الآيات 1-23

عَبَسَ وَتَوَلَّى ﴿1﴾ أَن جَاءهُ الْأَعْمَى ﴿2﴾ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ﴿3﴾ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى ﴿4﴾ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ﴿5﴾ فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى ﴿6﴾ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ﴿7﴾ وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى ﴿8﴾ وَهُوَ يَخْشَى ﴿9﴾ فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى ﴿10﴾ كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ﴿11﴾ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ ﴿12﴾ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ ﴿13﴾ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ ﴿14﴾ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ﴿15﴾ كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴿16﴾ قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ﴿17﴾ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ﴿18﴾ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ﴿19﴾ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ﴿20﴾ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ﴿21﴾ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ ﴿22﴾ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ﴿23﴾

القراءة:

قرأ عاصم غير الأعشى والبرجمي فتنفعه بالنصب والباقون بالرفع وقرأ أهل الحجاز تصدى بالتشديد والباقون ﴿تصدى﴾ بتخفيف الصاد وفي الشواذ قراءة الحسن أن جاءه وقراءة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) تصدى بضم التاء وفتح الصاد وتلهى بضم التاء أيضا وقراءة أبي حيوة وشعيب بن أبي حمزة نشره بغير ألف.

الحجة:

قال أبو علي من قرأ فتنفعه بالرفع عطفه على ما تقدم من المرفوع ومن قرأ بالنصب فعلى أنه جواب بالفاء لأن المتقدم غير موجب فكان قوله تعالى ﴿يذكر﴾ المعطوف على ﴿يزكى﴾ في معنى لعله يكون منه تذكر فانتفاع وكذا قوله لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع وقوله ﴿تصدى﴾ أي تعرض فمن قرأ بتشديد الصاد أدغم التاء في الصاد ومن قرأ بالتخفيف أراد تتصدى فحذف التاء ولم يدغمها وقرأ ابن فليح والبزي عن ابن كثير تلهى بتشديد التاء على أنه شبه المنفصل بالمتصل وجاز وقوع الساكن بعد اللين كما جاز تمود الثوب في المتصل وحكى سيبويه فلا تناجوا ومن قرأ أن جاءه بلفظ الاستفهام فتقديره الآن جاءه الأعمى وكان ذلك منه فعلق أن يفعل بمحذوف دل عليه ﴿عبس وتولى﴾ وأما على القراءة المشهورة فإن جاءه في موضع نصب بتولي لأنه الفعل الأقرب منه فكأنه قال تولى لمجيء الأعمى وهو مفعول به ومن قرأ تصدى فالمعنى يدعوك داع من زينة الدنيا وبشارتها إلى التصدي له والإقبال عليه وعلى ذلك قوله تلهى أيضا أي تصرف عنه ومن قرأ نشره فعلى أنه لغة في أنشره.

اللغة:

التصدي التعرض للشيء كتعرض الصديان للماء والصحف جمع صحيفة والعرب تسمي كل مكتوب فيه صحيفة كما تسميه كتابا رقا كان أو غيره والسفرة الكتب لأسفار الحكمة واحدهم سافر وواحد الأسفار سفر وأصله الكشف من قولهم سفرت المرأة إذا كشفت عن وجهها وسفرت القوم إذا أصلحت بينهم قال:

وما أدع السفارة بين قومي

وما أمشي بغش إن مشيت

والبررة جمع بار وهو فاعل البر والبر فعل النفع اجتلابا للمودة وأصله اتساع النفع ومنه البر سمي به تفاؤلا باتساع النفع به وأقبره جعل له قبرا فالإقبار جعل القبر لدفن الميت فيه ويقال أقبرني فلانا أي اجعلني أقبره والقابر الدافن للميت بيده قال الأعشى:

لو أسندت ميتا إلى نحرها

عاش ولم ينقل إلى قابر

حتى يقول الناس مما رأوا

يا عجبا للميت الناشر

والإنشار الإحياء للتصرف بعد الموت كنشر الثوب بعد الطي.

الأعراب:

﴿ثم السبيل يسره﴾ انتصب السبيل بفعل مضمر يفسره هذا الظاهر تقديره ثم يسر السبيل يسره له أي للإنسان ثم حذف الجار والمجرور وقوله ﴿كلا لما يقض ما أمره﴾ أي ما أمره به فحذف الباء فصار التقدير ما أمرهه فحذف الهاء الأولى فصار ما أمره فالهاء الباقية لما الموصولة والهاء المحذوفة للإنسان.

النزول:

قيل نزلت الآيات في عبد الله بن أم مكتوم وهو عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي وذلك أنه أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأبيا وأمية ابني خلف يدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم فقال يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنه مشتغل مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لقطعه كلامه وقال في نفسه يقول هؤلاء الصناديد إنما أتباعه العميان والعبيد فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم فنزلت الآيات وكان رسول الله بعد ذلك يكرمه وإذا رآه قال مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ويقول له هل لك من حاجة واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين وقال أنس بن مالك فرأيته يوم القادسية وعليه درع ومعه راية سوداء قال المرتضى علم الهدى قدس الله روحه ليس في ظاهر الآية دلالة على توجهها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بل هو خبر محض لم يصرح بالمخبر عنه وفيها ما يدل على أن المعنى بها غيره لأن العبوس ليس من صفات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الأعداء المباينين فضلا عن المؤمنين والمسترشدين ثم الوصف بأنه يتصدى للأغنياء ويتلهى عن الفقراء لا يشبه أخلاقه الكريمة ويؤيد هذا القول قوله سبحانه في وصفه (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنك لعلى خلق عظيم وقوله ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فالظاهر أن قوله ﴿عبس وتولى﴾ المراد به غيره وقد روي عن الصادق (عليه السلام) أنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فجاء ابن أم مكتوم فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه فإن قيل فلو صح الخبر الأول هل يكون العبوس ذنبا أم لا فالجواب أن العبوس والانبساط مع الأعمى سواء إذ لا يشق عليه ذلك فلا يكون ذنبا فيجوز أن يكون عاتب الله سبحانه بذلك نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق وينبهه بذلك على عظم حال المؤمن المسترشد ويعرفه أن تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه أولى من تأليف المشرك طمعا في إيمانه وقال الجبائي في هذا دلالة على أن الفعل يكون معصية فيما بعد لمكان النهي فأما في الماضي فلا يدل على أنه كان معصية قبل أن ينهى عنه والله سبحانه لم ينهه إلا في هذا الوقت وقيل أن ما فعله الأعمى نوعا من سوء الأدب فحسن تأديبه بالإعراض عنه إلا أنه كان يجوز أن يتوهم أنه أعرض عنه لفقره وأقبل عليهم لرياستهم تعظيما لهم فعاتبه الله سبحانه على ذلك وروي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا رأى عبد الله بن أم مكتوم قال مرحبا مرحبا لا والله لا يعاتبني الله فيك أبدا وكان يصنع به من اللطف حتى كان يكف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مما يفعل به.

المعنى:

﴿عبس﴾ أي بسر وقبض وجهه ﴿وتولى﴾ أي أعرض بوجهه ﴿أن جاءه الأعمى﴾ أي لأن جاءه الأعمى ﴿وما يدريك لعله﴾ أي لعل هذا الأعمى ﴿يزكى﴾ يتطهر بالعمل الصالح وما يتعلمه منك ﴿أو يذكر﴾ أي يتذكر فيتعظ بما يعلمه من مواعظ القرآن ﴿فتنفعه الذكرى﴾ في دينه قالوا وفي هذا لطف من الله عظيم لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ لم يخاطبه في باب العبوس فلم يقل عبست فلما جاوز العبوس عاد إلى الخطاب فقال وما يدريك.

ثم قال ﴿أما من استغنى﴾ أي من كان عظيما في قومه واستغنى بالمال ﴿فأنت له تصدى﴾ أي تتعرض له وتقبل عليه بوجهك ﴿وما عليك ألا يزكى﴾ أي أي شيء يلزمك إن لم يسلم ولم يتطهر من الكفر فإنه ليس عليك إلا البلاغ ﴿وأما من جاءك يسعى﴾ أي يعمل في الخير يعني ابن أم مكتوم ﴿وهو يخشى﴾ الله عز وجل ﴿فأنت عنه تلهى﴾ أي تتغافل وتشتغل عنه بغيره ﴿كلا﴾ أي لا تعد لذلك وانزجر عنه ﴿إنها تذكرة﴾ أي إن آيات القرآن تذكير وموعظة للخلق ﴿فمن شاء ذكره﴾ أي ذكر التنزيل أو القرآن أو الوعظ والمعنى فمن شاء أن يذكره ذكره وفي هذا دلالة على أن العبد قادر على الفعل مخير فيه وقوله ﴿كلا﴾ فيه دلالة على أنه ليس له أن يفعل ذلك في المستقبل وأما الماضي فلم يتقدم النهي عن ذلك فيه فلا يكون معصية ثم أخبر سبحانه بجلالة قدر القرآن عنده فقال ﴿في صحف مكرمة﴾ أي هذا القرآن أو هذه التذكرة في كتب معظمة عند الله وهي اللوح المحفوظ عن ابن عباس وقيل يعني كتب الأنبياء المنزلة عليهم كقوله إن هذا لفي الصحف الأولى ﴿مرفوعة﴾ في السماء السابعة وقيل مرفوعة قد رفعها الله عن دنس الأنجاس ﴿مطهرة﴾ لا يمسها إلا المطهرون وقيل مصونة عن أن تنالها أيدي الكفرة لأنها في أيدي الملائكة في أعز مكان عن الجبائي وقيل مطهرة من كل دنس عن الحسن وقيل مطهرة من الشك والشبهة والتناقض ﴿بأيدي سفرة﴾ يعني الكتبة من الملائكة عن ابن عباس ومجاهد وقيل يعني السفراء بالوحي بين الله تعالى وبين رسله من السفارة وقال قتادة هم القراء يكتبونها ويقرءونها وروى فضيل بن يسار عن الصادق (عليه السلام) قال الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة ثم أثنى عليهم فقال ﴿كرام﴾ على ربهم ﴿بررة﴾ مطيعين وقيل كرام عن المعاصي يرفعون أنفسهم عنها بررة أي صالحين متقين وقال مقاتل كان القرآن ينزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر إلى الكتبة من الملائكة ثم ينزل به جبريل (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم ذكر سبحانه المكذبين بالقرآن فقال ﴿قتل الإنسان﴾ أي عذب ولعن الإنسان وهو إشارة إلى كل كافر عن مجاهد وقيل هو أمية بن خلف عن الضحاك وقيل هو عتبة بن أبي لهب إذ قال كفرت برب النجم إذا هوى ﴿ما أكفره﴾ أي ما أشد كفره وما أبين ضلاله وهذا تعجب منه كأنه قد قال تعجبوا منه ومن كفره مع كثرة الشواهد على التوحيد والإيمان وقيل أن ما للاستفهام أي أي شيء أكفره وأوجب كفره عن مقاتل والكلبي فكأنه قال ليس هاهنا شيء يوجب الكفر ويدعو إليه فما الذي دعاه إليه مع كثرة نعم الله عليه، ثم بين سبحانه من أمره ما كان ينبغي معه أن يعلم أن الله خالقه فقال ﴿من أي شيء خلقه﴾ لفظه استفهام ومعناه التقرير وقيل معناه لم لا ينظر إلى أصل خلقته من أي شيء خلقه الله ليدله على وحدانية الله تعالى ثم فسر فقال ﴿من نطفة خلقه فقدره﴾ أطوارا نطفة ثم علقة إلى آخر خلقة وعلى حد معلوم من طوله وقصره وسمعه وبصره وحواسه وأعضائه ومدة عمره ورزقه وجميع أحواله ﴿ثم السبيل يسره﴾ أي ثم يسر سبيل الخروج من بطن أمه حتى خرج منه عن ابن عباس وقتادة وذلك أن رأسه كان إلى رأس أمه وكذلك رجلاه كانتا إلى رجليها فقلبه الله عند الولادة ليسهل خروجه منها وقيل ثم السبيل أي سبيل الدين يسره وطريق الخير والشر بين له وخيره ومكنه من فعل الخير واجتناب الشر ونظيره وهديناه النجدين عن مجاهد والحسن وابن زيد ﴿ثم أماته﴾ أي خلق الموت فيه وقيل أزال عنه حياته ﴿فأقبره﴾ أي صيره بحيث يقبر وجعله ذا قبر عن أبي مسلم وقيل جعله مقبورا ولم يجعله ممن يلقى إلى السباع والطير عن الفراء وقيل أمر بأن يقبر عن أبي عبيدة ﴿ثم إذا شاء أنشره﴾ أي أحياه من قبره وبعثه إذا شاء تعالى أن يحييه للجزاء والحساب والثواب والعقاب عن الحسن ﴿كلا﴾ أي حقا ﴿لم يقض﴾ أي لم يقض ﴿ما أمره﴾ الله به من إخلاص عبادته ولم يؤد حق الله تعالى عليه مع كثرة نعمه قال مجاهد هو على العموم في الكافر والمسلم لم يعبده أحد حق عبادته.