الآيات 55-60
فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿55﴾ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ ﴿56﴾ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ﴿57﴾ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴿58﴾ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿59﴾ وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ﴿60﴾
القراءة:
قرأ حمزة والكسائي سلفا بضم السين واللام وقرأ الباقون بفتحهما وقرأ أهل المدينة وابن عامر والأعشى والبرجمي والكسائي وخلف يصدون بضم الصاد والباقون بكسر الصاد.
الحجة:
من قرأ سلفا جاز أن يكون جمعا لسلف مثل أسد وأسد ووثن ووثن ومن قرأ ﴿سلفا﴾ فلأن فعلا قد جاء في حروف يراد بها الكثرة فكأنه اسم من أسماء الجمع قالوا خادم وخدم وطالب وطلب وحارس وحرس وكذلك المثل واحد يراد به الجمع ولذلك عطف على سلف في قوله ﴿فجعلناهم سلفا ومثلا﴾ ومعنى يصدون و﴿يصدون﴾ جميعا يضجون عن أبي عبيدة قال والكسر أجود ويقال صد عن كذا فيوصل بعن كما قال الشاعر:
صددت الكأس عنا أم عمرو
وكان الكأس مجراها اليمينا
وصدوا عن سبيل الله فمن ذهب في يصدون إلى معنى يعدلون كان المعنى إذا قومك منه أي من أجل المثل يصدون ولم يوصل يصدون بعن ومن قال يصدون يضجون جعل من متصلة بيضج كما تقول يضج من كذا وقال بعض المفسرين معنى يصدون يضجون والمعنى أنه لما نزل إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم الآية لأنها اتخذت آلهة وعبدت فعيسى في حكمهم قال ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك في هذا الذي قالوه منه يضحكون لما أتوا به من عندهم من تسويتهم بين عيسى وبين آلهتهم وما ضربوه إلا إرادة للمجادلة لأنهم قد علموا أن المراد بحصب جهنم ما اتخذوا من الموات.
اللغة:
يقال آسفه فأسف يأسف أسفا أي أغضبه فغضب وأحزنه فحزن ويقال الأسف الغيظ من المغتم إلا أنه هاهنا بمعنى الغضب والسلف المتقدم على غيره قبل مجيء وقته ومنه السلف في البيع والسلف نقيض الخلف والجدل مقابل الحجة بالحجة وقيل الجدل اللدد في الخصام وأصله من جدل الحبل وهو شدة فتله ورجل مجدول الخلق أي شديدة وقيل أصله من الجدالة وهي الأرض كان كل واحد من الخصمين يروم إلقاء صاحبه على الجدالة.
المعنى:
ثم أخبر سبحانه عن انتقامه من فرعون وقومه فقال ﴿فلما آسفونا﴾ أي أغضبونا عن ابن عباس ومجاهد وغضب الله سبحانه على العصاة إرادة عقوبتهم ورضاه عن المطيعين إرادة ثوابهم الذي يستحقونه على طاعتهم وقيل معناه آسفوا رسلنا لأن الأسف بمعنى الحزن لا يجوز على الله سبحانه ﴿انتقمنا منهم﴾ أي انتقمنا لأوليائنا منهم ﴿فأغرقناهم أجمعين﴾ ما نجا منهم أحد ﴿فجعلناهم سلفا﴾ أي متقدمين إلى النار ﴿ومثلا﴾ أي عبرة وموعظة ﴿للآخرين﴾ أي لمن جاء بعدهم يتعظون بهم والمعنى أن حال غيرهم يشبه حالهم إذا أقاموا على العصيان ﴿ولما ضرب ابن مريم مثلا﴾ اختلف في المراد به على وجوه (أحدها) أن معناه ولما وصف ابن مريم شبها في العذاب بالآلهة أي فيما قالوه على زعمهم وذلك أنه لما نزل قوله ﴿إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم﴾ قال المشركون قد رضينا بأن تكون آلهتنا حيث يكون عيسى وذلك قوله ﴿إذا قومك منه يصدون﴾ أي يضجون ضجيج المجادلة حيث خاصموك وهو قوله ﴿وقالوا أآلهتنا خير أم هو﴾ أي ليست آلهتنا خيرا من عيسى فإن كان عيسى في النار بأنه يعبد من دون الله فكذلك آلهتنا عن ابن عباس ومقاتل (وثانيها) أن معناه لما ضرب الله المسيح مثلا بآدم في قوله ﴿إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب﴾ أي من قدر على أن ينشىء آدم من غير أب وأم قادر على إنشاء المسيح من غير أب اعترض على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك قوم من كفار قريش فنزلت هذه الآية (وثالثها) أن معناه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما مدح المسيح وأمه وأنه كآدم في الخاصية قالوا إن محمدا يريد أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى عن قتادة (ورابعها) ما رواه سادة أهل البيت عن علي عليهم أفضل الصلوات أنه قال جئت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما فوجدته في ملأ من قريش فنظر إلي ثم قال يا علي إنما مثلك في هذه الأمة كمثل عيسى بن مريم أحبه قوم فأفرطوا في حبه فهلكوا وأبغضه قوم فأفرطوا في بغضه فهلكوا واقتصد فيه قوم فنجوا فعظم ذلك عليهم فضحكوا وقالوا يشبهه بالأنبياء والرسل فنزلت الآية ﴿وقالوا أآلهتنا خير أم هو﴾ أي آلهتنا أفضل أم المسيح فإذا كان المسيح في النار رضينا أن تكون آلهتنا معه عن السدي وابن زيد وقيل معناه أن آلهتنا خير من المسيح فإذا عبد المسيح جاز أن تعبد آلهتنا عن الجبائي وقيل هو كناية عن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والمعنى آلهتنا خير من محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يأمرنا بأن نعبده كما عبد النصارى المسيح ونطيعه ونترك آلهتنا عن قتادة وقال علي بن عيسى معنى سؤالهم بقولهم ﴿أآلهتنا خير أم هو﴾ أنهم ألزموا ما لا يلزم على ظن منهم وتوهم كأنهم قالوا ومثلنا فيما نعبد مثل ما يعبد المسيح فأيما خير عبادة آلهتنا أم عبادة المسيح على أنه إن قال عبادة المسيح أقر بعبادة غير الله وكذلك أن قال عبادة الأوثان وإن قال ليس في عبادة المسيح خير قصر به عن المنزلة التي أبين لأجلها من سائر العباد وجوابهم عن ذلك أن اختصاص المسيح بضرب من التشريف والإنعام عليه لا يوجب العبادة له كما لا يوجب أن ينعم عليه بأعلى مراتب النعمة ﴿ما ضربوه لك إلا جدلا﴾ أي ما ضربوا هذا المثل لك إلا ليجادلوك به ويخاصموك ويدفعوك به عن الحق لأن المتجادلين لا بد أن يكون أحدهما مبطلا بخلاف المتناظرين لأن المناظرة قد تكون بين المحقين ﴿بل هم قوم خصمون﴾ أي جدلون في دفع الحق بالباطل ثم وصف سبحانه المسيح فقال ﴿إن هو إلا عبد أنعمنا عليه﴾ أي ما هو إلا عبد أنعمنا عليه بالخلق من غير أب وبالنبوة ﴿وجعلناه مثلا لبني إسرائيل﴾ أي آية لهم ودلالة يعرفون بها قدرة الله تعالى على ما يريد حيث خلقه من غير أب فهو مثل لهم يشبهون به ما يرون من أعاجيب صنع الله ثم قال سبحانه دالا على كمال قدرته وعلى أنه لا يفعل إلا الأصلح ﴿ولو نشاء لجعلنا منكم﴾ أي بدلا منكم معاشر بني آدم ﴿ملائكة في الأرض يخلفون﴾ بني آدم أي يكونون خلفاء منهم والمعنى لو نشاء أهلكناكم وجعلنا الملائكة بدلكم سكان الأرض يعمرونها ويعبدون الله ومثل قوله ﴿منكم﴾ في الآية ما في قول الشاعر:
فليت لنا من ماء زمزم شربة
مبردة باتت على الطهيان
وقيل معناه ولو نشاء لجعلناكم أيها البشر ملائكة فيكون من باب التجريد وفيه إشارة إلى قدرته على تغيير بنية البشر إلى بنية الملائكة ﴿يخلفون﴾ أي يخلف بعضهم بعضا.