الآيات 21-25

سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿21﴾ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴿22﴾ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴿23﴾ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴿24﴾ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴿25﴾

القراءة:

قرأ أبو عمرو بما أتيكم مقصورا والباقون بالمد وقرأ أهل المدينة والشام فإن الله الغني الحميد لأنهم وجدوا في مصاحفهم كذلك والباقون ﴿فإن الله هو الغني﴾ بإثبات هو وكذلك هو في مصاحفهم.

الحجة:

قال أبو علي حجة من قصر أتيكم أنه معادل به فاتكم فكما أن الفعل للفائت في قوله ﴿فاتكم﴾ فكذلك للآتي في قوله ﴿بما آتيكم﴾ قال الشاعر:

ولا فرح بخير إن أتاه

ولا جزع من الحدثان لاع

وحجة من مد أن الخير الذي يأتيهم هو من عند الله وهو المعطي لذلك وفاعل آتاكم هو الضمير العائد إلى اسم الله والهاء محذوفة من الصلة تقديره بما آتاكموه وقوله ﴿إن الله هو الغني الحميد﴾ ينبغي أن يكون هو فصلا ولا يكون مبتدأ لأن الفصل حذفه أسهل أ لا ترى أنه لا موضع للفصل من الإعراب وقد يحذف فلا يخل بالمعنى.

اللغة:

أعدت مشتقة من العدد والإعداد وضع الشيء لما يكون في المستقبل على ما يقتضيه من عدد الأمر الذي له.

الفضل والإفضال واحد وهو النفع الذي كان للقادر أن يفعله بغيره وله أن لا يفعله والأسى الحزن والتآسي تخفيف الحزن بالمشاركة في حاله.

الإعراب:

﴿في كتاب﴾ يتعلق بمحذوف تقديره إلا هي كائنة في كتاب فهو في محل الرفع بأنه خبر مبتدإ محذوف ويجوز أن يتعلق بفعل محذوف تقديره إلا قد كتبت في كتاب فيكون الجار والمجرور في موضع نصب على الحال أي لا مكتوبة ﴿لكيلا تأسوا﴾ تأسوا منصوب بنفس كي واللام هي اللام الجارة، ﴿الذين يبخلون﴾ في موضع جر على البدل من مختال فخور فعلى هذا لا يجوز الوقف على فخور ويجوز أن يكون محله رفعا على الابتداء ويكون خبره محذوفا كما حذف جواب لو من قوله ولو أن قرآنا سيرت به الجبال ويكون التقدير الذين يبخلون فإنهم يستحقون العذاب ويجوز أن يكون محله رفعا أو نصبا على الذم.

المعنى:

ثم رغب سبحانه في المسابقة لطلب الجنة فقال ﴿سابقوا﴾ أي بادروا العوارض القاطعة عن الأعمال الصالحة وسارعوا إلى ما يوجب الفوز في الآخرة ﴿إلى مغفرة من ربكم﴾ قال الكلبي إلى التوبة وقيل إلى الصف الأول وقيل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿وجنة عرضها كعرض السماء والأرض﴾ أي وسابقوا إلى استحقاق ثواب جنة هذه صفتها وذكر في ذكر العرض دون الطول وجوه (أحدها) أن عظم العرض يدل على عظم الطول (و الآخر) أن الطول قد يكون بلا عرض ولا يكون عرض بلا طول (وثالثها) أن المراد به أن العرض مثل السماوات والأرض وطولها لا يعلمه إلا الله تعالى قال الحسن أن الله يفني الجنة ثم يعيدها على ما وصفه فلذلك صح وصفها بأن عرضها كعرض السماء والأرض وقال غيره إن الله قال عرضها كعرض السماء والأرض والجنة المخلوقة في السماء السابعة فلا تنافي ﴿أعدت للذين آمنوا﴾ أي ادخرت وهيئت للمؤمنين ﴿بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء﴾ معناه أنه يجزي الدائم الباقي على القليل الفاني ولو اقتصر في الجزاء على قدر ما يستحق بالأعمال كان عدلا منه لكنه تفضل بالزيادة وقيل معناه أن أحدا لا ينال خيرا في الدنيا والآخرة إلا بفضل الله فإنه سبحانه لو ولم يدعنا إلى الطاعة ولم يبين لنا الطريق ولم يوفقنا للعمل الصالح لما اهتدينا إليه وذلك كله من فضل الله وأيضا فإنه سبحانه تفضل بالأسباب التي يفعل بها الطاعة من التمكين والألطاف وكمال العقل وعرض المكلف للثواب فالتكليف أيضا تفضل وهو السبب الموصل إلى الثواب وقال أبو القاسم البلخي والبغداديون من أهل العدل إن الله سبحانه وتعالى لو اقتصر لعباده في طاعاتهم على مجرد إحساناته السالفة إليهم لكان عدلا فلهذا جعل سبحانه الثواب والجنة فضلا وفي هذه الآية أعظم رجاء لأهل الإيمان لأنه ذكر أن الجنة معدة للمؤمنين ولم يذكر مع الإيمان شيئا آخر ﴿والله ذو الفضل العظيم﴾ أي ذو الإفضال العميم والإحسان الجسيم إلى عباده ثم قال ﴿ما أصاب من مصيبة في الأرض﴾ مثل قحط المطر وقلة النبات ونقص الثمرات ﴿ولا في أنفسكم﴾ من الأمراض والثكل بالأولاد ﴿إلا في كتاب﴾ يعني إلا وهو مثبت مذكور في اللوح المحفوظ ﴿من قبل أن نبرأها﴾ قبل أن أي من يخلق الأنفس ليستدل ملائكته به على أنه عالم لذاته يعلم الأشياء بحقائقها ﴿إن ذلك على الله يسير﴾ أي إثبات ذلك على كثرته هين على الله يسير سهل غير عسير ثم بين سبحانه لم فعل لذلك فقال ﴿لكيلا تأسوا على ما فاتكم﴾ أي فعلنا ذلك لئلا تحزنوا على ما يفوتكم من نعم الدنيا ﴿ولا تفرحوا بما آتاكم﴾ أي بما أعطاكم الله منها والذي يوجب نفي الأسى والفرح من هذا أن الإنسان إذا علم أن ما فأت منها ضمن الله تعالى عليه العوض في الآخرة فلا ينبغي أن يحزن لذلك وإذا علم أن ما ناله منها كلف الشكر عليه والحقوق الواجبة فيه فلا ينبغي أن يفرح به وأيضا فإذا علم أن شيئا منها لا يبقى فلا ينبغي أن يهتم له بل يجب أن يهتم لأمر الآخرة التي تدوم ولا تبيد وفي هذه الآية إشارة إلى أربعة أشياء (الأول) حسن الخلق لأن من استوى عنده وجود الدنيا وعدمها لا يحسد ولا يعادي ولا يشاح فإن هذه من أسباب سوء الخلق وهي من نتائج حب الدنيا (وثانيها) استحقار الدنيا وأهلها إذا لم يفرح بوجودها ولم يحزن لعدمها (وثالثها) تعظيم الآخرة لما ينال فيها من الثواب الدائم الخالص من الشوائب (ورابعها) الافتخار بالله دون أسباب الدنيا ويروى أن علي بن الحسين (عليهما السلام) جاءه رجل فقال له ما الزهد فقال الزهد عشرة أجزاء فأعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضاء وإن الزهد كله في آية من كتاب الله ﴿لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم﴾ وقيل لبزرجمهر ما لك أيها الحكيم لا تأسف على ما فأت ولا تفرح بما هو آت فقال إن الفائت لا يتلافى بالعبرة والآتي لا يستدام بالخبرة وعن عبد الله بن مسعود قال لئن جمرة الحسرة أحرقت ما أحرقت وأبقت ما أبقت أحب إلي من أن أقول لشيء كان ليته لم يكن أو لشيء لم يكن ليته كان ﴿والله لا يحب كل مختال فخور﴾ أي متكبر بما أوتي فخور على الناس بالدنيا ﴿الذين يبخلون﴾ بمنع الواجبات ﴿ويأمرون الناس بالبخل﴾ وفي الحديث أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سأل عن سيد بني عوف فقالوا جد بن قيس على أنه يزن بالبخل فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) وأي داء أدوى من البخل سيدكم البراء بن معرور ومعنى يزن يتهم ويقرف ﴿ومن يتول﴾ أي يعرض عما دعاه الله إليه ﴿فإن الله هو الغني﴾ عنه وعن طاعته وصدقته ﴿الحميد﴾ في جميع أفعاله ثم أقسم سبحانه فقال ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات﴾ أي بالدلائل والمعجزات ﴿وأنزلنا معهم الكتاب﴾ المكتوب الذي يتضمن الأحكام وما يحتاج إليه الخلق من الحلال والحرام كالتوراة والإنجيل والقرآن ﴿والميزان﴾ أي وأنزلنا معهم من السماء الميزان ذا الكفتين الذي يوزن به عن ابن زيد والجبائي ومقاتل بن سليمان وقيل معناه أنزلنا صفة الميزان ﴿ليقوم الناس﴾ في معاملاتهم ﴿بالقسط﴾ أي بالعدل والمراد وأمرنا بالعدل كقوله الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان عن قتادة ومقاتل بن حيان ﴿وأنزلنا الحديد﴾ روي عن ابن عمر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض أنزل الحديد والنار والماء والملح وقال أهل المعاني معنى أنزلنا الحديد أنشأناه وأحدثناه كقوله وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج وإلى هذا ذهب مقاتل فقال معناه بأمرنا كان الحديد وقال قطرب معنى أنزلنا هنا هيأنا وخلقنا من النزل وهو ما يهيا للضيف أي أنعمنا بالحديد وهيأناه لكم وقيل أنزل مع آدم من الحديد العلاة وهي السندان والكلبتان والمطرقة عن ابن عباس ﴿فيه بأس شديد﴾ أي يمتنع به ويحارب به عن الزجاج والمعنى أنه يتخذ منه آلتان آلة للدفع وآلة للضرب كما قال مجاهد فيه جنة وسلاح ﴿ومنافع للناس﴾ يعني ما ينتفعون به في معاشهم مثل السكين والفأس والإبرة وغيرها مما يتخذ من الحديد من الآلات وقوله ﴿وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب﴾ معطوف على قوله ﴿ليقوم الناس بالقسط﴾ أي ليعاملوا بالعدل وليعلم الله نصرة من ينصره موجودة وجهاد من جاهد مع رسوله موجودا وقوله ﴿بالغيب﴾ أي بالعلم الواقع بالاستدلال والنظر من غير مشاهدة بالبصر ﴿إن الله قوي﴾ على الانتقام من أعدائه ﴿عزيز﴾ أي منيع من أن يعترض عليه في أرضه وسمائه.

النظم:

وجه اتصال قوله و﴿ما أصاب من مصيبة﴾ الآية بما قبلها أنه سبحانه لما بين الثواب على الطاعات عقبه ببيان الأعواض على مقاساة المصائب والملمات فقال لا يذهب علينا عوض من أصابته مصيبة ما فإن كانت من فعلنا نعوضه بالأضعاف من جزائنا وإن كان من فعل عبادنا فباستيفائنا ذلك منهم ثم أكد ذلك بقوله ﴿لكيلا تأسوا﴾ الآية لأن المصيبة لو كانت بغير عوض في العاقبة لازداد الأسى والحزن فإن الحزن كل الحزن في الخسران الذي ليس له جبران ثم عقب ذلك بقوله ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات﴾ الآية فبين أنه سبحانه لطف لعباده بما يدعو إلى الخشوع والخضوع وترك الخيلاء.