الآيات 16-20

وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا مَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ ﴿16﴾ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ ﴿17﴾ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ﴿18﴾ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴿19﴾ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ﴿20﴾

القراءة:

روي في بعض الروايات عن ابن كثير آنفا بالقصر والقراءة المشهورة ﴿آنفا﴾ بالمد.

الحجة:

قال أبو علي أنشد أبو زيد:

وجدنا آل مرة حين خفنا

جريرتنا هم الأنف الكراما

ويسرح جارهم من حيث يمسي

كان عليه مؤتنفا حراما

أي كان عليه حرمة شهر مؤتنف حرام فحذف والأنف الذين يأنفون من احتمال الضيم قال أبو علي فإذا كان كذلك فقد جمع فعل على فعل لأن واحد أنف أنف بدلالة قول الشاعر:

وحمال المئين إذا ألمت

بنا الحدثان والأنف النصور

وليس الأنف والأنف في البيتين مما في الآية في شيء لأن ما في الشعر من الآنفة وما في الآية من الابتداء ولم يسمع أنف في معنى ابتداء ويجوز أن يكون توهمه ابن كثير مثل حاذر وحذر وفاكه وفكه والوجه المد والآنف الجائي من الائتناف وهو الابتداء فقوله ﴿آنفا﴾ أي في أول وقت يقرب منا.

اللغة:

الأهواء جمع الهوى وهو شهوة النفس يقال هوى يهوي هوى فهو هو واستهواه هذا الأمر أي دعاه إلى الهوى والأشراط العلامات وأشرط فلان نفسه للأمر إذا أعلمها بعلامة قال أوس بن حجر:

فأشرط فيها نفسه وهو معصم

وألقى بأسباب له وتوكلا

وواحد الأشراط شرط والشرط بالتحريك العلامة وأشراط الساعة علاماتها والشرط أيضا رذال المال قال جرير:

ترى شرط المعزى مهور نسائهم

وفي شرط المعزى لهن مهور

وأصحاب الشرط سموا بذلك للبسهم لباسا يكون علامة لهم والشرط في البيع علامة بين المتبايعين.

المعنى:

ثم بين سبحانه حال المنافقين فقال: ﴿ومنهم من يستمع إليك﴾ أي ومن الكافرين الذين تقدم ذكرهم من يستمع إلى قراءتك ودعوتك وكلامك لأن المنافق كافر ﴿حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم﴾ يعني الذين آتاهم الله العلم والفهم من المؤمنين قال ابن عباس أنا ممن أوتوا العلم بالقرآن وعن الأصبغ بن نباتة عن علي (عليه السلام) قال أنا كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيخبرنا بالوحي فأعيه أنا ومن يعيه فإذا خرجنا قالوا ﴿ما ذا قال آنفا﴾ وقولهم ﴿ماذا قال آنفا﴾ أي أي شيء قال الساعة وإنما قالوه استهزاء أو إظهار أنا لم نشتغل أيضا بوعيه وفهمه وقيل إنما قالوا ذلك لأنهم لم يفهموا معناه ولم يعلموا ما سمعوه وقيل بل قالوا ذلك تحقيرا لقوله أي لم يقل شيئا فيه فائدة ويحتمل أيضا أن يكونوا سألوا رياء ونفاقا أي لم يذهب عني من قوله إلا هذا فما ذا قال أعده علي لأحفظه وإنما قال يستمع إليك ثم قال خرجوا من عندك لأن في الأول رد الضمير إلى لفظة من وفي الثاني إلى معناه فإنه موحد اللفظ مجموع المعنى ثم قال ﴿أولئك الذين طبع الله على قلوبهم﴾ أي وسم قلوبهم بسمة الكفار أو خلى بينهم وبين اختيارهم ﴿واتبعوا أهواءهم﴾ أي شهوات نفوسهم وما مالت إليه طباعهم دون ما قامت عليه الحجة ثم وصف سبحانه المؤمنين فقال ﴿والذين اهتدوا﴾ بما سمعوا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿زادهم﴾ الله أو قراءة القرآن أو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿هدى﴾ وقيل زادهم استهزاء المنافقين إيمانا وعلما وبصيرة وتصديقا لنبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿وآتاهم تقواهم﴾ أي وفقهم للتقوى وقيل معناه وآتاهم ثواب تقواهم عن سعيد بن جبير وأبي علي الجبائي وقيل بين لهم ما يتقون وهو ترك الرخص والأخذ بالعزائم ﴿فهل ينظرون إلا الساعة﴾ أي فليس ينتظرون إلا القيامة ﴿أن تأتيهم بغتة﴾ أي فجاة فقوله ﴿أن تأتيهم﴾ بدل من الساعة وتقديره إلا الساعة إتيانها بغتة والمعنى إلا إتيان الساعة إياهم بغتة ﴿فقد جاء أشراطها﴾ أي علاماتها قال ابن عباس معالمها والنبي من أشراطها ولقد قال بعثت أنا والساعة كهاتين وقيل هي إعلامها من انشقاق القمر والدخان وخروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزول آخر الكتب عن مقاتل ﴿فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم﴾ أي فمن أين لهم الذكر والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم الساعة وموضع ذكراهم رفع مثله في قوله ﴿يوم يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى﴾ أي ليس تنفعه الذكرى والذكرى ما أمر الله سبحانه أن يتذكروا به ومعناه وكيف لهم بالنجاة إذا جاءتهم الساعة فإنه لا ينفعهم في ذلك الوقت الإيمان والطاعات لزوال التكليف عنهم ثم قال لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد به جميع المكلفين ﴿فاعلم أنه لا إله إلا الله﴾ قال الزجاج يجوز أن يكون المعنى أقم على هذا العلم واثبت عليه وأعلم في مستقبل عمرك ما تعلمه الآن ويدل عليه ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة أورده مسلم في الصحيح وقيل أنه يتعلق بما قبله على معنى إذا جاءتهم الساعة فاعلم أنه لا إله إلا الله أي يبطل الملك عند ذلك فلا ملك ولا حكم لأحد إلا الله وقيل إن هذا إخبار بموته (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد فاعلم أن الحي الذي لا يموت هو الله وحده وقيل أنه كان ضيق الصدر من أذى قومه فقيل له فاعلم أنه لا كاشف لذلك إلا الله ﴿واستغفر لذنبك﴾ الخطاب له والمراد به الأمة وإنما خوطب بذلك لتستن أمته بسنته وقيل إن المراد بذلك الانقطاع إلى الله تعالى فإن الاستغفار عبادة يستحق به الثواب وقد صح الحديث بالإسناد عن حذيفة بن اليمان قال كنت رجلا ذرب اللسان على أهلي فقلت يا رسول الله إني لأخشى أن يدخلني لساني في النار فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأين أنت من الاستغفار إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة ﴿وللمؤمنين والمؤمنات﴾ أكرمهم الله سبحانه بهذا إذ أمر نبيهم أن يستغفر لذنوبهم وهو الشفيع المجاب فيهم ثم أخبر سبحانه عن علمه وأحوال الخلق ومآلهم فقال ﴿والله يعلم متقلبكم ومثواكم﴾ أي متصرفكم في أعمالكم في الدنيا ومصيركم في الآخرة إلى الجنة أو إلى النار عن ابن عباس وقيل يعلم متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ومثواكم أي مقامكم في الأرض عن عكرمة وقيل متقلبكم من ظهر إلى بطن ومثواكم في القبور عن ابن كيسان وقيل يعلم متقلبكم متصرفكم في النهار ومثواكم مضجعكم بالليل والمعنى أنه عالم بجميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها ثم قال سبحانه حكاية عن المؤمنين ﴿ويقول الذين آمنوا لو لا نزلت سورة﴾ أي هلا نزلت لأنهم كانوا يأنسون بنزول القرآن ويستوحشون لإبطائه ليعلموا أوامر الله تعالى فيهم وتعبده لهم ﴿فإذا أنزلت سورة محكمة﴾ ليس فيها متشابه ولا تأويل وقيل سورة ناسخة لما قبلها من إباحة التخفيف في الجهاد قال قتادة كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة وهي أشد القرآن على المنافقين قيل محكمة بوضوح ألفاظها وعلى هذا فالقرآن كله محكم وقيل هي التي تتضمن نصا لم يختلف تأويله ولم يتعقبه نص وفي قراءة ابن مسعود سورة محدثة أي مجددة ﴿وذكر فيها القتال﴾ أي وأوجب عليهم في القتال وأمروا به ﴿رأيت﴾ يا محمد ﴿الذين في قلوبهم مرض﴾ أي شك ونفاق ﴿ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت﴾ قال الزجاج يريد أنهم يشخصون نحوك بأبصارهم وينظرون إليك نظرا شديدا كما ينظر الشاخص ببصره عند الموت لثقل ذلك عليهم وعظمه في نفوسهم ﴿فأولى لهم﴾ هذا تهديد ووعيد قال الأصمعي معنى قولهم في التهديد أولى لك وليك وقارنك ما تكره وقال قتادة معناه العقاب لهم والوعيد لهم وعلى هذا يكون أولى اسما للتهديد والوعيد ويكون أولى لهم مبتدأ وخبرا ولا ينصرف أولى لأنه على وزن الفعل وصار اسما للوعيد وقول الأصمعي أن معناه وليك ما تكره لا يريد به أن أولى فعل وإنما فسره على المعنى وقيل معناه أولى لهم طاعة الله ورسوله وقول معروف بالإجابة أي لو أطاعوا فأجابوا كانت الطاعة والإجابة أولى لهم وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء واختيار الكسائي فيكون على هذا طاعة وقول معروف متصلا بما قبله وكذلك لو كانت صفة لسورة وتقديره فإذا أنزلت سورة ذات طاعة وقول معروف على ما قاله الزجاج وعلى القول الأول يكون طاعة مبتدأ محذوف الخبر تقديره طاعة وقول معروف أمثل أو أحسن أو يكون خبر مبتدإ محذوف تقديره أمرنا طاعة ويكون الوقف حسنا عند قوله ﴿فأولى لهم﴾.