الآيات 15-23
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿15﴾ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ﴿16﴾ كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴿17﴾ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴿18﴾ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴿19﴾ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ﴿20﴾ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴿21﴾ وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴿22﴾ فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ﴿23﴾
القراءة:
قرأ أهل الكوفة غير حفص مثل ما بالرفع والباقون بالنصب.
الحجة:
قال أبو علي من رفع مثلا جعله وصفا لحق وجاز أن يكون مثل وإن كان مضافا إلى معرفة صفة للنكرة لأن مثلا لا يختص بالإضافة لكثرة الأشياء التي يقع التماثل بها بين المتماثلين فلما لم تخصه الإضافة ولم يزل عنه الإبهام والشياع الذي كان فيه قبل الإضافة بقي على تنكره فقالوا مررت برجل مثلك فلذلك في الآية لم يتعرف بالإضافة إلى ﴿أنكم تنطقون﴾ وإن كان قوله ﴿أنكم تنطقون﴾ بمنزلة نطقكم وما في قوله ﴿مثل ما أنكم تنطقون﴾ زائدة وأما من نصب فقال ﴿مثل ما أنكم﴾ فيحتمل ثلاثة أضرب (أحدها) أنه لما أضاف مثل إلى مبني وهو قوله ﴿أنكم﴾ بناه كما بني يومئذ في نحو قوله ﴿من عذاب يومئذ﴾ و: على حين عاتبت المشيب على الصبي وقوله:
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت
حمامة في غصون ذات
أو قال فغير في موضع رفع بأنه فاعل يمنع وإنما بنيت هذه الأسماء المبهمة نحو مثل ويوم وحين وغير إذا أضيفت إلى المبني لأنها تكتسي منه البناء لأن المضاف يكتسي من المضاف إليه ما فيه من التعريف والتنكير والجزاء والاستفهام تقول هذا غلام زيد وصاحب القاضي فيتعرف الاسم بالإضافة إلى المعرفة وتقول غلام من يضرب فيكون استفهاما وتقول صاحب من يضرب أضرب فيكون جزاء فمن بنى هذه المبهمة إذا أضافها إلى مبني جعل البناء أحد ما يكتسيه من المضاف إليه ولا يجوز على هذا جاءني صاحب الخمسة عشر ولا غلام هذا لأن هذين من الأسماء غير المبهمة والمبهمة في إبهامها وبعدها من الاختصاص كالحروف التي تدل على أمور مبهمة فلما أضيفت إلى المبنية جاز ذلك فيها والبناء على الفتح في مثل قول سيبويه (والقول الثاني) أن تجعل ما مع مثل بمنزلة شيء واحد وبنيته على الفتح وإن كانت ما زائدة وهذا قول أبي عثمان وأنشد في ذلك قول الشاعر:
وتداعى منخراه بدم
مثل ما أثمر حماض الجبل
فذهب إلى أن مثل مع ما بمنزلة شيء واحد وينبغي أن يكون أثمر صفة لمثل ما لأنه لا يخلو من أن يكون صفة له أو يكون مثلا مضافا إلى الفعل فلا تجوز الإضافة لأنا لم نعلم مثلا أضيف إلى الفعل في موضع فكذلك لا نضيفه في هذا الموضع إلى الفعل فإذا لم تجز الإضافة كان وصفا وإذا كان وصفا وجب أن يعود منه إلى الموصوف ذكر فيحذف كما يحذف الذكر العائد من الصفة إلى الموصوف وقد يجوز أن لا يقدر مثل مع ما كشيء واحد ولكن تجعله مضافا إلى ما فيكون التقدير مثل شيء أثمره حماض الجبل فبني مثل على الفتح لإضافتها إلى ما وهو غير متمكن ولا يكون لأبي عثمان حينئذ في البيت حجة على كون مثل مع ما بمنزلة شيء واحد ويجوز أن يكون ما والفعل بمنزلة المصدر فيكون مثل أثمار الحماض فيكون كقوله ﴿وما كانوا بآياتنا يجحدون﴾ وقوله ﴿بما كانوا يكذبون﴾ (والقول الثالث) هو أن ينصب على الحال من النكرة في النطق وهو قول أبي عمرو الجرمي وذو الحال الذكر المرفوع في قوله ﴿لحق﴾ والعامل في الحال هو الحق لأنه من المصادر التي وصف بها ويجوز أن يكون الحال من النكرة الذي هو حق في قوله ﴿إنه لحق﴾ وإلى هذا ذهب أبو عمرو ولم يعلم أنه جعله حالا من الذكر الذي في حق وهذا لا خلاف في جوازه وقد حمل أبو الحسن قوله تعالى ﴿فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا﴾ على الحال وذو الحال كل أمر حكيم وهو نكرة فهذه وجوه النصب في مثل ما.
الإعراب:
﴿كانوا قليلا من الليل ما يهجعون﴾ يجوز أن يكون قليلا خبر كان وفاعله ﴿ما يهجعون﴾ والتقدير كانوا قليلا هجوعهم ويجوز أن يكون قليلا صفة مصدر محذوف على تقدير كانوا يهجعون هجوعا قليلا فتكون ما زائدة ويهجعون خبر كان.
ومن في قوله ﴿من الليل﴾ يجوز أن يكون بمعنى الباء كما يكون الباء بمعنى من في قوله عينا يشرب بها عباد الله أي منها فيكون التقدير كانوا يهجعون بالليل قليلا وقيل إن قوله ﴿ما يهجعون﴾ بمنزلة هجوعهم وهو بدل من الواو في كانوا وقوله ﴿من الليل﴾ في موضع الصفة لقليل والتقدير كان هجوعهم قليلا من الليل وقوله ﴿وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم﴾ أن رفعت آيات بالابتداء وجعلت في الأرض خبرا كان الضمير في قوله ﴿وفي أنفسكم﴾ كالضمير في خبر المبتدأ وإن قدرت آيات مرتفعة بالظرف كان الضمير في قوله ﴿وفي أنفسكم﴾ كالضمير في الفعل كقولهم قام زيد وقعد والتقدير وفي أنفسكم آيات وكذا قوله فيما بعد وفي موسى أي وفي موسى آيات وفي هود آيات وفي ثمود آيات وفي قوم نوح آيات وفي عاد آيات.
المعنى:
ثم ذكر سبحانه ما أعده لأهل الجنة فقال ﴿إن المتقين في جنات وعيون﴾ مر تفسيره ﴿آخذين ما آتاهم ربهم﴾ أي ما أعطاهم من الخير والكرامة ﴿إنهم كانوا قبل ذلك﴾ يعني في دار التكليف ﴿محسنين﴾ يفعلون الطاعات ويحسنون إلى غيرهم بضروب الإحسان ثم ذكر إحسانهم في أعمالهم فقال ﴿كانوا قليلا من الليل ما يهجعون﴾ أي كانوا يهجعون قليلا من الليل يصلون أكثر الليل عن الزهري وإبراهيم والهجوع النوم بالليل دون النهار وقيل معناه كانوا قل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) والمعنى كان الذي ينامون فيه كله قليلا ويكون الليل اسما للجنس وقال مجاهد لا ينامون كل الليل وقيل إن الوقف على قوله ﴿قليلا﴾ على معنى كانوا من الناس قليلا ثم ابتدأ فقال ﴿من الليل ما يهجعون﴾ فيكون ما بمعنى النفي عن الضحاك ومقاتل وهذا على نفي النوم عنهم البتة أي كانوا يحيون الليل بالقيام في الصلاة وقراءة القرآن وأقول إن ما إذا كان نفيا لا يتقدم عليه ما كان في حيزه إلا أن يتعلق قوله ﴿من الليل﴾ بفعل محذوف يدل عليه قوله يهجعون كما تقوله في قوله ﴿إني لكما لمن الناصحين﴾ وكانوا فيه من الزاهدين ﴿وبالأسحار هم يستغفرون﴾ قال الحسن مدوا الصلاة إلى الأسحار ثم أخذوا بالأسحار في الاستغفار وقال أبو عبد الله (عليه السلام) كانوا يستغفرون الله في الوتر سبعين مرة في السحر وقيل إن معناه وبالأسحار هم يصلون وذلك أن صلاتهم بالأسحار طلب منهم للمغفرة عن مجاهد ومقاتل والكلبي ثم ذكر سبحانه صدقاتهم فقال ﴿وفي أموالهم حق للسائل والمحروم﴾ والسائل هو الذي يسأل الناس والمحروم هو المحارف عن ابن عباس ومجاهد وقيل المحروم المتعفف الذي لا يسأل عن قتادة والزهري وقيل هو الذي لا سهم له في الغنيمة عن إبراهيم النخعي والأصل أن المحروم هو الممنوع الرزق بترك السؤال أو ذهاب المال أو خراب الضيعة أو سقوط السهم من الغنيمة لأن الإنسان يصير فقيرا بهذه الوجوه ويريد سبحانه بقوله ﴿حق﴾ ما يلزمهم لزوم الديون من الزكوات وغير ذلك أو ما ألزموه أنفسهم من مكارم الأخلاق قال الشعبي أعياني أن أعلم ما المحروم وفرق قوم بين الفقير والمحروم بأنه قد يحرمه الناس بترك الإعطاء وقد يحرم نفسه بترك السؤال فإذا سأل لا يكون ممن حرم نفسه بترك السؤال وإنما حرمه الغير وإذا لم يسأل فقد حرم نفسه ولم يحرمه الناس ﴿وفي الأرض آيات﴾ أي دلالات بينات وحجج نيرات ﴿للموقنين﴾ الذين يتحققون توحيد الله وإنما خص الموقنين لأنهم ينظرون فيها فيحصل لهم العلم بموجبها وآيات الأرض ما فيها من أنواع المخلوقات من الجبال والبحار والنبات والأشجار كل ذلك دال على كمال قدرته وحكمته:
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
﴿وفي أنفسكم﴾ أي وفي أنفسكم أيضا آيات دالات على وحدانيته ﴿أفلا تبصرون﴾ أي أ فلا ترون أنها مصرفة من حال إلى حال ومنتقلة من صفة إلى أخرى إذ كنتم نطفا فصرتم أحياء ثم كنتم أطفالا فصرتم شبابا ثم كهولا فهلا دلكم ذلك على أن لها صانعا صنعها ومدبرا دبرها ومصرفا فأصرفها على مقتضى الحكمة وقيل إن المراد بذلك اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع عن ابن عباس في رواية عطاء وقيل يريد سبيل الخلاء والبول والأكل والشرب من مدخل واحد والمخرج من سبيلين وتم الكلام عند قوله ﴿وفي أنفسكم﴾ ثم عنفهم فقال ﴿أفلا تبصرون﴾ وقيل يعني أنه خلقك سميعا بصيرا تغضب وترضى وتجوع وتشبع وذلك كله من آيات الله تعالى عن الصادق (عليه السلام) وقيل إن المعنى أفلا تبصرون بقلوبكم نظر من كأنه يرى الحق بعينه ﴿وفي السماء رزقكم﴾ ينزله الله إليكم بأن يرسل الغيث والمطر عليكم فيخرج به من الأرض أنواع ما تقتاتونه وتلبسونه وتنتفعون به ﴿وما توعدون﴾ من الثواب والعقاب عن عطاء وقيل من الجنة والنار عن مجاهد والضحاك وقيل معناه وفي السماء تقدير رزقكم أي ما قسمه لكم مكتوب في أم الكتاب وجميع ما توعدون في السماء أيضا لأن الملائكة تنزل من السماء لقبض الأرواح ولاستنساخ الأعمال ولإنزال العذاب ويوم القيامة للجزاء والحساب كما قال ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا ثم قال سبحانه ﴿فو رب السماء والأرض إنه لحق﴾ أقسم سبحانه بنفسه أن ما ذكر من أمر الرزق والآيات حق لا شك فيه عن الزجاج وقيل يعني أن ما قضي في الكتاب كائن عن الكلبي ﴿مثل ما أنكم تنطقون﴾ أي مثل نطقكم الذي تنطقون به فكما لا تشكون فيما تنطقون فكذلك لا تشكوا في حصول ما وعدتم به شبه الله تعالى تحقق ما أخبر عنه بتحقق نطق الآدمي ووجوده فأراد أنه لحق كما أن الآدمي ناطق وهذا كما تقول إنه لحق كما أنك هاهنا وإنه لحق كما أنك تتكلم والمعنى أنه في صدقه وتحقق وجوده كالذي تعرفه ضرورة.