الآيات 1-10

يس ﴿1﴾ وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ﴿2﴾ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿3﴾ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿4﴾ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ﴿5﴾ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ﴿6﴾ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿7﴾ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ ﴿8﴾ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴿9﴾ وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴿10﴾

القراءة:

قرأ أهل الكوفة غير عاصم إلا حمادا ويحيى عن أبي بكر يس بالإمالة والباقون بالتفخيم وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو وحمزة وابن كثير برواية القواس والبزي ونافع برواية إسماعيل وورش بخلاف بإظهار النون من ﴿يس﴾ عند الواو وكذلك ن والقلم وقرأ ابن عامر والكسائي وخلف بإخفاء النون فيهما وقرأ قالون عن نافع بإظهار النون من ن وإخفائها من ﴿يس﴾ وأما عاصم فإنه يظهر النون منهما في رواية حفص ورواية البرجمي عن أبي بكر ومحمد ابن غالب عن الأعمش عن أبي بكر ويظهر النون من ﴿يس﴾ ويخفيها من نون في رواية العليمي عن حماد وأما يعقوب فإنه يظهر النونين في رواية روح وزيد ويخفيها في رواية رويس وقرأ أهل الحجاز والبصرة وأبو بكر تنزيل بالرفع والباقون بالنصب وفي الشواذ قراءة الثقفي يس بفتح النون وقراءة أبي السماك يس بكسر النون وقراءة الكلبي يس بالرفع وقراءة ابن عباس وعكرمة وابن يعمر والنخعي وعمر بن عبد العزيز فأعشيناهم بالعين وقراءة ابن محيصن والزهري أنذرتهم بهمزة واحدة.

الحجة:

قال أبو علي مما يحسن إمالة الفتح من ﴿يس﴾ نحو الكسرة أنهم قالوا يا زيد في النداء فأمالوا الفتحة نحو الكسرة والألف نحو الياء وإن كان قولهم يا حرفا على حرفين والحروف التي على حرفين لا يمال منها شيء نحو لا وما فإذا كانوا قد أمالوا ما لا يمال من الحروف من أجل الياء فإن يميلوا الاسم الذي هو يا من ياسين أجدر ألا ترى أن هذه الحروف أسماء لما يلفظ بها وأما من بين النون من ﴿يس﴾ فإنما جاز ذلك وإن كانت النون الساكنة تخفى مع حروف الفم ولا تبين لأن هذه الحروف مبنية على الوقف ومما يدل على ذلك استجازتهم فيها الجمع بين ساكنين كما يجتمعان في الكلم التي يوقف عليها ولو لا ذلك لم يجز الجمع بينهما وأما من لم يبين فلأنه وإن كان في تقدير الوقف لم يقطع فيه همزة الوصل وذلك قوله الم الله أ لا ترى أنه حذف همزة الوصل ولم يثبت كما لم يثبت مع غيرها من الكلام الذي يوصل ومن رفع ﴿تنزيل﴾ فعلى تقدير هو تنزيل العزيز الرحيم أو تنزيل العزيز الرحيم هذا والنصب على نزل تنزيل العزيز الرحيم وأما من قال يس بالنصب أو الجر فكلاهما لالتقاء الساكنين ومن رفع فعلى ما روي عن الكلبي أنه قال هي بلغة طي يا إنسان قال ابن جني ويحتمل عندي أن يكون اكتفي من جميع الاسم بالسين فيما فيه حرف نداء كقولك يا رجل ونظير حذف بعض الاسم قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كفى بالسيف شا أي شاهدا فحذف العين واللام فكذلك حذف من إنسان الفاء والعين وجعل ما بقي منه اسما قائما برأسه وهو السين فقيل يا سين وهو شبيه بقول الشاعر:

قلنا لها قفي لنا قالت قاف

أي وقفت ومن قرأ فأعشيناهم بالعين فإنه منقول من عشي يعشي إذا ضعف بصره وأعشيته أنا وأما ﴿أغشيناهم﴾ بالغين المعجمة فعلى حذف المضاف أي فأغشينا أبصارهم أي جعلنا عليها غشاوة والغشاوة على العين كالغشي على القلب فيلتقي معنى القراءتين وأما من قرأ أنذرتهم بهمزة واحدة فإنه حذف الهمزة التي للاستفهام تخفيفا وهو يريدها كما قال الكميت:

طربت وما شوقا إلى البيض أطرب

ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب

والمعنى أو ذو الشيب يلعب تناكرا لذلك وكبيت الكتاب:

لعمرك ما أدري وإن كنت داريا

شعيث بن سهم أو شعيث بن منقر

اللغة:

المقمح الغاض بصره بعد رفع رأسه وقيل هو المقنع وهو الذي يجذب ذقنه حتى يصير في صدره ثم يرفع وقيل للكانونين شهر أقماح لأن الإبل إذا أوردت الماء ترفع رءوسها لشدة برده ويقال قمح البعير إذا رفع رأسه ولم يشرب الماء وبعير قامح وإبل قماح وأقمحتها أنا قال الشاعر يصف سفينة ركبها:

ونحن على جوانبها قعود

نغض الطرف كالإبل القماح

الإعراب:

على في قوله ﴿على صراط﴾ يتعلق بالمرسلين تقديره أرسلوا على صراط ويجوز أن يكون الجار والمجرور في موضع خبر إن فيكون خبرا بعد خبر ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال فكأنه قال أرسلوا مستقيما طريقهم ﴿ما أنذر آباؤهم﴾ الأجود أن يكون ما نافية وتكون الجملة في موضع نصب لأنها صفة قوم ويجوز أن يكون ما حرفا موصولا مصدريا على تقدير لتنذر قوما أنذر آباؤهم.

النزول:

قيل نزل قوله ﴿إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا﴾ في أبي جهل كان حلف لئن رأى محمدا يصلي ليرضخن رأسه فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه فلما رفعه انثنت يده إلى عنقه ولزق الحجر بيده فلما عاد إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر من يده فقال رجل من بني مخزوم أنا اقتلته بهذا الحجر فأتاه وهو يصلي ليرميه بالحجر فأغشى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه ما صنعت فقال ما رأيته ولقد سمعت صوته وحال بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه لو دنوت منه لأكلني وروى أبو حمزة الثمالي عن عمار بن عاصم عن شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود أن قريشا اجتمعوا بباب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فخرج إليهم فطرح التراب على رءوسهم وهم لا يبصرونه قال عبد الله هم الذين سحبوا في القليب قليب بدر وروى أبو حمزة عن مجاهد عن ابن عباس أن قريشا اجتمعت فقال لئن دخل محمد لنقومن إليه قيام رجل واحد فدخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فجعل الله من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فلم يبصروه فصلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم أتاهم فجعل ينثر على رءوسهم التراب وهم لا يرونه فلما خلى عنهم رأوا التراب وقالوا هذا ما سحركم ابن أبي كبشة.

المعنى:

﴿يس﴾ قد مضى الكلام في الحروف المعجمة عند مفتتح السور في أول البقرة واختلاف الأقوال فيها وقيل أيضا ﴿يس﴾ معناه يا إنسان عن ابن عباس وأكثر المفسرين وقيل معناه يا رجل عن الحسن وأبي العالية وقيل معناه يا محمد عن سعيد بن جبير ومحمد بن الحنفية وقيل معناه يا سيد الأولين والآخرين وقيل هو اسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن علي ابن أبي طالب وأبي جعفر (عليه السلام) وقد ذكرنا الرواية فيه قبل ﴿والقرآن الحكيم﴾ أقسم سبحانه بالقرآن المحكم من الباطل وقيل سماه حكيما لما فيه من الحكمة فكأنه المظهر للحكمة الناطق بها ﴿إنك لمن المرسلين﴾ أي ممن أرسله الله تعالى بالنبوة والرسالة ﴿على صراط مستقيم﴾ يؤدي بسالكه إلى الحق أو إلى الجنة وقيل معناه على شريعة واضحة وحجة لائحة ﴿تنزيل العزيز﴾ أي هذا القرآن تنزيل العزيز في ملكه ﴿الرحيم﴾ بخلقه ولذلك أرسله ثم بين سبحانه الغرض في بعثته فقال ﴿لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم﴾ أي لتخوف به من معاصي الله قوما لم ينذر آباؤهم قبلهم لأنهم كانوا في زمان الفترة بين عيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قتادة وقيل لم يأتهم نذير من أنفسهم وقومهم وإن جاءهم من غيرهم عن الحسن وقيل معناه لم يأتهم من أنذرهم بالكتاب حسب ما آتيت وهذا على قول من قال كان في العرب قبل نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) من هو نبي كخالد بن سنان وقس بن ساعدة وغيرهما وقيل معناه لتنذر قوما كما أنذر آباؤهم عن عكرمة ﴿فهم غافلون﴾ عما تضمنه القرآن وعما أنذر الله به من نزول العذاب والغفلة مثل السهو وهو ذهاب المعنى عن النفس ثم أقسم سبحانه مرة أخرى فقال ﴿لقد حق القول على أكثرهم﴾ أي وجب الوعيد واستحقاق العقاب عليهم ﴿فهم لا يؤمنون﴾ ويموتون على كفرهم وقد سبق ذلك في علم الله تعالى وقيل تقديره لقد سبق القول على أكثرهم أنهم لا يؤمنون فهم لا يؤمنون وذلك أنه سبحانه أخبر ملائكته أنهم لا يؤمنون فحق قوله عليهم ﴿إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان﴾ يعني أيديهم كنى عنها وإن لم يذكرها لأن الأعناق والأغلال تدلان عليها وذلك أن الغل إنما يجمع اليد إلى الذقن والعنق ولا يجمع الغل العنق إلى الذقن وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنهما قرءا إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا وقرأ بعضهم في أيديهم والمعنى الجميع واحد لأن الغل لا يكون في العنق دون اليد ولا في اليد دون العنق ومثل هذا قول الشاعر:

وما أدري إذا يممت أرضا

أريد الخير أيهما يليني

أالخير الذي أنا أبتغيه

أم الشر الذي لا يأتليني

ذكر الخير وحده ثم قال أيهما يليني لأنه قد علم أن الخير والشر معرضان للإنسان فلم يدر أيلقاه هذا أم ذلك ومثله في التنزيل وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر ولم يقل البرد لأن ما يقي من الحر يقي من البرد واختلف في معنى الآية على وجوه (أحدها) أنه سبحانه إنما ذكره ضربا للمثل وتقديره مثل هؤلاء المشركين في إعراضهم عما تدعوهم إليه كمثل رجل غلت يداه إلى عنقه لا يمكنه أن يبسطهما إلى خير ورجل طامح برأسه لا يبصر موطىء قدميه عن الحسن والجبائي قال ونظيره قول الأفوه الأودي:

كيف الرشاد وقد صرنا إلى أمم

لهم عن الرشد أغلال وأقياد

ونحوه كثير في كلام العرب (وثانيها) أن المعنى كان هذا القرآن أغلال في أعناقهم يمنعهم عن الخضوع لاستماعه وتدبره لثقله عليهم وذلك أنهم لما استكبروا عنه وأنفوا من اتباعه وكان المستكبر رافعا رأسه لاويا عنقه شامخا بأنفه لا ينظر إلى الأرض صاروا كأنما غلت أيديهم إلى أعناقهم وإنما أضاف ذلك إلى نفسه لأن عند تلاوته القرآن عليهم ودعوته إياهم صاروا بهذه الصفة فهو مثل قوله حتى أنسوكم ذكري عن أبي مسلم (وثالثها) أن المعنى بذلك ناس من قريش هموا بقتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فجعلت أيديهم إلى أعناقهم فلم يستطيعوا أن يبسطوا إليه يدا عن ابن عباس والسدي (ورابعها) أن المراد به وصف حالهم يوم القيامة فهو مثل قوله إذ الأغلال في أعناقهم وإنما ذكره بلفظ الماضي للتحقيق وقوله ﴿فهم مقمحون﴾ أراد أن أيديهم لما غلت إلى أعناقهم ورفعت الأغلال أذقانهم ورءوسهم صعدا فهم مرفوعو الرأس برفع الأغلال إياها عن الأزهري ويدل على هذا المعنى قول قتادة مقمحون مغلولون ﴿وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون﴾ هذا على أحد الوجهين تشبيه لهم بمن هذه صفته في إعراضهم عن الإيمان وقبول الحق وذلك عبارة عن خذلان الله إياهم لما كفروا فكأنه قال وتركناهم مخذولين فصار ذلك من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا وإذا قلنا إنه وصف حالهم في الآخرة فالكلام على حقيقته ويكون عبارة عن ضيق المكان في النار بحيث لا يجدون متقدما ولا متأخرا إذ سد عليهم جوانبهم وإذا حملناه على صفة القوم الذين هموا بقتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فالمراد جعلنا بين أيدي أولئك الكفار منعا ومن خلفهم منعا حتى لم يبصروا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقوله ﴿فأغشيناهم فهم لا يبصرون﴾ أي أغشينا أبصارهم فهم لا يبصرون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد روي أن أبا جهل هم بقتله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان إذا خرج بالليل لا يراه ويحول الله بينه وبينه وقيل فأغشيناهم فأعميناهم فهم لا يبصرون الهدى وقيل فأغشيناهم العذاب فهم لا يبصرون النار وقيل معناه إنهم لما انصرفوا عن الإيمان والقرآن لزمهم ذلك حتى لم يكادوا يتخلصون منه بوجه كالمغلول والمسدود عليه طرقه ﴿وسواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون﴾ هذا مفسر في سورة البقرة.