الآيات 26-30

وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ﴿26﴾ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿27﴾ ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴿28﴾ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴿29﴾ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿30﴾

الإعراب:

﴿هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء﴾ لكم الجار والمجرور في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ والمبتدأ من شركاء ومن مزيدة ومن في قوله ﴿من ما ملكت أيمانكم﴾ تتعلق بما يتعلق به اللام ويجوز أن يتعلق بمحذوف ويكون في موضع نصب على الحال والعامل في الحال ما يتعلق به اللام.

﴿فأنتم فيه سواء﴾ جملة في موضع نصب لأنه جواب قوله ﴿هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء﴾ وتقديره فتستووا وقوله ﴿تخافونهم﴾ أي تخافون أن يساووكم كخيفتكم مساواة بعضكم بعضا.

حنيفا نصب على الحال.

فطرة الله منصوب بمعنى اتبع فطرة الله لأن معنى ﴿فأقم وجهك للدين القيم﴾ اتبع الدين القيم فيكون بدلا من وجهك في المعنى.

المعنى:

ثم قال سبحانه بعد أن ذكر الدلالات الدالة على توحيده ﴿وله من في السماوات والأرض﴾ من العقلاء يملكهم ويملك التصرف فيهم وإنما خص العقلاء لأن ما عداهم في حكم التبع لهم ثم أخبر سبحانه عن جميعهم فقال ﴿كل له قانتون﴾ أي كل له مطيعون في الحياة والبقاء والموت والبعث وإن عصوا في العبادة عن ابن عباس وهذا مفسر في سورة البقرة ﴿وهوالذي يبدؤا الخلق ثم يعيده﴾ أي يخلقهم إنشاء ويخترعهم ابتداء ثم يعيدهم بعد الإفناء فجعل سبحانه ما ظهر من ابتداء خلقه دليلا على ما خفي من إعادته استدلالا بالشاهد على الغائب ثم أكد ذلك بقوله ﴿وهوأهون عليه﴾ هو يعود إلى مصدر يعيده فالمعنى والإعادة أهون وقيل فيه أقوال (أحدها) أن معناه وهو هين عليه كقوله ﴿الله أكبر﴾ أي كبير لا يدانيه أحد في كبريائه وكقول الشاعر:

لعمرك ما أدري وإني لأوجل

على أينا تغدو المنية أول

فمعنى لأوجل أي وجل وقال الفرزدق:

إن الذي سمك السماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعز وأطول

أي عزيزة طويلة وقد قيل فيه أنه أراد أعز وأطول من دعائم بيوت العرب وقال آخر:

تمنى رجال أن أموت وإن أمت

فتلك سبيل لست فيها بأوحد

أي بواحد هذا قول أهل اللغة (والثاني) أنه إنما قال أهون لما تقرر في العقول إن إعادة الشيء أهون من ابتدائه ومعنى أهون أيسر وأسهل وهم كانوا مقرين بالابتداء فكأنه قال لهم كيف تقرون بما هو أصعب عندكم وتنكرون ما هو أهون عندكم (الثالث) إن الهاء في عليه يعود إلى الخلق وهو المخلوق أي والإعادة على المخلوق أهون من النشأة الأولى لأنه إنما يقال له في الإعادة كن فيكون وفي النشأة الأولى كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم كسيت العظام لحما ثم نفخ فيه الروح فهذا على المخلوق أصعب والإنشاء يكون أهون عليه وهذا قول النحويين ومثله يروى عن ابن عباس قال وهو أهون على المخلوق لأنه يقول له يوم القيامة كن فيكون وأما ما يروى عن مجاهد أنه قال الإنشاء أهون عليه من الابتداء فقوله مرغوب عنه لأنه تعالى لا يكون عليه شيء أهون من شيء ﴿وله المثل الأعلى﴾ أي وله الصفات العليا ﴿في السماوات والأرض﴾ وهي أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له لأنها دائمة يصفه بها الثاني كما يصفه بها الأول عن قتادة وقيل هي أنه ليس كمثله شيء عن ابن عباس وقيل هي جميع ما يختص به عز اسمه من الصفات العلى التي لا يشاركه فيها سواه والأسماء الحسنى التي تفيد التعظيم كالقاهر والإله ﴿وهو العزيز﴾ في ملكه ﴿الحكيم﴾ في خلقه ثم احتج سبحانه على عبدة الأوثان فقال ﴿ضرب لكم﴾ أيها المشركون ﴿مثلا من أنفسكم﴾ أي بين لكم شبها لحالكم ذلك المثل من أنفسكم ثم بينه فقال ﴿هل لكم من ما ملكت أيمانكم﴾ أي من عبيدكم وإمائكم ﴿من شركاء فيما رزقناكم﴾ من المال والأملاك والنعم أي هل يشاركونكم في أموالكم وهو قوله ﴿فأنتم فيه سواء﴾ أي فأنتم وشركاؤكم من عبيدكم وإمائكم فيما رزقناكم شرع سواء ﴿تخافونهم﴾ أن يشاركوكم فيما ترثونه من آبائكم ﴿كخيفتكم أنفسكم﴾ أي كما يخاف الرجل الحر شريكه الحر في المال يكون بينهما أن ينفرد دونه فيه بأمر وكما يخاف الرجل شريكه في الميراث أن يشاركه لأنه يجب أن ينفرد به فهو يخاف شريكه يعني أن هذه الصفة لا تكون بين المالكين والمملوكين كما تكون بين الأحرار ومعنى أنفسكم هاهنا أمثالكم من الأحرار كقوله ﴿ولا تلمزوا أنفسكم﴾ وكقوله ﴿ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا﴾ أي بأمثالهم من المؤمنين والمؤمنات والمعنى أنكم إذا لم ترضوا في عبيدكم أن يكونوا شركاء لكم في أموالكم وأملاككم فكيف ترضون لربكم أن يكون له شركاء في العبادة قال سعيد بن جبير لأنه كانت تلبية قريش لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك فأنزل الله تعالى الآية ردا عليهم وإنكارا لقولهم ﴿كذلك﴾ أي كما ميزنا لكم هذه الأدلة ﴿نفصل الآيات﴾ أي الأدلة ﴿لقوم يعقلون﴾ فيتدبرون ذلك ثم قال سبحانه مبينا لهم أنهم إنما اتبعوا أهواءهم فيما أشركوا به ﴿بل اتبع الذين ظلموا﴾ أي أشركوا بالله ﴿أهواءهم﴾ في الشرك ﴿بغير علم﴾ يعلمونه جاءهم من الله ﴿فمن يهدي من أضل الله﴾ أي فمن يهدي إلى الثواب والجنة من أضله الله عن ذلك عن الجبائي وقيل معناه من أضل عن الله الذي هو خالقه ورازقه والمنعم عليه مع ما نصبه له من الأدلة فمن يهديه بعد ذلك عن أبي مسلم قال وهو من قولهم أضل فلان بعيره بمعنى ضل بعيره عنه قال الشاعر:

هبوني امرءا منكم أضل بعيره

له ذمة إن الذمام كثير

وإنما المعنى ضل بعيره عنه ﴿وما لهم من ناصرين﴾ ينصرونهم ويدفعون عنهم عذاب الله تعالى إذا حل بهم ثم خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد جميع المكلفين وقال ﴿فأقم وجهك للدين﴾ أي أقم قصدك للدين والمعنى كن معتقدا للدين وقيل معناه اثبت ودم على الاستقامة وقيل معناه أخلص دينك عن سعيد بن جبير وقيل معناه سدد عملك فإن الوجه ما يتوجه إليه وعمل الإنسان ودينه مما يتوجه الإنسان إليه لتشديده وإقامته ﴿حنيفا﴾ أي مائلا إليه ثابتا عليه مستقيما فيه لا يرجع عنه إلى غيره ﴿فطرت الله التي فطر الناس عليها﴾ فطرة الله الملة وهي الدين والإسلام والتوحيد التي خلق الناس عليها ولها وبها أي لأجلها والتمسك بها فيكون كقوله ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ وهو كما يقول القائل لرسوله بعثتك على هذا ولهذا وبهذا والمعنى واحد ومنه قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه ويمجسانه وقيل معناه اتبع من الدين ما دلك عليه فطرة الله وهو ابتداء خلقه للأشياء لأنه خلقهم وركبهم وصورهم على وجه يدل على أن لهم صانعا قادرا عالما حيا قديما واحدا لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء عن أبي مسلم ﴿لا تبديل لخلق الله﴾ أي لا تغيير لدين الله الذي أمر الناس بالثبات عليه في التوحيد والعدل وإخلاص العبادة لله عن الضحاك ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وإبراهيم وابن زيد وقالوا أن لا هاهنا بمعنى النهي أي لا تبدلوا دين الله التي أمرتم بالثبات عليها وقيل المراد به النهي عن الخصاء عن ابن عباس وعكرمة وقيل معناه لا تبديل لخلق الله فيما دل عليه بمعنى أنه فطرة الله على وجه يدل على صانع حكيم فلا يمكن أن يجعله خلقا بغير الله حتى يبطل وجه الاستدلال عن أبي مسلم والمعنى إنما دلت عليه الفطرة لا يمكن فيه التبديل ﴿ذلك الدين القيم﴾ أي ذلك الدين المستقيم الذي يجب اتباعه ﴿ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ صحة ذلك لعدولهم عن النظر فيه.