الآيات 11-20

مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴿11﴾ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ﴿12﴾ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ﴿13﴾ عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ﴿14﴾ عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ﴿15﴾ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ﴿16﴾ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴿17﴾ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴿18﴾ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ﴿19﴾ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ﴿20﴾

القراءة:

قرأ أبو جعفر وهشام ما كذب بالتشديد والباقون بالتخفيف وقرأ أهل الكوفة غير عاصم ويعقوب أفتمرونه بغير ألف والباقون ﴿أفتمارونه﴾ وقرأ ابن كثير والشموني عن الأعمش وأبي بكر ومنائة بالمد والهمزة والباقون ﴿ومناة﴾ بغير همزة ولا مد وروي عن علي (عليه السلام) وأبي هريرة وأبي الدرداء وزر بن حبيش جنة المأوى بالهاء وعن ابن عباس ومجاهد واللات بتشديد التاء.

الحجة:

من قرأ كذب بتشديد الذال فمعناه ما كذب قلب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ما رآه بعينه تلك الليلة بل صدقه وحققه ومن قرأ بالتخفيف فمعناه ما كذب فؤاده فيما رأى وقال أبو علي كذب فعل يتعدى إلى مفعول بدلالة قوله:

كذبتك عينك أم رأيت بواسط

غلس الظلام من الرباب خيالا

ومعنى كذبتك عينك أرتك ما لا حقيقة له فعلى هذا يكون المعنى لم يكذب فؤاده ما أدركه بصره أي كانت رؤيته صحيحة غير كاذبة وإدراكا على الحقيقة ويشبه أن يكون الذي شدد أراد هذا المعنى وأكده.

﴿أفتمارونه على ما يرى﴾ أي أ ترومون إزالته عن حقيقة ما أدركه وعلمه بمجادلتكم أو أتجحدونه ما قد علمه ولم يعترض عليه فيه شك فإن معنى قوله ﴿أفتمارونه﴾ أتجادلونه جدالا تريدون به دفعه عما علمه وشاهده من الآيات الكبرى ومن قرأ أفتمرونه فمعناه أفتجحدونه ومناة صنم من حجارة واللات والعزى كانتا من حجارة أيضا ولعل منائة بالمد لغة ومن قرأ جنة المأوى يعني فعله يريد جن عليه فأجنه الله والمأوى وهو الفاعل والمعنى ستره وقال الأخفش أدركه وعن ابن عباس قال كان رجل بسوق عكاظ يلت السويق والسمن عند صخرة فإذا باع السويق والسمن صب على الصخرة ثم يلت فلما مات ذلك الرجل عبدت ثقيف تلك الصخرة إعظاما لذلك الرجل.

المعنى:

ثم بين سبحانه ما رآه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة الأسرى وحقق رؤيته فقال ﴿ما كذب الفؤاد ما رأى﴾ أي لم يكذب فؤاد محمد ما رآه بعينه فقوله ﴿ما رأى﴾ مصدر في موضع نصب لأنه مفعول كذب والمعنى أنه ما أوهمه الفؤاد أنه رأى ولم يربل صدقه الفؤاد رؤيته قال المبرد معنى الآية أنه رأى شيئا فصدق فيه قال ابن عباس رأى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ربه بفؤاده وروي ذلك عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي (عليه السلام) وهذا يكون بمعنى العلم أي علمه علما يقينا بما رآه من الآيات الباهرات كقول إبراهيم (عليه السلام) ولكن ليطمئن قلبي وإن كان عالما قبل ذلك وقيل إن الذي رآه هو جبرائيل على صورته التي خلقه الله عليها عن ابن عباس وابن مسعود وعائشة وقتادة وقيل إن الذي رآه هو ما رآه من ملكوت الله تعالى وأجناس مقدوراته عن الحسن قال وعرج بروح محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى السماء وجسده في الأرض وقال الأكثرون وهو الظاهر من مذهب أصحابنا والمشهور في أخبارهم أن الله تعالى صعد بجسمه إلى السماء حيا سليما حتى رأى ما رأى من ملكوت السماوات بعينه ولم يكن ذلك في المنام وهذا المعنى ذكرناه في سورة بني إسرائيل والفرق بين الرؤية في اليقظة وبين الرؤية في المنام أن رؤية الشيء في اليقظة هو إدراكه بالبصر على الحقيقة ورؤيته في المنام تصوره بالقلب على توهم الإدراك بحاسة البصر من غير أن يكون كذلك وعن أبي العالية قال سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هل رأيت ربك ليلة المعراج قال رأيت نهرا ورأيت وراء النهر حجابا ورأيت وراء الحجاب نورا لم أر غير ذلك وروي عن أبي ذر وأبي سعيد الخدري أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن قوله ﴿ما كذب الفؤاد ما رأى﴾ قال رأيت نورا وروي ذلك عن مجاهد وعكرمة وذكر الشعبي عن عبد الله بن الحارث عن ابن عباس أنه قال إن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) رأي ربه قال الشعبي وأخبرني مسروق قال سألت عائشة عن ذلك فقالت إنك لتقول قولا إنه ليقف شعري منه قال مسروق قلت رويدا يا أم المؤمنين وقرأت عليها والنجم إذا هوى حتى انتهيت إلى قوله قاب قوسين أو أدنى فقالت رويدا أنى يذهب بك إنما رأى جبرائيل في صورة من حدثك أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى ربه فقد كذب والله تعالى يقول ﴿لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار﴾ ومن حدثك أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم الحس من الغيب فقد كذب والله تعالى يقول إن الله عنده علم الساعة إلى آخره ومن حدثك أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) كتم شيئا من الوحي فقد كذب والله تعالى يقول بلغ ما أنزل إليك من ربك ولقد بين الله سبحانه ما رآه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بيانا شافيا فقال ﴿لقد رأى من آيات ربه الكبرى﴾ ﴿أفتمارونه﴾ أي أفتجادلونه ﴿على ما يرى﴾ وذلك أنهم جادلوه حين أسري به فقالوا له صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا في طريق الشام وغير ذلك مما جادلوه به ومن قرأ أفتمرونه فالمعنى أفتجحدونه يقال مريت الرجل حقه إذا جحدته وقيل معناه أ فتدفعونه عما يرى وعلى في موضع عن عن المبرد والمعنيان متقاربان لأن كل مجادل جاحد ﴿ولقد رآه نزلة أخرى﴾ أي رأى جبرائيل في صورته التي خلق عليها نازلا من السماء نزلة أخرى وذلك أنه رآه مرتين في صورته على ما مر ذكره ﴿عند سدرة المنتهى﴾ أي رآه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو عند سدرة المنتهى وهي شجرة عن يمين العرش فوق السماء السابعة انتهى إليها علم كل ملك عن الكلبي ومقاتل وقيل إليها ينتهي ما يعرج إلى السماء وما يهبط من فوقها من أمر الله عن ابن مسعود والضحاك وقيل إليها تنتهي أرواح الشهداء وقيل إليها ينتهي ما يهبط به من فوقها ويقبض منها وإليها ينتهي ما يعرج من الأرواح ويقبض منها والمنتهى موضع الانتهاء وهذه الشجرة حيث انتهى إليه الملائكة فأضيفت إليه وقيل هي شجرة طوبى عن مقاتل والسدرة هي شجرة النبوة ﴿عندها جنة المأوى﴾ أي عند سدرة المنتهى جنة المقام وهي جنة الخلد وهي في السماء السابعة وقيل في السماء السادسة وقيل هي الجنة التي كان آوى إليها آدم وتصير إليها أرواح الشهداء عن الجبائي وقتادة وقيل هي التي يصير إليها أهل الجنة عن الحسن وقيل هي التي يأوي إليها جبرائيل والملائكة عن عطا عن ابن عباس ﴿إذ يغشى السدرة ما يغشى﴾ قيل يغشاها الملائكة أمثال الغربان حين يقعن على الشجر عن الحسن ومقاتل وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال رأيت على كل ورقة من أوراقها ملكا قائما يسبح الله تعالى وقيل يغشاها من النور والبهاء والحسن والصفاء الذي يروق الأبصار ما ليس لوصفه منتهى عن الحسن وقيل يغشاها فراش من ذهب عن ابن عباس ومجاهد وكأنها ملائكة على صورة الفراش يعبدون الله تعالى والمعنى أنه رأى جبرائيل (عليه السلام) على ما صورته في الحال التي يغشى فيها السدرة من أمر الله ومن العجائب المنبهة على كمال قدرة الله تعالى ما يغشاها وإنما أبهم الأمر فيما يغشى لتعظيم ذلك وتفخيمه كما قال ﴿فأوحى إلى عبده ما أوحى﴾ وقوله ﴿ما يغشى﴾ أبلغ لفظ في هذا المعنى ﴿ما زاغ البصر وما طغى﴾ أي ما زاغ بصر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يمل يمينا ولا شمالا وما طغى أي ما جاوز القصد ولا الحد الذي حدد له وهذا وصف أدبه صلوات الله عليه وآله في ذلك المقام إذا لم يلتفت جانبا ولم يمل بصره ولم يمده أمامه إلى حيث ينتهي ﴿لقد رأى من آيات ربه الكبرى﴾ وهي الآيات العظام التي رآها تلك الليلة مثل سدرة المنتهى وصورة جبرائيل (عليه السلام) ورؤيته وله ستمائة جناح قد سد الأفق بأجنحته عن مقاتل وابن زيد والجبائي ومن للتبعيض أي رأى بعض آيات ربه وقيل إنه رأى رفرفا أخضر من رفارف الجنة قد سد الأفق عن ابن مسعود وقيل إنه قد رأى ربع بقلبه عن ابن عباس فعلى هذا فيمكن أن يكون المراد أنه رأى من الآيات ما ازداد به يقينا إلى يقينه والكبرى تأنيث الأكبر وهو الذي يصغر مقدار غيره عنده في معنى صفته ولما قص الله سبحانه هذه الأقاصيص عقبها سبحانه بأن خاطب المشركين فقال ﴿أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى﴾ أي أخبرونا عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله وتعبدون معها الملائكة وتزعمون أن الملائكة بنات الله وقيل معناه أ فرأيتم أيها الزاعمون أن اللات والعزى ومناة بنات الله لأنه كان منهم من يقول إنما نعبد هؤلاء لأنهم بنات الله عن الجبائي وقيل إنهم زعموا أن الملائكة بنات الله وصوروا أصنامهم على صورهم وعبدوها من دون الله واشتقوا لها أسماء من أسماء الله فقالوا اللات من الله والعزى من العزيز وكان الكسائي يختار الوقف على ﴿اللات﴾ بالتاء لاتباع المصحف لأنها كتبت بالتاء والعزى تأنيث الأعز وهي بمعنى العزيزة وقيل إن اللات صنم كانت ثقيف تعبده والعزى صنم أيضا عن الحسن وقتادة وقيل إنها كانت شجرة سمرة عظيمة لغطفان يعبدونها فبعث إليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خالد بن الوليد فقطعها وقال:

يا عز كفرانك لا سبحانك

إني رأيت الله قد أهانك

عن مجاهد وقال قتادة كانت مناة صنما بقديد بين مكة والمدينة وقال الضحاك والكلبي كانت لهذيل وخزاعة يعبدها أهل مكة وقيل إن اللات والعزى ومناة أصنام من حجارة كانت في الكعبة يعبدونها والثالثة نعت لمناة والأخرى نعت لها أيضا ومعنى الآية أخبروني عن هذه الأصنام هل ضرت أو نفعت أو فعلت ما يوجب أن تعدل بالله فحذف لدلالة الكلام عليه.