الآيات 6-10

خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴿6﴾ إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿7﴾ وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ﴿8﴾ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ﴿9﴾ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿10﴾

القراءة:

قرأ أبو عمرو في رواية أوقية وأبي شعيب السوسي وأبي عمرو الدوري عن اليزيدي عنه وحمزة وفي رواية العجلي يرضه لكم ساكنة الهاء وقرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي وخلف ونافع برواية إسماعيل وأبو بكر برواية البرجمي يرضه مضمومة الهاء مشبعة وقرأ الباقون بضم الهاء مختلسة غير مشبعة وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة أمن هو قانت خفيفة الميم والباقون بتشديد الميم.

الحجة:

قال أبو علي حجة من قرأ يرضهو فألحق الواو أن ما قبل الهاء متحرك فيكون بمنزلة ضربهو وهذا لهو ومن قال ﴿يرضه﴾ فحرك الهاء ولم يلحق الواو أن الألف المحذوفة للجزم ليس يلزم حذفها لأن الكلمة إذا نصبت أو رفعت عادت الألف فصار الألف في حكم الثابت فإذا ثبت الألف فالأحسن أن لا يلحق الواو نحو قوله ألقى موسى عصاه وذلك أن الهاء خفيفة فلو لحقتها الواو وقبلها الألف لأشبه الجمع بين الساكنين وأما من أسكن فقال يرضه لكم فإن أبا الحسن يزعم أن ذلك لغة وعلى هذا قوله:

ونضواي مشتاقان له أرقان ومن قرأ ﴿أم من هو قانت﴾ ففيه وجهان (أحدهما) أن المعنى الجاحد الكافر خير أم من هو قانت ويدل على المحذوف قوله ﴿قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾ ودل عليه أيضا قوله ﴿قل تمتع بكفرك قليلا﴾ وقد تقدم ذكره (والآخر) أن المعنى قل أمن هو قانت كغيره أي أمن هو مطيع كمن هو عاص ويكون على هذا الخبر محذوفا لدلالة الكلام عليه كقوله تعالى أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب وأما من خفف فقال أمن هو قانت فالمعنى أيضا أم من هو قانت كمن هو بخلاف هذا الوصف فلا وجه للنداء هنا لأن هذا موضع معادلة وإنما يقع فيه الحمل الذي يكون فيه إخبار وليس النداء كذلك وقال أبو الحسن القراءة بالتخفيف ضعيفة لأن الاستفهام إنما يبتدىء ما بعده ولا يحمل على ما قبله وهذا الكلام ليس قبله شيء يحمل عليه إلا في المعنى.

اللغة:

التخويل العطية العظيمة على وجه الهبة وهي المنحة خوله الله مالا ومنه الحديث كان يتخولهم بالموعظة مخافة السامة عليهم أي يتعبدهم والحديث الآخر إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله دولا ودين الله دخلا وعباد الله خولا أي يظنون عباد الله عبيدهم أعطاهم الله ذلك قال أبو النجم:

أعطى فلم يبخل ولم يبخل

كوم الذرى من خول المخول

والقانت الداعي والقانت المصلي قال:

قانتا لله يتلو كتبه

وعلى عمد من الناس اعتزل آناء الليل واحدها أني وأنى.

الإعراب:

﴿ذلكم الله ربكم له الملك﴾ ذلكم مبتدأ والله عطف بيان وربكم بدل من لفظة الله وإن شئت كان خبرا لمبتدء.

﴿له الملك﴾ يرتفع الملك بالظرف والظرف مع ما ارتفع به في موضع الحال والعامل فيه معنى الإشارة والتقدير ثابتا له الملك ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر وكذا قوله ﴿لا إله إلا هو﴾ جاز أن يكون في موضع الحال أي متوحدا بالوحدانية وجاز أن يكون خبرا آخر.

﴿فأنى تصرفون﴾ أنى في موضع نصب على الحال أو على المصدر ومعناه كيف تصرفون.

المعنى:

ثم أبان سبحانه عن كمال قدرته بخلق آدم وذريته فقال ﴿خلقكم من نفس واحدة﴾ يعني آدم (عليه السلام) لأن جميع البشر من نسله ﴿ثم جعل منها زوجها﴾ يعني حواء أي من فضل طينته وقيل من ضلع من أضلاعه وفي قوله ﴿ثم جعل منها زوجها﴾ ثم يقتضي التراخي والمهلة وخلق الوالدين قبل الولد ثلاثة أقوال (أحدها) أنه عطف يوجب أن الكلام الثاني بعد الأول ويجري مجرى قول القائل قد رأيت ما كان منك اليوم ثم ما كان منك أمس وإن كان ما كان أمس قبل ما يكون اليوم مثله قول الشاعر:

ولقد ساد ثم ساد أبوه

ثم قد ساد قبل ذلك جده

(وثانيها) أنه معطوف على معنى واحدة فكأنه قال خلقكم من نفس واحدة أوجدها وحدها ثم جعل منها زوجها (وثالثها) أنه خلق الذرية في ظهر آدم وأخرجها من ظهره كالذر ثم خلق من بعد ذلك حواء من ضلع من أضلاعه على ما ورد في الأخبار وهذا ضعيف وقد مضى الكلام عليه ﴿وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج﴾ اختلف في معناه على وجوه (أحدها) أن معنى الإنزال هنا الأحداث والإنشاء كقوله قد أنزلنا عليكم لباسا ولم ينزل اللباس ولكن أنزل الماء الذي هو سبب القطن والصوف واللباس يكون منهما فكذلك الأنعام تكون بالنبات والنبات يكون بالماء (والثاني) أنه أنزلها بعد أن خلقها في الجنة عن الجبائي قال وفي الخبر الشاة من دواب الجنة والإبل من دواب الجنة (والثالث) أن المعنى جعلها نزلا ورزقا لكم ويعني بالأزواج الثمانية من الأنعام الإبل والبقر والغنم والضأن والمعز من كل صنف اثنان هما زوجان وهو مفسر في سورة الأنعام ﴿يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق﴾ نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم يكسو العظام لحما ثم ينشىء خلقا آخر عن قتادة ومجاهد والسدي وقيل خلقا في بطون الأمهات بعد الخلق في ظهر آدم عن ابن زيد ﴿في ظلمات ثلاث﴾ ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) وقيل ظلمة الليل أو ظلمة صلب الرجل وظلمة الرحم وظلمة البطن ثم خاطب سبحانه خلقه فقال ﴿ذلكم الله﴾ الذي خلق هذه الأشياء ﴿ربكم﴾ الذي يملك التصرف فيكم ﴿له الملك﴾ على جميع المخلوقات ﴿لا إله إلا هو فأنى تصرفون﴾ عن طريق الحق بعد هذا البيان مثل قوله ﴿فأنى تؤفكون﴾ ﴿إن تكفروا﴾ أي تجحدوا نعمة الله تعالى ولم تشكروه ﴿فإن الله غني عنكم﴾ وعن شكركم فلا يضره كفركم ﴿و لا يرضى لعباده الكفر﴾ وفي هذا أوضح دلالة على أنه سبحانه لا يريد الكفر الواقع من العباد لأنه لو أراده لوجب متى وقع أن يكون راضيا به لعبده لأن الرضاء بالفعل ليس إلا ما ذكرناه أ لا ترى أنه يستحيل أن نريد من غيرنا شيئا ويقع منه على ما نريده فلا نكون راضين به أو أن نرضى شيئا ولم نرده البتة ﴿وإن تشكروا يرضه لكم﴾ أي وأن تشكروا الله تعالى على نعمه وتعترفوا بها يرضه لكم ويرده منكم ويثبكم عليه والهاء في يرضه كناية عن المصدر الذي دل عليه وإن تشكروا والتقدير يرضى الشكر لكم كقولهم من كذب كان شرا له أي كان الكذب شرا له ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾ أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى والمعنى لا يؤاخذ بالذنب إلا من يرتكبه ويفعله ﴿ثم إلى ربكم مرجعكم﴾ أي مصيركم ﴿فينبؤكم بما كنتم تعملون﴾ أي يخبركم بما عملتموه ويجازيكم بحسب ذلك ﴿إنه عليم بذات الصدور﴾ فلا يخفى عليه سر وعلانية ﴿وإذا مس الإنسان ضر﴾ من شدة ومرض وقحط وغير ذلك ﴿دعا ربه منيبا إليه﴾ أي راجعا إليه وحده لا يرجو سواه ﴿ثم إذا خوله﴾ أي أعطاه ﴿نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل﴾ أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى أن يكشفه من قبل نيل هذه النعمة قال الزجاج معناه نسي الدعاء الذي كان يتضرع به إلى الله عز وجل من قبل وجائز أن يكون المعنى نسي الله الذي كان يتضرع إليه من قبل ومثله ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد فكانت ما تدل على الله تعالى ومن عبارة عن كل مميز وما يكون لكل شيء ﴿وجعل لله أندادا﴾ أي سمي له أمثالا في توجيه عبادته إليها من الأصنام والأوثان ﴿ليضل﴾ الناس ﴿عن سبيله﴾ أي عن دينه أو يضل هو عن الدين واللام لام العاقبة وذلك أنهم لم يفعلوا ما فعلوه وغرضهم ذلك لكن عاقبتهم كانت إليه ﴿قل تمتع بكفرك قليلا﴾ هذا أمر معناه الخبر كقوله إذا لم تستح فاصنع ما شئت والمعنى أن مدة تمتعه في الدنيا بكفره قليلة زائلة ﴿إنك من أصحاب النار﴾ تعذب فيها دائما ﴿أمن هو قانت﴾ أي أ هذا الذي ذكرناه خير أم من هو دائم على الطاعة عن ابن عباس والسدي وقيل على قراءة القرآن وقيام الليل عن ابن عمر وقيل يعني صلاة الليل عن أبي جعفر (عليه السلام) ﴿آناء الليل﴾ أي ساعات الليل ﴿ساجدا وقائما﴾ يسجد تارة في الصلاة ويقوم أخرى ﴿يحذر الآخرة﴾ أي عذاب الآخرة ﴿ويرجوا رحمة ربه﴾ أي يتردد بين الخوف والرجاء أي ليسا سواء وهو قوله ﴿قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾ أي لا يستوي الذين يعلمون ما وعد الله من الثواب والعقاب والذين لا يعلمون ذلك ﴿إنما يتذكر أولو الألباب﴾ أي إنما يتعظ ذوو العقول من المؤمنين وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال نحن الذين يعلمون وعدونا الذين لا يعلمون وشيعتنا أولو الألباب ﴿قل﴾ يا محمد لهم ﴿يا عباد الذين آمنوا﴾ أي صدقوا بتوحيد الله تعالى ﴿اتقوا ربكم﴾ أي عقاب ربكم باجتناب معاصيه وتم الكلام ثم قال ﴿للذين أحسنوا﴾ أي فعلوا الأعمال الحسنة وأحسنوا إلى غيرهم ﴿في هذه الدنيا حسنة﴾ أي لهم على ذلك في هذه الدنيا حسنة أي ثناء حسن وذكر جميل ومدح وشكر وصحة وسلامة عن السدي وقيل معناه للذين أحسنوا العمل في هذه الدنيا مثوبة حسنة في الآخرة وهو الخلود في الجنة ﴿وأرض الله واسعة﴾ هذا حث لهم على الهجرة من مكة عن ابن عباس أي لا عذر لأحد في ترك طاعة الله فإن لم يتمكن منها في أرض فليتحول إلى أخرى يتمكن منها فيها كقوله أ لم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها وقيل معناه وأرض الله الجنة واسعة فاطلبوها بالأعمال الصالحة عن مقاتل وأبي مسلم ﴿إنما يوفى الصابرون أجرهم﴾ أي ثوابهم على طاعاتهم وصبرهم على شدائد الدنيا ﴿بغير حساب﴾ لكثرته لا يمكن عده وحسابه وروى العياشي بالإسناد عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا نشرت الدواوين ونصبت الموازين لم ينصب لأهل البلاء ميزان ولم ينشر لهم ديوان ثم تلا هذه الآية ﴿إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾.