الآيات 11-15

مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴿11﴾ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿12﴾ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴿13﴾ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴿14﴾ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿15﴾

القراءة:

القراءة في فيضاعفه والاختلاف فيه قد مضى ذكره في سورة البقرة وقرأ حمزة أنظرونا بقطع الهمزة وفتحها وكسر الظاء والباقون ﴿انظرونا﴾ بهمزة الوصل وضم الظاء وقرأ أبو جعفر وابن عامر ويعقوب لا تؤخذ منكم بالتاء والباقون بالياء وفي الشواذ قراءة سهل بن شعيب وبإيمانهم بكسر الهمزة وقراءة سماك بن حرب وغركم بالله الغرور بضم الغين.

الحجة:

قال أبو علي النظر هو تقليب العين إلى الجهة التي فيها المرئي والمراد رؤيته ومما يدل على ذلك قوله:

فيا مي هل يجزي بكائي بمثله

مرارا وأنفاسي إليك الزوافر

وإني متى أشرف على الجانب الذي

به أنت من بين الجوانب ناظر

فلو كان النظر الرؤية لم يطلب عليه الجزاء لأن المحب لا يستثيب من النظر إلى محبوبه شيئا بل يريد ذلك ويتمناه ويدل على ذلك قول الآخر:

ونظرة ذي شجن وامق

إذا ما الركائب جاوزن ميلا

وأما قوله تعالى ولا ينظر إليهم يوم القيامة فالمعنى أنه سبحانه لا ينيلهم رحمته وقد تقول نظر إلي فلان إذا كان ينيلك شيئا ويقول القائل أنظر إلي نظر الله إليك يريد أنلني خيرا أنالك الله ونظرت فعل يستعمل وما تصرف منه على ضروب (أحدها) أن تريد به نظرت إلى الشيء فتحذف الجار وتوصل الفعل ومن ذلك ما أنشده أبو الحسن:

ظاهرات الجمال والحسن ينظرن

كما ينظر الأراك الظباء

والمعنى ينظرن إلى الأراك فحذف الجار والآخر أن تريد به تأملت وتدبرت وهو فعل غير متعد فمن ذلك قولهم اذهب فانظر زيدا أبو من هو فهذا يراد به التأمل ومن ذلك قوله أنظر كيف ضربوا لك الأمثال وأنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وقد يتعدى هذا بالجار كقوله أ فلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت فهذا خص على التأمل وقد يتعدى هذا يعني نحو قوله أ ولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض.

فأما قول امرىء القيس:

فلما بدا حوران والآل دونه

نظرت فلم تنظر بعينك منظرا

فيجوز أن يكون نظرت لم تر بعينك منظرا إلى الآل وقد جوز أن يعني بالنظر الرؤية على الاتساع لأن تقليب البصر نحو المبصر تتبعه الرؤية وقد يجري على الشيء لفظ ما يتبعه ويقترن به كقولهم للمزادة راوية وللقناء عذرة وقد يكون نظرت فلم تنظر مثل تكلمت ولم تتكلم أي لم تأت بكلام على حسب ما يراد فكذلك نظرت فلم تنظر بعينك منظرا كما تريد أ ولم تر منظرا يروق وضرب آخر من نظرت هو أن تريد به انتظرته من ذلك قوله غير ناظرين إناه ومثله قول الفرزدق:

نظرت كما انتظرت الله حتى

كفاك الماحلين لك المحالا

يريد انتظرت كما انتظرت وقد يكون أنظرت في معنى انتظرت تطلب بقولك أنظرني التنفيس الذي يطلب بالانتظار فمن ذلك قوله:

أبا هند فلا تعجل علينا

وانظرنا نخبرك اليقينا

ومن ذلك قوله فانظرني إلى يوم يبعثون إنما هو طلب الإمهال والتسويف فالمطلوب بقوله:

وانظرنا نخبرك اليقينا تنفيس وفي قوله فانظرني إلى يوم يبعثون تسويف وتأخير وكذلك ما جاء في الحديث من إنظار المعسر وكذلك قوله ﴿انظرونا نقتبس من نوركم﴾ أي نفسونا نقتبس وانتظروا علينا وليس تسرع من تسرع إلى تخطئة من قال انظرونا بشيء ولا ينبغي أن يقال فيما لطف أنه خطأ وقوله فاليوم لا تؤخذ منكم فدية حسن التاء لتأنيث الفاعل ويحسن الياء للفصل الواقع بين الفعل والفاعل ولأن التأنيث غير حقيقي وأما قوله ﴿بأيمانهم﴾ فقد قال ابن جني هو معطوف على قوله ﴿بين أيديهم﴾ ويكون الظرف الذي هو بين أيديهم معناه الحال فيتعلق بمحذوف أي يسعى كائنا بين أيديهم وإذا كان كذلك جاز أن يعطف عليه الباء وما جرته أي كائنا بأيمانهم كقوله ذلك بما قدمت يداك وقوله ﴿الغرور﴾ معناه الاغترار وهو مقدر على حذف المضاف أي وغركم بالله سلامة الاغترار أي سلامتكم مع اغتراركم وقال الزجاج الغرور كل ما غر من متاع الدنيا.

اللغة:

القرض ما تعطيه غيرك ليقضيكه وأصله القطع فهو قطعة عن مالكه بإذنه على ضمان رد مثله والعرب تقول لي عندك قرض صدق وقرض سوء إذا فعل به خيرا أو شرا قال الشاعر:

ويقضي سلامان بن مفرج قرضها

بما قدمت أيديهم وأزلت

والمضاعفة الزيادة على المقدار مثله أو أمثاله والاقتباس أخذ النار ويقال قبسته نارا واقتبسته علما والتربص الترقب والانتظار.

الإعراب:

﴿من ذا﴾ قال الفراء ذا صلة لمن قال ورأيتها في مصحف عبد الله منذ الذي والنون موصولة بالذال والذي قيل إن المعنى من هذا الذي ومن في موضع رفع بالابتداء والذي خبره على القول الأول وعلى القول الثاني يكون ذا مبتدأ والذي خبره والجملة خبر من كذا ذكره ابن فضال وأقول إن الصحيح أن يكون ذا مبتدأ و﴿الذي يقرض الله﴾ صفته ومن خبر المبتدأ قدم عليه لما فيه من معنى الاستفهام.

﴿يوم ترى المؤمنين﴾ يتعلق بقوله ﴿وله أجر كريم﴾ و﴿يوم يقول المنافقون﴾ يتعلق بقوله ﴿ذلك هو الفوز العظيم﴾ ويجوز أن يكون التقدير واذكر يوم يقول ويجوز أن يكون بدلا من ﴿يوم ترى﴾ ﴿له باب﴾ في موضع جر صفة لسور ﴿باطنه فيه الرحمة﴾ صفة لباب.

المعنى:

ثم حث سبحانه على الإنفاق فقال ﴿من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا﴾ أي طيبة به نفسه عن مقاتل وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة ﴿فيضاعفه له﴾ أي يضاعف له لجزاء من بين سبع إلى سبعين إلى سبعمائة وقال أهل التحقيق القرض الحسن أن يجمع عشرة أوصاف أن يكون من الحلال لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا الطيب وأن يكون من أكرم ما يملكه دون أن يقصد الرديء بالإنفاق لقول ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون وأن يتصدق وهو يحب المال ويرجو الحياة لقوله لما سئل عن الصدقة أفضل الصدقة أن تعطيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت النفس التراقي قلت لفلان كذا ولفلان كذا وأن يضعه في الأخل الأحوج الأولى بأخذه ولذلك خص الله أقواما بأخذ الصدقات وهم أهل السهمان وأن يكتمه ما أمكن لقوله وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم وأن لا يتبعه المن والأذى لقوله ﴿لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى﴾ وأن يقصد به وجه الله ولا يرائي بذلك لأن الرياء مذموم وأن يستحقر ما يعطي وإن كثر لأن متاع الدنيا قليل وأن يكون من أحب ماله إليه لقوله ﴿لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون﴾ فهذه الأوصاف العشرة إذا استكملتها الصدقة كان ذلك قرضا حسنا ﴿وله أجر كريم﴾ أي جزاء خالص لا يشوبه صفة نقص فالكريم الذي من شأنه أن يعطي الخير الكثير فلما كان ذلك الأجر يعطي النفع العظيم وصف بالكريم والأجر الكريم هو الجنة ﴿يوم ترى﴾ يا محمد ﴿المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم﴾ على الصراط يوم القيامة وهو دليلهم إلى الجنة ويريد بالنور الضياء الذي يرونه ويمرون فيه عن قتادة وقيل نورهم هديهم عن الضحاك وقال قتادة إن المؤمن يضيء له نور كما بين عدن إلى صنعاء ودون ذلك حتى إن من المؤمنين من لا يضيء له نوره إلا موضع قدميه وقال عبد الله بن مسعود ويؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من نوره مثل الجبل وأدناهم نورا نوره على إبهامه يطفأ مرة ويقد أخرى وقال الضحاك ﴿وبأيمانهم﴾ يعني كتبهم التي أعطوها ونورهم بين أيديهم وتقول لهم الملائكة ﴿بشراكم اليوم جنات﴾ أي الذي تبشرون به اليوم جنات ﴿تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها﴾ أي مؤبدين دائمين لا تفنون ﴿ذلك هو الفوز العظيم﴾ أي الظفر بالمطلوب ثم ذكر حال المنافقين في ذلك اليوم فقال ﴿يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا﴾ ظاهرا وباطنا ﴿انظرونا نقتبس من نوركم﴾ قال الكلبي يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور فإذا سبقهم المؤمنون قالوا انظرونا نقتبس من نوركم أي نستضيء بنوركم ونبصر الطريق فتتخلص من هذه الظلمات وقيل إنهم إذا خرجوا من قبورهم اختلطوا فيسعى المنافقون في نور المؤمنين فإذا ميزوا بقوا في الظلمة فيستغيثون ويقولون هذا القول ﴿قيل﴾ أي فيقال للمنافقين ﴿ارجعوا وراءكم﴾ أي ارجعوا إلى المحشر حيث أعطينا النور ﴿فالتمسوا نورا﴾ فيرجعون فلا يجدون نورا عن ابن عباس وذلك أنه قال تغشى الجميع ظلمة شديدة ثم يقسم النور ويعطى المؤمن نورا ويترك الكافر والمنافق وقيل معنى قوله ﴿ارجعوا وراءكم﴾ ارجعوا إلى الدنيا إن أمكنكم فاطلبوا النور منها فإنا حملنا النور منها بالإيمان والطاعات وعند ذلك يقول المؤمنون ربنا أتمم لنا نورنا ﴿فضرب بينهم بسور﴾ أي ضرب بين المؤمنين والمنافقين سور والباء مزيدة لأن المعنى حيل بينهم وبينهم بسور وهو حائط بين الجنة والنار عن قتادة وقيل هو سور على الحقيقة ﴿له باب﴾ أي لذلك السور باب ﴿باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله﴾ أي من قبل ذلك الظاهر ﴿العذاب﴾ وهو النار وقيل باطنه أي باطن ذلك السور فيه الرحمة أي الجنة التي فيها المؤمنون وظاهره أي وخارج السور من قبله يأتيهم العذاب يعني أن المؤمنين يسبقونهم ويدخلون الجنة والمنافقون يجعلون في النار والعذاب وبينهم السور الذي ذكره الله ﴿ينادونهم﴾ أي ينادي المنافقون المؤمنين ﴿ألم نكن معكم﴾ في الدنيا نصوم ونصلي كما تصومون وتصلون ونعمل كما تعملون ﴿قالوا بلى﴾ أي يقول المؤمنون لهم بلى كنتم معنا ﴿ولكنكم فتنتم أنفسكم﴾ أي استعملتموها في الكفر والنفاق وكلها فتنة وقيل معناه تعرضتم للفتنة بالكفر والرجوع عن الإسلام وقيل معناه أهلكتم أنفسكم بالنفاق ﴿وتربصتم﴾ بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الموت وقلتم يوشك أن يموت فنستريح منه عن مقاتل وقيل تربصتم بالمؤمنين الدوائر ﴿وارتبتم﴾ أي شككتم في الدين ﴿وغرتكم الأماني﴾ التي تمنيتموها بأن تعود الدائرة على المؤمنين ﴿حتى جاء أمر الله﴾ أي الموت وقيل إلقاؤهم في النار عن قتادة وقيل جاء أمر الله في نصرة دينه ونبيه وغلبته إياكم ﴿وغركم بالله الغرور﴾ يعني الشيطان غركم بحلم الله وإمهاله وقيل الغرور الدنيا ﴿فاليوم لا يؤخذ منكم فدية﴾ أيها المنافقون أي بدل بأن تفدوا أنفسكم من العذاب ﴿ولا من الذين كفروا﴾ أي ولا من سائر الكفار الذين أظهروا الكفر ﴿مأواكم النار﴾ أي مقركم وموضعكم الذي تأوون إليه النار ﴿هي مولاكم﴾ أي هي أولى بكم لما أسلفتم من الذنوب والمعنى أنها هي التي تلي عليكم لأنها قد ملكت أمركم فهي أولى بكم من كل شيء ﴿وبئس المصير﴾ أي بئس المأوى والمرجع الذي تصيرون إليه.