الآيات 31-40

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ﴿31﴾ حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ﴿32﴾ وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ﴿33﴾ وَكَأْسًا دِهَاقًا ﴿34﴾ لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا ﴿35﴾ جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا ﴿36﴾ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا ﴿37﴾ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ﴿38﴾ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا ﴿39﴾ إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ﴿40﴾

القراءة:

قرأ الكسائي ولا كذابا بتخفيف الذال والباقون بالتشديد وقرأ أهل الحجاز وأبو عمرو رب السماوات بالرفع والباقون بالجر وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب وسهل الرحمن بالجر والباقون بالرفع.

الحجة:

ولا كذابا يجوز أن يكون مصدر كذب فيكون معناه ولا كذبا ويجوز أن يكون مصدر كاذبة مكاذبة وكذابا وبالتشديد قد يكون مصدر كذب قال الفراء قال أعرابي في طريق مكة يا با زكريا القصار أحب إليك أم الحلق يريد أقصر شعري أم أحلق ومن قرأ رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن قطع الاسم الأول من الجر الذي قبله في قوله ﴿جزاء من ربك﴾ فابتدأه وجعل الرحمن خبره ثم استأنف ﴿لا يملكون منه﴾ ومن قرأ ﴿رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن﴾ أتبع الاسمين الجر الذي قبلهما في قوله ﴿من ربك﴾ ومن قرأ ﴿رب السماوات﴾ الرحمن أتبع رب السماوات الجر الذي في قوله ﴿من ربك﴾ واستأنف بقوله الرحمن وجعل قوله ﴿لا يملكون﴾ خبر قوله ﴿الرحمن﴾.

اللغة:

الحديقة الجنة المحوطة والجمع حدائق ومنه أحدق القوم بفلان إذا طافوا به ومنه الحدقة لأنه يحيط بها جفنها والأعناب جمع عنب وهو ثمر الكرم قبل أن يجف فإذا جف فهو الزبيب والكواعب جمع الكاعب وهي الجارية التي نهد ثدياها والأتراب جمع الترب وهي اللدة التي تنشأ مع لدتها على سن الصبي الذي يلعب بالتراب والدهاق الكأس الممتلئة التي لا مزيد فيها وأصل الدهق شدة الضغط أدهقت الكأس ملأتها قال يلذه بكأسه الدهاق و﴿عطاء حسابا﴾ أي كثيرا كافيا يقال أحسبت فلانا أي أعطيته ما يكفيه حتى قال حسبي قال:

ونقفي وليد الحي إن كان جائعا

ونحسبه إن كان ليس بجائع

قال الأصمعي يقال حسبت الرجل بالتشديد أي أكرمته وأنشد:

إذا أتاه ضيفه يحسبه

من حاقن أو من صريح يحلبه

الإعراب:

حدائق بدل من قوله ﴿مفازا﴾ بدل البعض من الكل وكذلك ما بعده وأترابا صفة لكواعب.

جزاء منصوب بمعنى أن للمتقين مفازا أي جازاهم بذلك جزاء وأعطاهم عطاء فإن معنى جازاهم وأعطاهم واحد يوم يقوم الروح ظرف لقوله ﴿لا يملكون﴾ وقوله ﴿صفا﴾ منصوب على الحال ﴿ويوم ينظر﴾ ظرف لقوله ﴿عذابا﴾ لأنه بمعنى التعذيب.

المعنى:

ثم عقب سبحانه وعيد الكفار بالوعد للمتقين الأبرار فقال ﴿إن للمتقين﴾ الذين يتقون الله باجتناب الشرك والمعاصي ﴿مفازا﴾ أي فوزا ونجاة إلى حال السلامة والسرور وقيل المفاز موضع الفوز وقالوا للمهلكة مفازة على طريق التفاؤل كأنهم قالوا وقيل مفازا منجى إلى متنزه وهو النجاة من النار إلى الجنة ثم بين ذلك الفوز فقال ﴿حدائق وأعنابا﴾ يعني أشجار الجنة وثمارها ﴿وكواعب أترابا﴾ أي جواري تكعب ثديهن مستويات في السن عن قتادة ومعناه استواء الخلقة والقامة والصورة والسن حتى يكن متشاكلات وقيل أترابا على مقدار أزواجهن في الحسن والصورة والسن عن أبي علي الجبائي ﴿وكأسا دهاقا﴾ أي مترعة مملوءة عن ابن عباس والحسن وقتادة وقيل متتابعة على شاربيها أخذ من متابعة الشد في الدهق عن مجاهد وسعيد بن جبير وقيل دمادم عن أبي هريرة وقيل على قدر ريهم عن مقاتل ﴿لا يسمعون فيها﴾ أي في الجنة ﴿لغوا﴾ أي كلاما لغوا لا فائدة فيه ﴿ولا كذابا﴾ ولا تكذيب بعضهم لبعض ومن قرأ بالتخفيف يريد ولا مكاذبة عن أبي عبيدة وقيل كذبا عن أبي علي الفارسي ﴿جزاء من ربك﴾ أي فعل بالمتقين ما فعل بهم جزاء من ربك على تصديقهم بالله ونبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿عطاء﴾ أي أعطاهم الله عطاء ﴿حسابا﴾ أي كافيا عن أبي عبيدة والجبائي وقيل حسابا أي كثيرا وقيل حسابا على قدر الاستحقاق وبحسب العمل قال الزجاج معناه ما يكفيهم أي إن فيه ما يشتهون ﴿رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن﴾ مر ذكره والمعنى أن الذي يفعل بالمؤمنين ما تقدم ذكره هو رب السماوات والأرض ومدبرهما ومدبر ما بينهما والمتصرف فيهما على ما يشاء الرحمن المنعم على خلقه مؤمنهم وكافرهم ﴿لا يملكون منه خطابا﴾ أي لا يملكون أن يسألوه إلا فيما أذن لهم فيه كقوله ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وقوله لا تكلم نفس إلا بإذنه والخطاب توجيه الكلام إلى مدرك له بصيغة منبئة عن المراد على طريقة أنت وربك قال مقاتل لا يقدر الخلق على أن يكلموا الرب إلا بإذنه ﴿يوم يقوم الروح والملائكة صفا﴾ أي في ذلك اليوم اختلف في معنى الروح هنا على أقوال (أحدها) أن الروح خلق من خلق الله تعالى على صورة بني آدم وليسوا بناس وليسوا بملائكة يقومون صفا والملائكة صفا هؤلاء جند وهؤلاء جند عن مجاهد وقتادة وأبي صالح قال الشعبي هما سماطا رب العالمين يوم القيامة سماط من الروح وسماط من الملائكة (وثانيها) أن الروح ملك من الملائكة ما خلق الله مخلوقا أعظم منه فإذا كان يوم القيامة قام وهو وحده صفا وقامت الملائكة كلهم صفا واحدا فيكون عظم خلقه مثل صفهم عن ابن مسعود وعن عطاء عن ابن عباس (وثالثها) أن أرواح الناس تقوم مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن ترد الأرواح إلى الأجساد عن عطية عن ابن عباس (ورابعها) أنه جبريل (عليه السلام) عن الضحاك وقال وهب إن جبرائيل (عليه السلام) واقف بين يدي الله عز وجل ترتعد فرائصه يخلق الله عز وجل من كل رعدة مائة ألف ملك فالملائكة صفوف بين يدي الله تعالى منكسو رءوسهم فإذا أذن الله لهم في الكلام قالوا لا إله إلا أنت وقال صوابا أي لا إله إلا الله وروى علي بن إبراهيم بإسناده عن الصادق (عليه السلام) قال هو ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل (وخامسها) أن الروح بنو آدم عن الحسن وقوله ﴿صفا﴾ معناه مصطفين ﴿لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن﴾ وهم المؤمنون والملائكة ﴿وقال﴾ في الدنيا ﴿صوابا﴾ أي شهد بالتوحيد وقال لا إله إلا الله وقيل إن الكلام هاهنا الشفاعة أي لا يشفعون إلا لمن أذن له الرحمن أن يشفع عن الحسن والكلبي وروى معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سئل عن هذه الآية فقال نحن والله المأذون لهم يوم القيامة والقائلون قال جعلت فداك ما تقولون قال نمجد ربنا ونصلي على نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) ونشفع لشيعتنا فلا يردنا ربنا رواه العياشي مرفوعا ﴿ذلك اليوم الحق﴾ الذي لا شك في كونه وحصوله يعني القيامة ﴿فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا﴾ أي مرجعا للطاعة والمعنى فمن شاء عمل عملا صالحا يؤوب إلى ربه فقد أزيحت العلل وأوضحت السبل وبلغت الرسل والمآب مفعل من الأوب وهو الرجوع قال عبيد:

وكل ذي غيبة يؤوب

وغائب الموت لا يؤوب

ثم خوف سبحانه كفار مكة فقال ﴿إنا أنذرناكم عذابا قريبا﴾ يعني العذاب في الآخرة فإن كل ما هو آت قريب ﴿يوم ينظر المرء ما قدمت يداه﴾ أي ينتظر جزاء ما قدمه فإن قدم الطاعة انتظر الثواب وإن قدم المعصية انتظر العقاب وقيل معناه أن كل أحد ينظر إلى عمله في ذلك اليوم من خير وشر مثبتا عليه في صحيفته فيرجو ثواب الله على صالح عمله ويخاف العقاب على سوء عمله ﴿ويقول الكافر﴾ في ذلك اليوم ﴿يا ليتني كنت ترابا﴾ أي ليتمنى أن لو كان ترابا لا يعاد ولا يحاسب ليتخلص من عقاب ذلك اليوم قال الزجاج إن معنى ﴿يا ليتني كنت ترابا﴾ يا ليتني لم أبعث قال عبد الله بن عمر إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وحشر الدواب والبهائم والوحوش ثم يجعل القصاص بين الدواب حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء التي نطحتها وقال مجاهد يقاد يوم القيامة للمنطوحة من الناطحة وقال المقاتلان إن الله يجمع الوحوش والهوام والطير وكل شيء غير الثقلين فيقول من ربكم فيقولون الرحمن الرحيم فيقول لهم الرب بعد ما يقضي بينهم حتى يقتص للجماء من القرناء إنا خلقناكم وسخرناكم لبني آدم وكنتم مطيعين أيام حياتكم فارجعوا إلى الذي كنتم كونوا ترابا فتكون ترابا فإذا التفت الكافر إلى شيء صار ترابا يتمنى فيقول يا ليتني كنت في الدنيا على صورة خنزير رزقي كرزقه وكنت اليوم أي في الآخرة ترابا وقيل إن المراد بالكافر هنا إبليس عاب آدم بأن خلق من تراب وافتخر بالنار فيوم القيامة إذا رأى كرامة آدم وولده المؤمنين قال يا ليتني كنت ترابا.