الآيات 12-14

فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴿12﴾ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿13﴾ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴿14﴾

اللغة:

ضائق وضيق بمعنى واحد إلا أن ضائق هاهنا أحسن لوجهين (أحدهم) أنه عارض (والآخر) أنه أشكل بقوله ﴿تارك﴾ والكنز المال المدفون سمي بذلك لاجتماعه وكل مجتمع من لحم وغيره مكتنز وصار في الشرع اسم ذم لكل مال لا يخرج منه حق الله تعالى من الزكاة وغيره وإن لم يكن مدفونا وافترى واختلق واخترق وخلق وخرص وخرق إذا كذب والاستجابة في الآية طلب الإجابة بالقصد إلى فعلها ويقال استجاب وأجاب بمعنى واحد والفرق بين الإجابة والطاعة إن الطاعة موافقة الإرادة الجاذبة إلى الفعل برغبة أو رهبة والإجابة موافقة الداعي إلى الفعل من أجل أنه دعا به.

الإعراب:

﴿أن يقولوا﴾ في موضع نصب بأنه مفعول له وتقديره كراهة أن يقولوا فحذف المضاف وقيل ﴿إن يقولوا﴾ في موضع جر بدلا من الهاء في قوله ﴿ضائق به صدرك﴾ ﴿أم يقولون افتراه﴾ أم هذه منقطعة ليست بالمعادلة وتقديره بل أ يقولون افتراه وهو تقرير بصورة الاستفهام.

النزول:

روي عن ابن عباس أن رؤساء مكة من قريش أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا يا محمد إن كنت رسولا فحول لنا جبال مكة ذهبا أو ائتنا بملائكة يشهدون لك بالنبوة فأنزل الله تعالى ﴿فلعلك تارك﴾ الآية وروى العياشي بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال لعلي (عليه السلام) إني سألت ربي أن يؤاخي بيني وبينك ففعل وسألت ربي أن يجعلك وصيي ففعل فقال بعض القوم والله لصاع من تمر في شن بال أحب إلينا مما سأل محمد ربه فهلا سأله ملكا يعضده على عدوه أو كنزا يستعين به على فاقته فنزلت الآية.

المعنى:

ثم أمر سبحانه رسوله بالثبات على الأمر وحثه على حجاج القوم بما يقطع العذر فقال ﴿فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك﴾ أي ولعلك تارك بعض القرآن وهو ما فيه سب آلهتهم ولا تبلغهم إياه دفعا لشرهم وخوفا منهم ﴿وضائق به صدرك﴾ أي ولعلك يضيق صدرك مما يقولونه وبما يلحقك من أذاهم وتكذيبهم وقيل باقتراحاتهم ﴿أن يقولوا﴾ أي كراهة أن يقولوا أو مخافة أن يقولوا ﴿لو لا أنزل عليه كنز﴾ من المال ﴿أو جاء معه ملك﴾ يشهد له فليس قوله ﴿فلعلك﴾ على وجه الشك بل المراد به النهي عن ترك أداء الرسالة والحث على أدائها كما يقول أحدنا لغيره وقد علم من حاله أنه يطيعه ولا يعصيه ويدعوه غيره إلى عصيانه لعلك تترك ما آمرك به لقول فلان وإنما يقول ذلك ليوئس من يدعوه إلى ترك أمره فمعناه لا تترك بعض ما يوحى إليك ولا يضق صدرك بسبب مقالتهم هذه ﴿إنما أنت نذير﴾ أي منذر ﴿والله على كل شيء وكيل﴾ أي حفيظ يجلب النفع إليه ويدفع الضرر عنه ﴿أم يقولون افتراه﴾ معناه بل أ يقولون اختلق القرآن واخترعه وأتى به من عند نفسه وقيل إن هاهنا محذوفا وتقديره أيكذبونك فيما أتيتهم به من القرآن أم يقولون افتريته على ربك وحذف لدلالة ما أبقي على ما ألقي وعلى هذا فيكون أم هذه هي متصلة ﴿قل﴾ يا محمد لهم ﴿فأتوا بعشر سور مثله مفتريات﴾ أي إن كان هذا مفترى على الله كما زعمتم فأتوا أنتم بعشر سور مثله في النظم والفصاحة مفتريات على زعمكم فإن القرآن نزل بلغتكم وقد نشأت أنا بين أظهركم فإن لم يمكنكم ذلك فاعلموا أنه من عند الله تعالى وهذا صريح في التحدي وفيه دلالة على جهة إعجاز القرآن وأنها هي البلاغة والفصاحة في هذا النظم المخصوص لأنه لو كان جهة الإعجاز غير ذلك لما قنع في المعارضة بالافتراء والاختلاق لأن البلاغة ثلاث طبقات فأعلى طبقاتها معجز وأدناها وأوسطها ممكن فالتحدي في الآية إنما وقع في الطبقة العليا منها ولو كان وجه الإعجاز الصرفة لكان الركيك من الكلام أبلغ في باب الإعجاز والمثل المذكور في الآية لا يجوز أن يكون المراد به مثله في الجنس لأن مثله في الجنس يكون حكايته فلا يقع بها التحدي وإنما يرجع ذلك إلى ما هو متعارف بين العرب في تحدي بعضهم بعضا كما اشتهر من مناقصات امرىء القيس وعلقمة وعمرو بن كلثوم والحرث بن حلزة وجرير والفرزدق وغيرهم وقوله ﴿وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين﴾ معناه ادعوهم ليعينوكم على معارضة القرآن إن كنتم صادقين في قولكم إني افتريته ويريد بقوله ﴿من استطعتم﴾ من خالف نبينا محمدا من جميع الأمم وهذا غاية ما يمكن في التحدي والمحاجة وفيه الدلالة الواضحة على إعجاز القرآن لأنه إذا ثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) تحداهم به وأوعدهم بالقتل والأسر بعد أن عاب دينهم وآلهتهم وثبت أنهم كانوا أحرص الناس على إبطال أمره حتى بذلوا مهجهم وأموالهم في ذلك فإذا قيل لهم افتروا أنتم مثل هذا القرآن وأدحضوا حجته وذلك أيسر وأهون عليكم من كل ما تكلفتموه فعدلوا عن ذلك وصاروا إلى الحرب والقتل وتكلف الأمور الشاقة فذلك من أدل الدلائل على عجزهم إذ لو قدروا على معارضته مع سهولة ذلك عليهم لفعلوه لأن العاقل لا يعدل عن الأمر السهل إلى الصعب الشاق مع حصول الغرض بكل واحد منهما فكيف ولو بلغوا غاية أمانيهم في الأمر الشاق وهو قتله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لكان لا يحصل غرضهم من إبطال أمره فإن المحقق قد يقتل فإن قيل لم ذكر التحدي مرة بعشر سور ومرة بحديث مثله فالجواب أن التحدي إنما يقع بما يظهر فيه الإعجاز من منظوم الكلام فيجوز أن يتحدى مرة بالأقل ومرة بالأكثر ﴿فإن لم يستجيبوا لكم﴾ قيل أنه خطاب للمسلمين والمراد فإن لم يجبكم هؤلاء الكفار إلى الإتيان بعشر سور مثله معارضة لهذا القرآن ﴿فاعلموا﴾ أيها المسلمون ﴿إنما أنزل﴾ القرآن ﴿بعلم الله﴾ عن مجاهد واختاره الجبائي وقيل هو خطاب للكفار وتقديره فإن لم يستجب لكم من تدعونهم إلى المعاونة ولم يتهيأ لكم المعارضة فقد قامت عليكم الحجة وقيل إن الخطاب للرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) أي فإن لم يجيبوك وذكره بلفظ الجمع تفخيما والغرض التنبيه على إعجاز القرآن وأنه المنزل من عند الله سبحانه على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) وذكر في قوله ﴿بعلم الله﴾ وجوه (أحدها) أن معناه إن الله عالم به وبأنه حق منزل من عنده (وثانيها) أن معناه بعلم الله مواقع تأليفه في علو طبقته وأنه لا يقدر أحد على معارضته (وثالثها) أنه أنزله الله على علم بترتيبه ونظمه ولا يعلم غيره ذلك ﴿وأن لا إله إلا هو﴾ أي واعلموا أنه لا إله إلا هو لأن مثل هذا المعجز لا يقدر عليه إلا الله الواحد الذي لا إله إلا هو ﴿فهل أنتم مسلمون﴾ أي هل أنتم بعد قيام الحجة عليكم بما ذكرناه من كلام الله مستسلمون منقادون لتوحيده وهذا استفهام في معنى الأمر مثل قوله فهل أنتم منتهون.