الآيات 86-89

وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿86﴾ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴿87﴾ وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ ﴿88﴾ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴿89﴾

القراءة:

قرأ عاصم وحمزة وقيله بالجر والباقون بالنصب وفي الشواذ قراءة الأعرج ومجاهد وقيله بالرفع وقرأ أهل المدينة والشام فسوف تعلمون بالتاء والباقون بالياء.

الحجة:

قال أبو علي وجه الجر في ﴿وقيله﴾ أنه معطوف على قوله ﴿وعنده علم الساعة﴾ وعلم قيله أي يعلم الساعة ومن يصدق بها ويعلم قيله ومعنى يعلم قيله أي يعلم أن الدعاء مندوب إليه نحو قوله ﴿ادعوني أستجب لكم﴾ و﴿ادعوا ربكم تضرعا وخفية﴾ وأما من نصب حمله على موضع وعنده علم الساعة لأن الساعة مفعول بها وليست بظرف فالمصدر مضاف إلى المفعول به ومثل ذلك قوله:

قد كنت داينت بها حسانا

مخافة الإفلاس والليانا

يحسن بيع الأصل والقيانا

فكما أن القيان والليان محمولان على ما أضيف إليه المصدر من المفعول به فكذلك قوله تعالى ﴿وعنده علم الساعة﴾ لما كان معناه يعلم الساعة حملت قيله على ذلك ويجوز أن تحمله على يقول قيله فيدل انتصاب المصدر على فعله وكذلك قول كعب:

يسعى الوشاة جنابيها وقيلهم

إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول

أي ويقولون حقا ووجه ثالث أن يحمل على قوله ﴿يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم﴾ وقيله ومن قرأ وقيله بالرفع احتمل ضربين (أحدهما) أن يجعل الخبر وقيله قيل يا رب فيحذف (والآخر) أن يجعل الخبر وقيله يا رب مسموع ومتقبل فيا رب منصوب الموضع بقيله المذكور وعلى القول الآخر بقيله المضمر وهو من صلته ولا يمتنع ذلك من حيث امتنع أن يحذف بعض الموصول ويبقى بعضه لأن حذف القول قد كثر حتى صار بمنزلة المذكور وقد يحتمل بيت كعب الرفع على هذين الوجهين وقال ابن جني هو معطوف على علم أي وعلم قيله فحذف المضاف فالمصدر الذي هو قيل مضاف إلى الهاء الذي هو مفعول في المعنى والتقدير وعنده علم أن يقال يا رب أن هؤلاء قوم لا يؤمنون ومن قرأ فسوف تعلمون بالتاء فالوجه فيه أنه على تقدير قل لهم فسوف تعلمون ووجه الياء أن يحمل على الغيبة التي هي فاصفح عنهم وقوله ﴿وقل سلام﴾ تقديره وقل أمرنا وأمركم سلام أي متاركة.

المعنى:

ثم ذكر سبحانه أنه لا شفاعة لمعبوديهم فقال ﴿ولا يملك الذين يدعون من دونه﴾ أي الذي يدعوه الكفار إلها ويوجهون عبادتهم إليه من الأصنام وغيرها ﴿الشفاعة﴾ لمن يعبدهم كما توهمه الكفار وهي مسألة الطالب العفو عن غيره وإسقاط العقاب عنه ﴿إلا من شهد بالحق﴾ وهم عيسى بن مريم وعزير والملائكة استثناهم سبحانه ممن عبد من دون الله فإن لهم عند الله منزلة الشفاعة عن قتادة وقيل معناه لا يملك أحد من الملائكة وغيرهم الشفاعة إلا لمن شهد بالحق أي شهد أن لا إله إلا الله وذلك أن النضر بن الحارث ونفرا من قريش قالوا إن كان ما يقوله محمد حقا فنحن نتولى الملائكة وهم أحق بالشفاعة لنا منه فنزلت الآية فالمعنى أنهم يشفعون للمؤمنين بإذن الله ﴿وهم يعلمون﴾ أي يعلمون بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم وفي هذا دلالة على أن حقيقة الإيمان هو الاعتقاد بالقلب والمعرفة لأن الله شرط مع الشهادة العلم وهو ما اقتضى طمأنينة القلب إلى ما اعتقده بحيث لا يتشكك إذا شكك ولا يضطرب إذا حرك ﴿ولئن سألتهم﴾ يا محمد ﴿من خلقهم﴾ أي أخرجهم من العدم إلى الوجود ﴿ليقولن الله﴾ لأنهم يعلمون ضرورة أن أصنامهم لم تخلقهم ﴿فأنى يؤفكون﴾ أي فكيف يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره ﴿وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون﴾ قال قتادة هذا نبيكم يشكو قومه إلى ربه وينكر عليهم تخلفهم عن الإيمان وذكر أن قراءة عبد الله وقال الرسول يا رب أن هؤلاء قوم لا يؤمنون وعلى هذا فالهاء في ﴿وقيله﴾ يعود إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿فاصفح عنهم﴾ أي فأعرض عنهم يا محمد بصفح وجهك كما قال وأعرض عن الجاهلين ﴿وقل سلام﴾ أي مداراة ومتاركة وقيل هو سلام هجران ومجانبة لا سلام تحية وكرامة كقوله ﴿سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين﴾ وقيل معناه قل ما تسلم به من شرهم وأذاهم وهذا منسوخ بآية السيف عن قتادة وقيل معناه فاصفح عن سفههم ولا تقابلهم بمثله.

ندبه سبحانه إلى الحلم فلا يكون منسوخا عن الحسن ثم هددهم سبحانه بقوله ﴿فسوف يعلمون﴾ يعني يوم القيامة إذا عاينوا ما يحل بهم من العذاب.