الآيات 76-85

وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ﴿76﴾ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ ﴿77﴾ لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴿78﴾ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ﴿79﴾ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴿80﴾ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ﴿81﴾ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿82﴾ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ﴿83﴾ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ يمُ ﴿84﴾ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿85﴾

القراءة:

قرأ ابن كثير وأهل الكوفة غير عاصم إلا يحيى وروح عن يعقوب وإليه يرجعون بالياء والباقون بالتاء وفي الشواذ قراءة ابن مسعود ويحيى والأعمش يا مال وروي ذلك عن علي (عليه السلام) وقراءة أبي عبد الرحمن اليماني فأنا أول العبدين بغير ألف والقراءة المشهورة ﴿العابدين﴾.

الحجة:

قال أبو علي حجة الياء في يرجعون أن قبله غيبة وهو قوله ﴿فذرهم يخوضوا ويلعبوا﴾ وحجة التاء أن يراد به مع الغيبة مخاطبون فغلب الخطاب على الغيبة أو يكون على قل لهم وإليه ترجعون وقوله يا مال على المذهب المألوف في الترخيم قال الشاعر:

فأبلغ مالكا عني رسولا

وما يغني الرسول لديك مال

أي يا مالك قال ابن جني وفي هذا الموضع سر وهو أنهم لعظم ما هم فيه خفيت قواهم وصغر كلامهم فكان هذا في موضع الاختصار وقوله ﴿أنا أول العابدين﴾ من قولهم عبدت من الأمر أعبد عبدا أي أنفت منه قال الفرزدق:

أولئك قومي إن هجوني هجوتهم

وأعبد أن تهجى كليب بدارم

ولكن نصفا إن سببت وسبني

بنو عبد شمس من قريش وهاشم

الإعراب:

قوله ﴿وهو الذي في السماء إله﴾ ارتفع إله بكونه خبر مبتدأ محذوف من الصلة وتقديره وهو الذي هو في السماء إله وفي السماء يتعلق بقوله ﴿إله﴾ وموضعه نصب به وإن كان مقدما عليه ﴿وعنده علم الساعة﴾ أي علم وقوع الساعة فالمصدر مضاف إلى المفعول أي يعلم وقوع الساعة.

المعنى:

لما بين سبحانه ما يفعله بالمجرمين بين أنه لم يظلمهم بذلك فقال ﴿وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين﴾ نفوسهم بما جنوا عليها من العذاب ﴿ونادوا يا مالك﴾ أي ويدعون خازن جهنم فيقولون يا مالك ﴿ليقض علينا ربك﴾ أي ليمتنا ربك حتى نتخلص ونستريح من هذا العذاب ﴿قال﴾ أي فيقول مالك مجيبا لهم ﴿إنكم ماكثون﴾ أي لابثون دائمون في العذاب قال ابن عباس والسدي إنما يجيبهم مالك بذلك بعد ألف سنة وقال عبد الله بن عمر بعد أربعين عاما ﴿لقد جئناكم﴾ أي يقول الله تعالى لقد أرسلنا إليكم الرسل ﴿بالحق﴾ أي جاءكم رسلنا بالحق وأضافه إلى نفسه لأنه كان بأمره وقيل هو من قول مالك وإنما قال ﴿لقد جئناكم﴾ لأنه من الملائكة وهم من جنس الرسل عن الجبائي ﴿ولكن أكثركم﴾ معاشر الخلق ﴿للحق كارهون﴾ لأنكم ألفتم الباطل فكرهتم مفارقته ﴿أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون﴾ أي بل أحكموا أمرا في كيد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والمكر به ﴿فإنا مبرمون﴾ أي محكمون أمرا في مجازاتهم ﴿أم يحسبون﴾ أي بل أ يظن هؤلاء الكفار ﴿أنا لا نسمع سرهم ونجواهم﴾ أي ما يسرونه من غيرهم ويتناجون به بينهم والسر ما يضمره الإنسان في نفسه ولا يظهره لغيره والنجوى ما يحدث به المحدث غيره في الخفية ﴿بلى﴾ نسمع ذلك وندركه ﴿ورسلنا لديهم يكتبون﴾ ما يقولونه ويفعلونه يعني الحفظة وسبب نزول الآية مذكور في تفسير أهل البيت (عليهم السلام) ﴿قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين﴾ اختلف في معناه على أقوال (أحدها) أن معناه إن كان للرحمن ولد في قولكم وعلى زعمكم فأنا أول العابدين أي أول من عبد الله وحده فقد دفع أن يكون له ولد والمعنى فأنا أول الموحدين لله المنكرين لقولكم عن مجاهد (وثانيها) أن إن بمعنى ما النفي والمعنى ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين لله المقرين بذلك عن ابن عباس وقتادة وابن زيد (وثالثها) إن معناه لو كان له ولد لكنت أنا أول الأنفين من عبادته لأن من كان له ولد لا يكون إلا جسما محدثا ومن كان كذلك لا يستحق العبادة لأنه لا يقدر على النعم التي يستحق بها العبادة عن الجبائي وغيره (ورابعها) أنه يقول كما أني لست أول من عبد الله فكذلك ليس لله ولد وهذا كما تقول إن كنت كاتبا فأنا حاسب تريد لست كاتبا ولا أنا حاسب عن سفيان بن عيينة (وخامسها) أن معناه لو كان له ولد لكنت أول من يعبده بأن له ولدا ولكن لا ولد له عن السدي وأبي مسلم وهذا كما يقال لو دعت الحكمة إلى عبادة غيره لعبدته لكن الحكمة لا تدعو إلى عبادة غيره ولو دل الدليل على أن له ولدا لقلت به ولكنه لا يدل فهذا تحقيق لنفي الولد وتبعيد له لأنه تعليق محال بمحال ثم نزه سبحانه نفسه عن ذلك فقال ﴿سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون﴾ أي تنزيها لمالك السماوات والأرض وخالقهن وخالق العرش ومدبره عما يصفونه به من اتخاذ الولد لأن من قدر على ذلك استغنى عن اتخاذ الولد ثم خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) على وجه التهديد للكفار فقال ﴿فذرهم يخوضوا﴾ في باطلهم ﴿ويلعبوا﴾ في دنياهم ﴿حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون﴾ فيه بعذاب الأبد وهو يوم القيامة ﴿وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله﴾ أي هو الذي تحق له العبادة في السماء وتحق له العبادة في الأرض وإنما كرر لفظ إله لأمرين (أحدهما) التأكيد ليتمكن المعنى في النفس (والثاني) لأن المعنى هو إله في السماء يجب على الملائكة عبادته وإله في الأرض يجب على الإنس والجن عبادته ﴿وهو الحكيم﴾ في جميع أفعاله ﴿العليم﴾ بمصالح عباده ﴿وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما﴾ أي دامت بركته فمنه البركات وإيصال السعادات وجل عن أن يكون له ولد أو شبيه من له التصرف في السماوات والأرض وفيما بينهما بلا دافع ولا منازع ﴿وعنده علم الساعة﴾ أي علم يوم القيامة لأنه لا يعلم وقته على التعيين غيره ﴿وإليه ترجعون﴾ يوم القيامة فيجازي كلا على قدر عمله.