلخي وهذا التأويل من يوسف يدل على بطلان قول من يقول إن الرؤيا على ما عبرت أولا لأنهم كانوا قالوا هي أضغاث أحلام فلو كان ما قالوه صحيحا لكان يوسف لا يتأولها.