الآيات 51-60

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ﴿51﴾ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴿52﴾ إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴿53﴾ فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿54﴾ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ﴿55﴾ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ ﴿56﴾ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ ﴿57﴾ سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ﴿58﴾ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ﴿59﴾ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴿60﴾

القراءة:

قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وروح في شغل ساكنة الغين والباقون ﴿في شغل﴾ بضم الغين وقرأ أبو جعفر فكهون بغير ألف حيث وقع ووافقه حفص في المطففين انقلبوا فكهين وقرأ الآخرون بالألف كل القرآن وقرأ أهل الكوفة غير عاصم في ظلل بضم الظاء بلا ألف والباقون ﴿في ظلال﴾ وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قرأ من بعثنا من مرقدنا وفي الشواذ قراءة ابن أبي ليلى يا ويلتا وقرأ أبي بن كعب من هبنا من مرقدنا.

الحجة:

الشغل والشغل لغتان وكذلك الفكه والفاكه والظلل جمع ظلة والظلال يجوز أيضا أن يكون جمع ظلة فيكون كبرمة وبرام وعلبة وعلاب ويجوز أن يكون جمع ظل وأما قوله ﴿من بعثنا﴾ فهو كقولك يا ويلي من أخذك مني قال ابن جني من الأولى متعلقة بالويل كقولك يا تألمي منك وإن شئت كان حالا فتعلقت بمحذوف حتى كأنه قال يا ويلنا كائنا من بعثنا فجاز أن يكون حالا منه كما جاز أن يكون خبرا عنه في مثل قول الأعشى:

قالت هريرة لما جئت زائرها

ويلي عليك وويلي منك يا رجل

وذلك أن الحال ضرب من الخبر وأما من في قوله ﴿من مرقدنا﴾ فمتعلقة بنفس البعث ومن قرأ يا ويلتا فأصله يا ويلتي فأبدلت الياء ألفا لأنه نداء فهو موضع تخفيف فتارة تحذف هذه الياء نحو غلام وتارة بالبدل نحو يا غلاما قال:

يا أبتا علك أو عساكا فإن قلت كيف قال يا ويلتا وهذا اللفظ للواحد وهم جماعة فالقول إنه يكون على أن كل واحد منهم قال يا ويلتا من بعثنا من مرقدنا ونحوه قوله فاجلدوهم ثمانين جلدة أي فاجلدوا كل واحد منهم ومثله ما حكاه أبو زيد من قولهم أتينا الأمير فكسانا كلنا حلة وأعطانا كلنا مائة أي كسا كل واحد منا حلة وأعطى كل واحد منا مائة وأما هبنا فيمكن أن يكون هب لغة في أهب ويمكن أن يكون على معنى هب بنا أي أيقظنا ثم حذف حرف الجرب فوصل الفعل.

اللغة:

قال أبو عبيدة الصور جمع صورة مثل بسرة وبسر وهو مشتق من صاره يصوره صورا إذا أماله فالصورة تميل إلى مثلها بالمشاهدة والجدث القبر وجمعه الأجداث وهذه لغة أهل العالية ويقول أهل السافلة بالفاء جدف والنسول الإسراع في الخروج يقال نسل ينسل وينسل قال امرؤ القيس:

وإن تك قد ساءتك مني خليقة

فسلي ثيابي من ثيابك تنسل

وقال آخر:

عسلان الذئب أمسى قاربا

برد الليل عليه فنسل

الإعراب:

﴿هذا ما وعد الرحمن﴾ مبتدأ وخبر ويكون ﴿من بعثنا من مرقدنا﴾ كلاما تاما يوقف عليه ويجوز أن يكون هذا من نعت مرقدنا أي مرقدنا الذي كنا راقدين فيه فيكون الوقف على مرقدنا هذا ويكون ﴿ما وعد الرحمن﴾ خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ محذوف الخبر على تقدير هذا ما وعد الرحمن أو حق ما وعد الرحمن سلام بدل من ما والمعنى لهم ما يتمنون لهم سلام وقولا منصوب على أنه مصدر فعل محذوف أي يقوله الله قولا.

المعنى:

ثم أخبر سبحانه عن النفخة الثانية وما يلقونه فيها إذا بعثوا بعد الموت فقال ﴿ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث﴾ وهي القبور ﴿إلى ربهم﴾ أي إلى الموضع الذي يحكم الله فيه لا حكم لغيره هناك ﴿ينسلون﴾ أي يخرجون سراعا فلما رأوا أهوال القيامة ﴿قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا﴾ أي من حشرنا من منامنا الذي كنا فيه نياما ثم يقولون ﴿هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون﴾ فيما أخبرونا عن هذا المقام وهذا البعث قال قتادة أول الآية للكافرين وآخرها للمسلمين قال الكافرون ﴿يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا﴾ وقال المسلمون ﴿هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون﴾ وإنما وصفوا القبر بالمرقد لأنهم لما أحيوا كانوا كالمنتبهين عن الرقدة وقيل إنهم لما عاينوا أحوالهم في القيامة عدوا أحوالهم في قبورهم بالإضافة إلى تلك الأهوال رقادا قال قتادة هي النومة بين النفختين لا يفتر عذاب القبر إلا فيما بينهما فيرقدون ثم أخبر سبحانه عن سرعة بعثهم فقال ﴿إن كانت إلا صيحة واحدة﴾ أي لم تكن المدة إلا مدة صيحة واحدة ﴿فإذا هم جميع لدينا محضرون﴾ أي فإذا الأولون والآخرون مجموعون في عرصات القيامة محصلون في موقف الحساب ثم حكى سبحانه ما يقوله يومئذ للخلائق فقال ﴿فاليوم لا تظلم نفس شيئا﴾ أي لا ينقص من له حق شيئا من حقه من الثواب أو العوض أو غير ذلك ولا يفعل به ما لا يستحقه من العقاب بل الأمور جارية على مقتضى العدل وذلك قوله ﴿ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون﴾ ثم ذكر سبحانه أولياءه فقال ﴿إن أصحاب الجنة اليوم في شغل﴾ شغلهم النعيم الذي شملهم وغمرهم بسروره عما فيه أهل النار من العذاب عن الحسن والكلبي فلا يذكرونهم ولا يهتمون بهم وإن كانوا أقاربهم وقيل شغلوا بافتضاض العذارى عن ابن عباس وابن مسعود وهو المروي عن الصادق (عليه السلام) قال وحواجبهن كالأهلة وأشفار أعينهن كقوادم النسور وقيل باستماع الألحان عن وكيع وقيل شغلهم في الجنة سبعة أنواع من الثواب لسبعة أعضاء فثواب الرجل بقوله ادخلوها بسلام آمنين وثواب اليد يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها وثواب الفرج وحور عين وثواب البطن كلوا واشربوا هنيئا الآية وثواب اللسان وآخر دعويهم الآية وثواب الأذن لا يسمعون فيها لغوا ونظائرها وثواب العين وتلذ الأعين ﴿فاكهون﴾ أي فرحون عن ابن عباس وقيل ناعمون متعجبون بما هم فيه قال أبو زيد الفكه الطيب النفس الضحوك رجل فكه وفاكه ولم يسمع لهذا فعل في الثلاثي وقال أبو مسلم أنه مأخوذ عن الفكاهة فهو كناية عن الأحاديث الطيبة وقيل فاكهون ذوو فاكهة كما يقال لاحم شاحم أي ذو لحم وشحم وعاسل ذو عسل قال الحطيئة:

وغررتني وزعمت أنك

لابن في الصيف تأمر

أي ذو لبن وتمر ثم أخبر سبحانه عن حالهم فقال ﴿هم وأزواجهم﴾ أي هم وحلائلهم في الدنيا ممن وافقهم على إيمانهم في أستار عن وهج الشمس وسمومها فهم في مثل تلك الحال الطيبة من الظلال التي لا حر فيها ولا برد وقيل أزواجهم اللاتي زوجهم الله من الحور العين ﴿في ظلال﴾ أشجار الجنة وقيل في ظلال تسترهم من نظر العيون إليهم ﴿على الأرائك﴾ وهي السرر عليها الحجال وقيل هي الوسائد ﴿متكئون﴾ أي جالسون جلوس الملوك إذ ليس عليهم من الأعمال شيء قال الأزهري كلما اتكىء عليه فهو أريكة والجمع أرائك ﴿لهم فيها﴾ أي في الجنة ﴿فاكهة ولهم ما يدعون﴾ أي ما يتمنون ويشتهون قال أبو عبيدة تقول العرب ادع لي ما شئت أي تمن علي وقيل معناه إن كل من يدعي شيئا فهو له بحكم الله تعالى لأنه قد هذب طباعهم فلا يدعون إلا ما يحسن منهم قال الزجاج هو مأخوذ من الدعاء يعني أن أهل الجنة كلما يدعونه يأتيهم ثم بين سبحانه ما يشتهون فقال ﴿سلام﴾ أي لهم سلام ومنى أهل الجنة أن يسلم الله عليهم ﴿قولا﴾ أي يقوله الله قولا ﴿من رب رحيم﴾ بهم يسمعونه من الله فيؤذنهم بدوام الأمن والسلامة مع سبوغ النعمة والكرامة وقيل إن الملائكة يدخل عليهم من كل باب يقولون سلام عليكم من ربكم الرحيم ثم ذكر سبحانه أهل النار فقال ﴿وامتازوا اليوم أيها المجرمون﴾ أي يقال لهم انفصلوا معاشر العصاة واعتزلوا من جملة المؤمنين وقيل معناه كونوا على حدة عن السدي وقيل معناه إن لكل كافر بيتا في النار يدخل فيردم بابه لا يرى ولا يرى عن الضحاك ثم خصهم سبحانه بالتوبيخ فقال ﴿ألم أعهد إليكم يا بني آدم﴾ أي ألم آمركم على ألسنة الأنبياء والرسل في الكتب المنزلة ﴿ألا تعبدوا الشيطان﴾ أي لا تطيعوا الشيطان فيما يأمركم به ﴿إنه لكم عدو﴾ أي وقلت لكم إن الشيطان لكم عدو ﴿مبين﴾ ظاهر عداوته عليكم يدعوكم إلى ما فيه هلاككم وفي هذه الآية دلالة على أنه سبحانه لا يخلق عبادة الشيطان لأنه حذر من ذلك ووبخ عليه.