الآيات 13-18

قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴿13﴾ قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ ﴿14﴾ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴿15﴾ وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ ﴿16﴾ قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴿17﴾ وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴿18﴾

اللغة:

الذئب أصله الهمز وإن خففت جاز وقراءة الكسائي وخلف وأبو جعفر وورش والأعشى واليزيدي بتخفيف الهمزة في المواضع الثلاث والباقون بالهمز وجمع الذئب أذؤب وذئاب وذؤبان وتذائبت الريح أتت من كل جهة وحزنت وأحزنت لغتان والحزن ألم القلب بفراق المحبوب والشعور إدراك الشيء بمثل الشعرة في الدقة ومنه المشاعر في البدن والمجيء والمصير إلى الشيء واحد وقد يكون المصير بالانقلاب كمصير الطين خزفا وقد يكون بمعنى الانتقال والعشاء آخر النهار ومنه اشتق الأعشى لأنه يستضيء ببصر ضعيف ويقال العشاء أول ظلام الليل ويقال العشي من زوال الشمس إلى الصباح والعشاء من صلاة المغرب إلى العتمة والاستباق افتعال من السبق واستبقا تبادرا حتى يظهر الأقوى ومنه المسابقة وهو على ثلاثة أوجه سباق بالرمي وذلك جائز بالاتفاق وسباق على الخيل والإبل وذلك جائز عندنا وسباق على الأقدام وذلك غير جائز بعوض وبه قال الشافعي وعند أبي حنيفة يجوز بعوض وبلا عوض وبه قال قوم من أصحابنا وكذلك القول في الصراع ودم كذب أي مكذوب فيه وهو مصدر وصف به وقيل إن تقديره بدم ذي كذب قال الفراء يجوز أن يقع المصدر موقع المفعول كما يقع المفعول موقع المصدر في مثل قول الشاعر:

حتى إذا لم يتركوا لعظامه

لحما ولا لفؤاده معقولا ولم يجزه سيبويه وقال المفعول لا يكون مصدرا ويتأول قولهم خذ ميسورة ودع معسورة وقال يعني به خذ ما يسر له ودع ما عسر عليه وكذلك ليس لفؤاده معقول أي ما يعقل به وروي عن عائشة أنها قرأت بدم كدب بالدال أي دم طري والتسويل تزيين النفس ما ليس بحسن وقيل هو تقدير معنى في النفس على الطمع في تمامه.

الإعراب:

اللام في قوله ﴿لئن﴾ هي اللام التي يتلقى بها القسم و﴿إنا إذا الخاسرون﴾ جواب القسم ﴿فلما ذهبوا به﴾ جواب لما محذوف وتقديره عظمت فتنتهم أو كبر ما قصدوا له والكوفيون يقولون الواو في ﴿وأجمعوا﴾ مقحمة وتقديره أجمعوا ولا يجيز البصريون إقحام الواو وقالوا لم يثبت ذلك بحجة ولا قياس ومما أنشده الكوفيون في ذلك قول الشاعر:

حتى إذا قملت بطونكم

ورأيتم أبناءكم شبوا

وقلبتم ظهر المجن لنا

إن اللئيم العاجز الخب وقول امرىء القيس:

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل قالوا أراد انتحى والبصريون يحملون الجميع على حذف الجواب وقوله ﴿يبكون﴾ في موضع نصب على الحال و﴿عشاء﴾ منصوب على الظرف وجائز أن يكون ﴿وهم لا يشعرون﴾ من صلة قوله ﴿لتنبئنهم﴾ وجائز أن يكون من صلة ﴿وأوحينا﴾ أي نبأناه بالوحي وهم لا يشعرون أنه نبي قد أوحي إليه و﴿نستبق﴾ في موضع نصب على الحال و﴿صبر جميل﴾ مرفوع على أحد وجهين على أنه خبر مبتدإ محذوف وتقديره فشأني صبر جميل أو فصبري صبر جميل وهو قول قطرب أو على أنه مبتدأ محذوف الخبر والتقدير فصبر جميل أمثل وأنشد:

شكا إلي جملي طول السري

يا جملي ليس إلي المشتكى

صبر جميل فكلانا مبتلى ويجوز في غير القرآن فصبرا جميلا وروي ذلك عن أبي ويكون معناه فاصبري يا نفس صبرا جميلا قال ذو الرمة:

ألا إنما مي فصبرا بلية

وقد يبتلى الحر الكريم فيصبر وقال الآخر:

أبى الله أن يبقي لحي بشاشة

فصبرا على ما شاءه الله لي صبرا

المعنى:

ثم أخبر سبحانه أنهم لما أظهروا النصح والشفقة على يوسف هم يعقوب أن يبعثه معهم وحثهم على حفظه ف ﴿قال إني ليحزنني﴾ أي يغمني ﴿أن تذهبوا به﴾ وتغيبوه عني وقيل معناه يحزنني مفارقته إياي ﴿وأخاف﴾ عليه إذا ذهبتم به إلى الصحراء ﴿أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون﴾ فهذه جملة في موضع الحال وتقديره أخاف أن يأكله الذئب في حال كونكم ساهين عنه مشغولين ببعض أشغالكم قالوا وكانت أرضهم مذأبة وكانت الذئاب ضارية في ذلك الوقت وقيل أن يعقوب رأى في منامه كان يوسف قد شد عليه عشرة أذؤب ليقتلوه وإذا ذئب منها يحمي عنه فكأن الأرض انشقت فدخل فيها يوسف فلم يخرج منها إلا بعد ثلاثة أيام فمن ثم قال فلقنهم العلة وكانوا لا يدرون وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال لا تلقنوا الكذب فيكذبوا فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الإنسان حتى لقنهم أبوهم وهذا يدل على أن الخصم لا ينبغي أن يلقن حجة وقيل أنه خاف عليه أن يقتلوه فكنى عنهم بالذئب مسايرة لهم قال ابن عباس سماهم ذئابا ﴿قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة﴾ أي جماعة متعاضدون متناصرون نرى الذئب قد قصده ولا نمنعه منه ﴿إنا إذا لخاسرون﴾ أي نكون كالذين تذهب عنه رءوس أموالهم على رغم منهم وقيل معناه إنا إذا عجزة ضعفة قال الحسن والله لقد كانوا أخوف عليه من الذئب وقيل معناه إنا إذا لمضيعون بلغة قيس عيلان عن المؤرج وهاهنا حذف والتقدير أنه أرسله معهم إجابة لما سألوه ليؤدي ذلك إلى الألفة والمحبة ﴿فلما ذهبوا به وأجمعوا﴾ أي عزموا جميعا ﴿أن يجعلوه في غيابة الجب﴾ أي قعر البئر واتفقت دواعيهم عليه فإن من دعاه داع واحد إلى الشيء لا يقال فيه أنه أجمع عليه فكأنه مأخوذ من اجتماع الدواعي ويدل الألف واللام على أنه كان بئرا معروفة معهودة عندهم تجيئها السيارة وقيل أنهم طلبوا بئرا قليلة الماء تغيبه ولا تغرقه فجعلوه فيها وقيل بل جعلوه في جانب منها وقيل أن يعقوب أرسله معهم فأخرجوه مكرما فلما وصلوا إلى الصحراء أظهروا له العداوة وجعلوا يضربونه وهو يستغيث بواحد واحد منهم فلا يغيثه وكان يقول يا أبتاه فهموا بقتله فمنعهم يهوذا منه وقيل منعهم لاوي رواه بعض أصحابنا عنهم (عليهم السلام) فانطلقوا به إلى الجب فجعلوا يدلونه في البئر وهو يتعلق بشفير البئر ثم نزعوا قميصه عنه وهو يقول لا تفعلوا ردوا علي القميص أتوارى به فيقولون ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا يؤنسنك فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم آوى إلى صخرة فقام عليها وكان يهوذا يأتيه بالطعام عن السدي وقيل إن الجب أضاء له وعذب ماؤه حتى أغناه عن الطعام والشراب وقيل كان الماء كدرا فصفا وعذب ووكل الله به ملكا يحرسه ويطعمه عن مقاتل وقيل إن جبرائيل كان يؤنسه وقيل إن الله تعالى أمر بصخرة حتى ارتفعت من أسفل البئر فوقف يوسف عليها وهو عريان وكان إبراهيم الخليل (عليه السلام) حين ألقي في النار جرد من ثيابه وقذف في النار عريانا فأتاه جبرائيل (عليه السلام) بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه وكان ذلك عند إبراهيم (عليه السلام) فلما مات ورثه إسحاق فلما مات إسحاق ورثه يعقوب فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في تعويذ وعلقه في عنقه فكان لا يفارقه فلما ألقي في البئر عريانا جاءه جبرائيل وكان عليه ذلك التعويذ فأخرج منه القميص فألبسه إياه وروى ذلك مفضل بن عمر عن الصادق (عليه السلام) قال وهو القميص الذي وجد يعقوب ريحه ولما فصلت العير من مصر وكان يعقوب بفلسطين فقال إني لأجد ريح يوسف وفي كتاب النبوة عن الحسن بن محبوب عن الحسن بن عمارة عن مسمع أبي سيار عن الصادق (عليه السلام) قال لما ألقى إخوة يوسف يوسف في الجب نزل عليه جبرائيل فقال له يا غلام من طرحك هنا فقال إخوتي لمنزلتي من أبي حسدوني ولذلك في الجب طرحوني فقال أ تحب أن تخرج من هذا الجب قال ذلك إلى إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال له جبرائيل فإن إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب يقول لك قل اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام أن تصلي على محمد وآل محمد وأن تجعل لي في أمري فرجا ومخرجا وترزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب فجعل الله له من الجب يومئذ فرجا ومخرجا ومن كيد المرأة مخرجا وآتاه ملك مصر من حيث لم يحتسب وروي علي بن إبراهيم أن يوسف (عليه السلام) قال في الجب يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ارحم ضعفي وقلة حيلتي وصغري وقوله ﴿وأوحينا إليه﴾ يعني إلى يوسف (عليه السلام) قال الحسن أعطاه الله النبوة وهو في الجب والبشارة بالنجاة والملك ﴿لتنبئنهم بأمرهم هذا﴾ أي لتخبرنهم بقبيح فعلهم بعد هذا الوقت يريد ما ذكره سبحانه في آخر السورة من قوله ﴿هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه﴾ ﴿وهم لا يشعرون﴾ أنك يوسف وكان الوحي إليه كالوحي إلى سائر الأنبياء وقال مجاهد وقتادة أوحى الله إليه ونبأه وهو في الجب وكان فيما أوحي إليه أن اكتم حالك واصبر على ما أصابك فإنك ستخبر إخوتك بما فعلوا بك في وقت لا يعرفونك وقيل يريدوهم لا يشعرون بأنه أوحي إليه وقيل إن معنى قوله ﴿لتنبئنهم﴾ لتجازينهم على فعلهم تقول العرب للرجل يتوعده بمجازاة سوء فعله لأنبئنك ولأعرفنك أي لأجازينك وقيل أراد بذلك أنهم لما دخلوا مصر عرفهم يوسف وهم له منكرون فأخذ الصاع ونقرة فطن فقال إن هذا الجام ليخبرني أنه كان لكم أخ من أبيكم ألقيتموه في الجب وبعتموه بثمن بخس فهذا معنى قوله ﴿لتنبئنهم بأمرهم﴾ هذا عن ابن عباس ثم بين سبحانه حالهم حين رجعوا إلى أبيهم فقال ﴿وجاءوا أباهم﴾ يعني وانقلب إخوة يوسف إلى أبيهم ﴿عشاء﴾ أي ليلا أو في آخر النهار ليلبسوا على أبيهم وليكونوا أجرأ على الاعتذار ﴿يبكون﴾ وإنما أظهروا البكاء ليوهموا أنهم صادقون وفي هذا دلالة على أن البكاء لا يوجب صدق دعوى الباكي في دعواه قال السدي لما سمع بكاءهم فزع فقال ما بالكم ﴿قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق﴾ أي نشتد ونعدو على الإقدام لننظر أينا أعدى وأسبق لصاحبه عن الجبائي والسدي وقيل معناه ننتصل ونترامى فننظر أي السهام أسبق إلى الغرض عن الزجاج وفي قراءة عبد الله نتصل ﴿وتركنا يوسف عند متاعنا﴾ أي تركناه عند الرحل ليحفظه ﴿فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا﴾ أي ما أنت بمصدق لنا ﴿ولو كنا صادقين﴾ جواب لو محذوف أي ولو كنا صادقين ما صدقتنا لاتهامك لنا في أمر يوسف ودل الكلام عليه ولم يصفوه بأنه لا يصدق الصادق لأن المعنى لا يصدقهم لاتهامه لهم وسوء ظنه بهم لما ظهر له من أمارات حسدهم ليوسف وشدة محبته ليوسف ﴿وجاءوا على قميصه بدم كذب﴾ معناه أن إخوة يوسف جاءوا أباهم ومعهم قميص يوسف ملطخا بدم فقالوا له هذا دم يوسف حين أكله الذئب وقيل أنهم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على قميصه عن ابن عباس ومجاهد وقيل ظبيا ولم يمزقوا ثوبه ولم يخطر ببالهم أن الذئب إذا أكل إنسانا فإنه يمزق ثوبه وقيل إن يعقوب قال لهم أروني القميص فأروه إياه فقال لهم لما رأى القميص صحيحا يا بني والله ما عهدت كاليوم ذئبا أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق قميصه عن الحسن وروي أنه ألقى ثوبه على وجهه وقال يا يوسف لقد أكلك ذئب رحيم أكل لحمك ولم يشق قميصك ومعنى قوله ﴿بدم كذب﴾ مكذوب عليه أو فيه كما يقال ماء سكب أي مسكوب وشراب صب أي مصبوب قال الشاعر:

تظل جيادهم نوحا عليهم

مقلدة أعنتها صفونا أراد نائحة عليهم وقيل أنه كان في قميص يوسف ثلاث آيات حين قد من دبر وحين ألقي على وجه أبيه فارتد بصيرا وحين جاءوا عليه بدم كذب فتنبه يعقوب على أن الذئب لو أكله لمزق قميصه عن الشعبي وقيل أنه لما قال لهم يعقوب ذلك قالوا بل قتله اللصوص فقال (عليه السلام) فكيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله ﴿قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا﴾ أي قال يعقوب لهم إذا اتهمهم في يوسف لم يأكله الذئب ولم يقتله اللصوص ولكن زينت لكم أنفسكم أمرا علمتموه عن قتادة وقيل سهل بعضكم لبعض أمرا في يوسف غير الذي فعلتموه حتى سهل عليكم فقتلتموه عن أبي مسلم والجبائي وإنما رد يعقوب عليهم بوحي من الله عز اسمه وقيل كان ذلك حدسا بصائب رأيه وصادق ذهنه ﴿فصبر جميل﴾ أي فصبري صبر جميل لا جزع فيه ولا شكوى إلى الناس وقيل فصبر جميل أحسن وأولى من الجزع الذي لا يغني شيئا وقيل إنما يكون الصبر جميلا إذا قصد به وجه الله تعالى وفعل للوجه الذي وجب فلما كان الصبر في هذا الموضع واقعا على الوجه المحمود صح وصفه بذلك ذكره المرتضى قدس الله روحه وقيل إن البلاء نزل بيعقوب على كبره وبيوسف على صغره بلا ذنب كان منهما فأكب يعقوب على حزنه وانطلق يوسف في رقة وكل ذلك بعين الله يرى ويسمع حتى أتي بالمخرج وكل ذلك امتحان ﴿والله المستعان على ما تصفون﴾ أي بالله أستعين على دفع ما تصفون أو به أستعين على تحمل مرارة الصبر عليه ومكث يوسف في الجب ثلاثة أيام.