الآيات 4-6

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴿4﴾ قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴿5﴾ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿6﴾

القراءة:

قرأ أبو جعفر وابن عامر يا أبت بفتح التاء والباقون بكسرها وابن كثير وقف على الهاء يا أبه والباقون بالتاء وروي في الشواذ عن أبي جعفر ونافع وطلحة بن سليمان أحد عشر بسكون العين والقراءة بفتحها وقرأ الكسائي إلا أبا الحرث وقتيبة بإمالة رؤياك والرؤيا في جميع القرآن وروى أبو الحرث عنه فتح ﴿رؤياك﴾ وإمالة الباقي وقتيبة أمال للرؤيا تعبرون فقط وقرأ خلف في اختياره بإمالة ما فيه ألف ولام والباقون بالتفخيم وخفف الهمزة في جميع ذلك أبو جعفر وورش وشجاع والترمذي إلا أن أبا جعفر يدغم الواو في الياء فيجعلها ياء مشددة.

الحجة:

قال الزجاج من قرأ ﴿يا أبت﴾ بكسر التاء فعلى الإضافة إلى نفسه وحذف الياء لأن ياء الإضافة تحذف في النداء وأما إدخال تاء التأنيث في الأب فإنما دخلت في النداء خاصة والمذكر قد يسمى باسم فيه علامة التأنيث ويوصف بما فيه تاء التأنيث فالاسم نحو نفس وعين والصفة نحو غلام يفعة ورجل ربعة فلزمت التاء في الأب عوضا من ياء الإضافة والوقف عليها يا أبه بالهاء وإن كانت في المصحف بالتاء وزعم الفراء أنك إذا كسرت وقفت بالتاء لا غير وإذا فتحت وقفت بالتاء والهاء ولا فرق بين الكسر والفتح وأما يا أبت بالفتح فعلى أنه أبدل من ياء الإضافة ألفا ثم حذفت الألف كما يحذف ياء الإضافة وبقيت الفتحة قال أبو علي من فتح فله وجهان (أحدهما) أن يكون مثل يا طلحة أقبل ووجه قول من قال يا طلحة إن هذا النحو من الأسماء التي فيها تاء التأنيث أكثر ما يدعى مرخما فلما كان كذلك رد التاء المحذوفة في الترخيم إليه وترك الآخر يجري على ما كان يجري عليه في الترخيم من الفتح فلم يعتد بالهاء وأقحمها والوجه الآخر أن يكون أراد يا أبتا فحذف الألف كما يحذف التاء فتبقى الفتحة دالة على الألف كما أن الكسرة تبقى دالة على الياء والدليل على قوة هذا الوجه كثرة ما جاءت هذه الكلمة على هذا الوجه كقول الشاعر:

وهل جزع أن قلت وا بتاهما وقول الأعشى:

ويا أبتا لا تزل عندنا

فإنا نخاف بأن تخترم وقول رؤبة:

يا أبتا عليك أو عساكا فلما كثرت هذه الكلمة في كلامهم ألزموها القلب والحذف على أن أبا عثمان قد رأى ذلك مطردا في جميع هذا الباب وأما وقف ابن كثير على الهاء فلأن التاء التي للتأنيث يبدل منها الهاء في الوقف فيغير الحرف بذلك في الوقف كما غير التنوين إذا انفتح ما قبله بأن أبدل منه الألف ومن قرأ أحد عشر بسكون العين قال ابن جني سبب ذلك عندي أن الاسمين لما جعلا كالاسم الواحد وبني الأول منهما لأنه كصدر الاسم من عجزه جعل تسكين أول الثاني دليلا على أنهما قد صارا كالاسم الواحد وكذلك بقية العدد إلى تسعة عشر إلا اثني عشر واثنتي عشر فإنه لا يسكن العين لسكون الألف والياء قبلها قال الزجاج الرؤيا فيها أربع لغات رؤيا بالهمزة ورويا بالواو من غير همز وريا على الإدغام وريا بكسر الراء قال أبو علي الرؤيا مصدر كالبشري والسقيا والبقيا والشورى إلا أنه لما صار اسما لهذا التخيل في المنام جرى مجرى الأسماء كما أن درا لما كثر في كلامهم في قولهم لله درك جرى مجرى الأسماء وخرج من حكم الأعمال فلا يعمل واحد منهما أعمال المصادر ومما يقوي خروجه عن أحكام المصادر تكسيرهم لها رؤي فصار بمنزلة ظلم والمصادر في الأكثر لا تكسر والرؤيا على تحقيق الهمز فإن خففت قلبتها في اللفظ واوا ولم تدغم الواو في الياء وإن كانت قد تقدمتها ساكنة كما تقلب في نحو طيء ولي لأن الواو في تقدير الهمزة فهي لذلك غير لازمة ، فلا يقع الاعتداد بها وقد كسرا ولها قوم فقالوا ريا فهؤلاء قلبوا الواو قلبا على غير وجه التخفيف ومن ثم كسروا الفاء كما كسروا من قولهم قرن ألوى وقرون لي.

اللغة:

الرؤيا تصور المعنى في المنام على توهم الإبصار وذلك أن العقل مغمور بالنوم فإذا تصور الإنسان المعنى توهم أنه يراه والكيد طلب الحيلة واللام في ﴿يكيدوا لك﴾ لام التعدية كما تقول قدمت لك طعاما وقدمت إليك طعاما وشكرت لك وشكرتك يقال كاده يكيده كيدا وكاد له والاجتباء اختيار معالي الأمور للمجتبى وأصله من جبيت الماء في الحوض إذا جمعته.

الإعراب:

تقدير العامل في إذ يجوز أن يكون اذكر كأنه قال اذكر إذ قال يوسف قال الزجاج ويجوز أن يكون على نقص عليك إذ قال وقد غلط في هذا لأن الله تعالى لم يقص على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) هذا القصص في وقت قول يوسف (عليه السلام) وكوكبا منصوب على التمييز وقوله ﴿رأيتهم﴾ كرر الرؤية توكيدا ولأن الكلام قد طال والمعنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر لي ساجدين ولم يقل ساجدات لأنه لما وصف هذه الأشياء بالسجود كما يوصف الآدميون بذلك أجرى فعلها مجرى فعل العقلاء وكما قال ﴿يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم﴾ وموضع الكاف من قوله ﴿وكذلك﴾ نصب والمعنى ومثل ما رأيت يجتبيك ربك ويعلمك.

المعنى:

ثم ابتدأ سبحانه بقصة يوسف (عليه السلام) فقال ﴿إذ قال يوسف لأبيه﴾ يعقوب (عليهم السلام) وهو إسرائيل الله ومعناه عبد الله الخالص ابن إسحاق نبي الله بن إبراهيم خليل الله وفي الحديث أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ﴿يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين﴾ أي رأيت في منامي قال ابن عباس إن يوسف (عليه السلام) رأى في المنام ليلة الجمعة ليلة القدر أحد عشر كوكبا نزلن من السماء فسجدن له ورأى الشمس والقمر نزلا من السماء فسجدا له قال فالشمس والقمر أبواه والكواكب إخوته الأحد عشر وقال السدي الشمس أبوه والقمر خالته وذلك أن أمه راحيل قد ماتت وقال ابن عباس الشمس أمه والقمر أبوه وقال وهب كان يوسف رأى وهو ابن سبع سنين أن أحد عشر عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة وإذا عصا صغيرة تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها فوصف ذلك لأبيه فقال له إياك أن تذكر هذا لإخوتك ثم رأى وهو ابن اثنتي عشرة سنة أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر سجدت لها فقصها على أبيه فقال له ﴿لا تقصص رؤياك على إخوتك﴾ الآية وقيل أنه كان بين رؤياه وبين مصير أبيه وإخوته إلى مصر أربعون سنة عن ابن عباس وأكثر المفسرين وقيل ثمانون سنة عن الحسن ولما طال الكلام كرر رؤيتهم وأعاده للتأكيد وقيل أراد بالرؤيا الأولى رؤية الأعيان والأشخاص وبالرؤية الثانية رؤية سجودهم واختلف في معنى هذا السجود فقيل إنه السجود المعروف على الحقيقة لتكرمته لا لعبادته وقيل معناه الخضوع له عن الجبائي كما قال الشاعر:

ترى الأكم فيه سجدا للحوافر

وهذا ترك الظاهر ويقال إن إخوته لما بلغهم رؤياه قالوا ما رضي أن يسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه ﴿قال﴾ يعقوب ﴿يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك﴾ أي لا تخبرهم بذلك ﴿فيكيدوا لك كيدا﴾ أي فيحسدوك أو يقابلوك بما فيه هلاكك وذلك أن رؤيا الأنبياء وحي وعلم يعقوب أن إخوة يوسف يعرفون تأويلها ويخافون علو يوسف عليهم فيحسدونه ويبغونه الغوائل ﴿إن الشيطان للإنسان عدو مبين﴾ أي ظاهر العداوة فيلقي بينهم العداوة ويحملهم على إنزال المكروه بك ﴿وكذلك﴾ أي كما أراك هذه الرؤيا تكرمة لك وبين أن إخوتك يخضعون لك أو يسجدون لك ﴿يجتبيك ربك﴾ أي يصطفيك ربك ويختارك للنبوة عن الحسن وقيل الحسن الخلق والخلق ﴿ويعلمك من تأويل الأحاديث﴾ قيل معناه ويعلمك من تعبير الرؤيا لأن فيه أحاديث الناس عن رؤياهم وسماه تأويلا لأنه يؤول أمره إلى ما رأى في المنام عن قتادة وقال ابن زيد كان أعبر الناس للرؤيا وقيل معناه ويعلمك عواقب الأمور بالنبوة والوحي إليك فتعلم الأشياء قبل كونها معجزة لك لأنه أضاف التعليم إلى الله وذلك لا يكون إلا بالوحي عن أبي مسلم وقيل تأويل أحاديث الأنبياء والأمم يعني كتب الله ودلائله على توحيده والمشروع من شرائعه وأمور دينه عن الحسن والجبائي والتأويل في الأصل هو المنتهى الذي يؤول إليه المعنى وتأويل الحديث فقهه الذي هو حكمه لأنه إظهار ما يؤول إليه أمره مما يعتمد عليه وفائدته ﴿ويتم نعمته عليك﴾ بالنبوة لأنها منتهى نعيم الدنيا وقيل إتمام النعمة هو أن يحكم بدوامها على تخليصها من شائب بها فهذه النعمة التامة وخلوصها مما ينقصها ولا يطلب ذلك إلا من الله تعالى لأنه لا يقدر عليها سواه وقيل معناه ويتم نعمته عليك بأن يحوج إخوتك إليك حتى تنعم عليهم بعد إساءتهم إليك ﴿وعلى آل يعقوب﴾ أي وعلى إخوتك بأن يثبتهم على الإسلام ويشرفهم بمكانك ويجعل فيهم النبوة وقيل يتم نعمته عليهم بإنقاذهم من المحن على يديك ﴿كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق﴾ أي كما أتم النعمة على إبراهيم بالخلة والنبوة والنجاة من النار وعلى إسحاق بأن فداه عن الذبح بذبح عظيم عن عكرمة وقال إنه الذبيح وقيل بإخراج يعقوب وأولاده من صلبه عن أكثر المفسرين قالوا وليس هو الذبيح وإنما الذبيح إسماعيل ﴿إن ربك عليم﴾ بمن يصلح للرسالة ﴿حكيم﴾ في اختيار الرسل وقيل عليم بأحوال خلقه حكيم في قضاياه.