الآيات 1 - 5
﴿تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَب وَتَبَّ (1) مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارَاً ذَاتَ لَهَب (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَد (5)﴾
سبب النّزول:
عن ابن عباس قال: عندما نزلت (وانذر عشيرتك الأقربين) أمر النّبي (ص) أن ينذر عشيرته ويدعوهم إلى الإسلام (أي أن يعلن دعوته).
صعد النّبي (ص) على جبل الصفا ونادى: "يا صباحاه"! (وهو نداء يطلقه العرب حين يهاجمون بغتة كي يتأهبوا للمواجهة، وإنّما اختاروا هذه الكلمة لأنّ الهجوم المباغت كان يحدث في أوّل الصبح غالباً).
عندما سمع أهل مكّة هذا النداء قالوا: من المنادي؟ قيل: محمّد.
فاقبلوا نحوه، وبدأ ينادي قبائل العرب باسمائها، ثمّ قال لهم: أرأيتم لو أخبرتكم أن العدوّ مصبحكم أو ممسيكم، أما كنتم تصدقوني.
قالوا: بلى.
قال: فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
فقال أبولهب: تبّاً لك.
لهذا دعوتنا جميعاً؟!
فأنزل الله هذه السّورة.
وقيل: إن امرأة أبي لهب ( واسمها أم جميل) علمت أن هذه السّورة نزلت فيها وفي زوجها.
جاءت إلى النبيّ (ص) والنّبي لا يراها، حملت حجراً وقالت: سمعت أن محمّداً هجاني، قسماً لو وجدته لألقمن فمه هذا الحجر.
أنا شاعرة أيضاً.
ثمّ أنشدت اشعاراً في ذم النّبي والإسلام (1).
خطر أبي لهب وامرأته على الإسلام لم يكن منحصراً فيما ذكرناه.
وإذ نرى القرآن يحمل عليهما بشدّة ويذمهما بصراحة، فلأسباب أُخرى، سنشير إليها فيما بعد.
التّفسير:
(تبت يدا أبي لهب)
هذه السّورة - كما ذكرنا في سبب نزولها - ترد على بذاءات أبي لهب عم النّبي (ص) وابن عبد المطلب.
وكان من ألد أعداء الإسلام، وحين صدح النّبي بدعوته واعلنها على قريش وأنذرهم بالعذاب الإلهي قال:"تباً لك ألهذا دعوتنا جميعاً"؟!
والقرآن يرد على هذا الإنسان البذيء ويقول له: (تبت يدا أبي لهب وتب).
"التّب" و"التاب" يعني الخسران المستمر كما يقول الراغب في مفرداته أو هو الخسران المنتهي بالهلاك كما يقول الطبرسي في مجمع البيان.
وبعض اللغويين قال إنّه القطع والبتر.
وهذا المعنى الأخير هو النتيجة الطبيعية للخسران المستمر المنتهي بالهلاك.
الهلاك والخسران في الآية يمكن أن يكون دنيوياً، ويمكن أن يكون معنوياً أخروياً، أو كليهما.
وهنا يثار تساؤل بشأن سبب ذم هذا الشخص باسمه - وهو خلاف نهج القرآن - وبهذه الشدّة.
يتّضح ذلك لو عرفنا مواقف أبي لهب من الدعوة.
اسمه "عبد العزى" وكنيته "أبو لهب" وقيل إنّه كني بذلك لحمرة كانت في وجهه.
وامرأته"أم جميل" اُخت أبي سفيان، وكانت من أشدّ النّاس عداوة وأقذعهم لساناً تجاه النّبي (ص) ودعوته.
وفي الرّواية عن "طارق المحاربي" قال: بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا بشاب يقول: "يا أيّها النّاس قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا".
وإذا برجل خلفه يرميه قد أرمى ساقيه وعرقوبيه ويقول: يا أيّها النّاس إنّه كذاب فلا تصدقوه.
فقلت: من هذا؟ فقالوا هو محمّد يزعم أنهّ نبيّ.
وهذا عمّه أبولهب يزعم أنّه كذاب (2).
وفي رواية عن " ربيعة بن عباد" قال: كنت مع أبي أنظر إلى رسول الله (ص) يتبع القبائل، ووراءه رجل أحول وضيء الوجه.
يقف رسول الله (ص) على القبيلة فيقول:"يا بني فلان.
إنّي رسول الله إليكم.
آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به".
وإذا فرغ من مقالته قال: الآخر من خلفه: يا بني فلان.
هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تسمعوا له، ولا تتبعوه.
فقلت لأبي: من هذا؟ قال: عمّه أبولهب. (3)
وفي رواية أُخرى: وكان من عظيم خطر أبي لهب ضد الدعوة الإسلامية أنّه كلما جاء وفد إلى النّبي (ص) يسألون عنه عمّه أبالهب - اعتباراً بكبره وقرابته وأهميته - كان يقول لهم: إنّه ساحر، فيرجعون ولا يلقونه، فأتاه وفد فقالوا: لا ننصرف حتى نراه، فقال: إنا لم نزل نعالجه من الجنون فتباً له وتعساً (4).
من هذه الرّوايات نفهم بوضوح أن أبالهب كان يتتبع النّبي (ص) غالباً كالظلّ.
وما كان يرى سبيلا لإيذائه إلاّ سلكه.
وكان يقذعه بأفظع الألفاظ.
ومن هنا كان أشدّ أعداء الرسول والرسالة.
ولذلك جاءت هذه السّورة لتردّ على أبي لهب وامرأته بصراحة وقوّة (5).
إنّه الوحيد الذي لم يوقع على ميثاق حماية بني هاشم للرسول (ص)، ووقف في صف الأعداء، واشترك في عهودهم.
من كلّ ما سبق نفهم الوضع ّلإستثنائي لهذه السّورة. (ما أغنى عنه ماله وما كسب)، فليس با مكان أمواله أن تدرأ عنه العذاب الالهي (سيصلى ناراً ذات لهب).
من الآية الأولى نفهم أنّه كان ثرياً ينفق أمواله في محاربة النّبي (ص).
وأبولهب ناره ذات لهب يصلاها يوم القيامة.
وقيل: يصلاها في الدنيا قبل الآخرة.
و"لهب" جاءت بصيغة النكرة لتدل على عظمة لهب تلك النّار.
لا أبا لهب ولا أي واحد من الكافرين والمنحرفين تغنيه أمواله ومكانته الإجتماعية من عذاب الله، كما يقول سبحانه: (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم). (6)
بل لم تغنه في الدنيا من سوء المصير.
حيث جاء في الرّواية، أنّ أبالهب لم يشترك في بدر، بل ارسل من ينوب عنه.
وبعد اندحار المشركين وعودتهم إلى مكّة، هرع أبولهب ليسأل أبا سفيان عن الخبر.
فأخبره أبوسفيان بالهزيمة وقال:
"وايم الله ما لُمت النّاس.
لقينا رجالا بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض..." قال أبو رافع (مولى العباس) وقد كان جالساً: تلك الملائكة.
فرفع أبولهب يده فضرب وجهه ضربة شديدة، ثمّ حمله وضرب به الأرض، ثمّ برك عليه يضربه وكان رجلا ضعيفاً.
وما أن شهدت أم الفضل ( زوجة العباس)، وكانت جالسة أيضاً، ذلك حتى أخذت عموداً وضربت أبالهب على رأسه وقالت: تستضعفه إن غاب عنه سيّده؟!
فقام مولياً ذليلا.
قال أبو رافع: فوالله ما عاش إلاّ سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة (مرض يشبه الطاعون) فمات.
وقد تركه أبناه ليلتين أو ثلاثة ما يدفنانه حتى انتن في بيته.
فلما عيّرهما النّاس بذلك أخذ وغُسل بالماء قذفا عليه من بعيد، ثمّ أخذوه فدفنوه بأعلى مكّة وقذفوا عليه الحجارة حتى واروه (7). (وامرأته حمالة الحطب (8)، في جيدها حبل من مسد).
الآيتان تتحدثان عن " أم جميل" امرأة أبي لهب، وأخت أبي سفيان، وعمّة معاوية.
وتصفانها بأنّها تحمل الحطب كثيراً، وفي رقبتها حبل من ليف النخيل.
ولماذا وصفها القرآن بأنّها حمالة الحطب؟
قيل: لأنّها كانت تأخذ الحطب المملوء بالشوك وتضعه على طريق رسول الله (ص) لتدمي قدماه.
وقيل: إنّه كناية عن النميمة.
وقيل: إنّه كناية عن شدّة البخل، فهي مع كثرة ثروتها أبت أن تساعد الفقراء وكانت شبيهة بحمال الحطب الفقير.
وقيل: إنّها في الآخرة تحمل أوزاراً ثقيلة على ظهرها.
وبين هذه المعاني، المعنى الأوّل أنسب، وإن كان الجمع بينها غير مستبعد أيضاً.
"الجيد" هو الرقبة، وجمعه أجياد.
وقال بعض اللغويين: الجيد والعنق والرقبة لها معنى واحد، مع تفاوت هو إن الجيد أعلى الصدر، والعنق القسم الخلفي من الرقبة، والرقبة لجميعها، وقد يسمّى الإنسان بها كقوله سبحانه: (فك رقبة) أي فك الإنسان وإطلاق سراحه (9).
"مسد" هو الحبل المفتول من الألياف.
وقيل: حبل يوضع على رقبتها في جهنّم، له خشونة الألياف وحرارة النّار وثقل الحديد.
وقيل: إنّ نساء الأشراف كن يرين شخصيتهنّ في وسائل الزينة وخاصّة القلادة الثمينة.
والله سبحانه يلقي في عنقها يوم القيامة حبل من ليف للإهانة.
أو إن التعبير أساساً للتحقير والإهانة.
وقيل: إنّ هذه العبارة تشير إلى أنّ أم جميل أقسمت أن تنفق ثمن قلادتها الثمينة على طريق معاداة الرسول (ص).
ولذلك تقرر لها هذا العذاب.
1- تفسير القرطبي، ج10، ص7324 (بتلخيص قليل) والرّواية بنفس المضمون ذكرها الطبرسي في مجمع البيان، وابن الأثير في الكامل، ج2، ص60 وفي الدر المنثور، وأبي الفتوح الرازي والفخر الرازي، وفي ظلال القرآن، في تفسير هذه السّورة.
2- مجمع البيان، ج10، ص559.
3- في ظلال القرآن، ج8، ص697.
4- تفسير الفرقان، ج30، ص503.
5- المصدر السابق.
6- الشعراء، الآيتان 88 - 89.
7- بحار الأنوار، ج19، ص227.
8- "امرأته" معطوف على ضمير مستتر في "سيصلى" و"حمالة" حال منصوب. وقيل إنّها منصوبة بالشتم، كما ذهب إلى ذلك الزمخشري في الكشاف، والتقدير: أذّم حمالة الحطب. والمعنى الأوّل أفضل.
9- التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج2 ،ص158.