الآيات 22-30
أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿22﴾ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ﴿23﴾ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴿24﴾ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿25﴾ قُلْ إِنَّمَا مُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿26﴾ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ ﴿27﴾ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿28﴾ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿29﴾ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ ﴿30﴾
القراءة:
قرأ يعقوب تدعون ساكنة الدال خفيفة وهو قراءة الحسن والضحاك وقتادة والباقون ﴿تدعون﴾ بالتشديد وقرأ الكسائي فسيعلمون بالياء والباقون بالتاء.
الحجة:
أما قوله تدعون فالمعنى هذا الذي كنتم به تدعون الله كقوله تعالى ﴿سأل سائل بعذاب واقع﴾ وأما ﴿تدعون﴾ بالتشديد فمعناه تتداعون بوقوعه قال ابن جنييعني كان الدعوة بوقوعه فاشية بينكم كقوله تعالى في معنى العموم ﴿ولا تنابزوا بالألقاب﴾ أي لا يفش هذا فيكم وليس معنى تدعون هنا من ادعاء الحقوق وإنما بمعنى تتداعون من الدعاء لا من الدعوى كما في قول الشاعر:
فما برحت خيل تثوب وتدعي
يعني تتداعى بينهما يا لفلان.
اللغة:
يقال كببته فأكب وهو نادر مثل قشعت الريح السحاب فاقشعت ونزفت البئر فأنزفت أي ذهب ماؤها ونسلت ريش الطائر فأنسل والزلفة القربة وهو مصدر يستوي فيه الواحد والجمع ومنه المزدلفة لقربه من مكة وقد تجمع الزلفة زلفا قال العجاج:
ناج طواه الأين مما وجفا
طي الليالي زلفا فزلفا
وساءه الأمر يسوؤه سوءا أي غمه وحزنه ومنه أساء يسيء إذا فعل ما يؤدي إلى الغم وماء غور أي غائر وصف بالمصدر مبالغة كما يقال هؤلاء زور فلان وضيفه والمعين قيل أنه مفعول مأخوذ من العين فعلى هذا يكون مثل مبيع من البيع وقيل أنه من الإمعان في الجري فعلى هذا يكون على وزن فعيل فكأنه قيل ممعن في الإسراع والظهور.
الإعراب:
قليلا صفة مصدر محذوف أي تشكرون شكرا قليلا وما مزيدة ﴿فستعلمون من هو في ضلال مبين﴾ يحتمل أن يكون من استفهاما فيكون اسما موصولا قال أبو علي دخلت الفاء في قوله ﴿فمن يجير﴾ وقوله ﴿فمن يأتيكم﴾ لأن أ رأيتم بمعنى انتبهوا أي انتبهوا فمن يجير وانتبهوا فمن يأتيكم كما تقول قم فزيد قائم قال ولا يكون الفاء جواب الشرط وإنما يكون جواب الشرط مدلول ﴿أرأيتم﴾ قال وإن شئت كان الفاء زائدة مثلها في قوله ﴿فلا تحسبنهم﴾ ويكون الاستفهام سادا مسدة مفعولي أ رأيتم كقولهم أ رأيت زيدا ما فعل وهذا من دقائقه.
المعنى:
ثم ضرب سبحانه مثلا للكافر والمؤمن فقال ﴿أفمن يمشي مكبا على وجهه﴾ أي منكسا رأسه إلى الأرض فهو لا يبصر الطريق ولا من يستقبله ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله وهو الكافر المقلد لا يدري أ محق هو أم مبطل هذا ﴿أهدى أم من يمشي سويا﴾ أي مستويا قائما يبصر الطريق وجميع جهاته كلها فيضع قدمه حيث لا يعثر وهو المؤمن الذي سلك طريق الحق وعرفه واستقام عليه وأمكنه دفع المضار عن نفسه وجلب المنافع إليها ﴿على صراط مستقيم﴾ أي على طريق واضح قيم وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وقيل أن هذا في الآخرة يحشر الله الكافر مكبا على وجهه يوم القيامة كما قال ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عن قتادة ﴿قل﴾ يا محمد لهؤلاء الكفار ﴿هو الذي أنشأكم﴾ بأن أخرجكم من العدم إلى الوجود ﴿وجعل لكم السمع﴾ تسمعون به المسموعات ﴿والأبصار﴾ تبصرون بها المبصرات ﴿والأفئدة﴾ يعني القلوب تعقلون بها وتتدبرون فأعطاكم آلات التفكر والتمييز والوصول إلى العلم ﴿قليلا ما تشكرون﴾ أي تشكرون قليلا وقيل معناه قليلا شكركم فتكون ما مصدرية ﴿قل﴾ لهم يا محمد ﴿هو﴾ الله تعالى ﴿الذي ذرأكم﴾ أي خلقكم ﴿في الأرض وإليه تحشرون﴾ منها أي تبعثون إليه يوم القيامة فيجازيكم على أعمالكم ثم حكى سبحانه ما كان يقوله الكفار مستبطئين عذاب الله مستهزئين بذلك فقال ﴿ويقولون متى هذا الوعد﴾ من الخسف والحاصب أو البعث والجزاء ﴿إن كنتم صادقين﴾ في أن ذلك يكون ﴿قل﴾ يا محمد ﴿إنما العلم عند الله﴾ يعني علم الساعة ﴿وإنما أنا نذير﴾ مخوف لكم به ﴿مبين﴾ أي مبين لكم ما أنزل الله إلى من الوعد والوعيد والأحكام ثم ذكر سبحانه حالهم عند نزول العذاب ومعاينته فقال ﴿فلما رأوه زلفة﴾ أي فلما رأوا العذاب قريبا يعني يوم بدر عن مجاهد وقيل معاينة عن الحسن وقيل أن اللفظ ماض والمراد به المستقبل والمعنى إذا بعثوا ورأوا القيامة قد قامت ورأوا ما أعد لهم من العذاب وهذا قول أكثر المفسرين ﴿سيئت وجوه الذين كفروا﴾ أي اسودت وجوههم وعلتها الكآبة يعني قبحت وجوههم بالسواد وقيل معناه ظهرت على وجوههم آثار الغم والحسرة ونالهم السوء والخزي ﴿وقيل﴾ لهؤلاء الكفار إذا شاهدوا العذاب ﴿هذا الذي كنتم به تدعون﴾ قال الفراء تدعون وتدعون واحد مثل تدخرون وتدخرون والمعنى كنتم به تستعجلون وتدعون الله بتعجيله وهو قولهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية عن ابن زيد وقيل هو تدعون من الدعوى أي تدعون أن لا جنة ولا نار عن الحسن وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بالأسانيد الصحيحة عن الأعمش قال لما رأوا لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) عند الله من الزلفى سيئت وجوه الذين كفروا وعن أبي جعفر (عليه السلام) فلما رأوا مكان علي (عليه السلام) من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سيئت وجوه الذين كفروا يعني الذين كذبوا بفضله ﴿قل﴾ لهؤلاء الكفار ﴿أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي﴾ بأن يميتنا ﴿أو رحمنا﴾ بتأخير آجالنا ﴿فمن يجير الكافرين من عذاب أليم﴾ استحقوه بكفرهم وما الذي ينفعهم في دفع العذاب عنهم وقيل أن الكفار كانوا يتمنون موت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وموت أصحابه فقيل له قل لهم إن أهلكني الله ومن معي ذلك بأن يميتني ويميت أصحابي فمن الذي ينفعكم ويؤمنكم من العذاب فإنه واقع بكم لا محالة وقيل معناه أرأيتم أن عذبني الله ومن معي أو رحمنا أي غفر لنا فمن يجيركم أي نحن مع إيماننا بين الخوف والرجاء فمن يجيركم مع كفركم من العذاب ولا رجاء لكم كما للمؤمنين عن ابن عباس وابن كيسان ثم قال ﴿قل﴾ لهؤلاء الكفار على وجه التوبيخ لهم ﴿هو الرحمن﴾ أي إن الذي أدعوكم إليه هو الرحمن الذي عمت نعمته جميع الخلائق ﴿آمنا به وعليه توكلنا﴾ أي عليه اعتمدنا وجميع أمورنا إليه فوضنا ﴿فستعلمون﴾ معاشر الكفار يوم القيامة ﴿من هو في ضلال مبين﴾ اليوم أنحن أم أنتم ومن قرأ بالياء فمعناه فسيعلم الكفار ذلك ﴿قل أرأيتم أن أصبح ماؤكم غورا﴾ أي غائرا ناضبا في الآبار والعيون ﴿فمن يأتيكم بماء معين﴾ أي ظاهر للعيون عن أبي مسلم والجبائي وقيل بماء جار عن ابن عباس وقتادة أراد سبحانه أنه المنعم بالأرزاق فاشكروه واعبدوه ولا تشركوا به شيئا وذكر مقاتل أنه أراد بقوله ﴿ماؤكم﴾ بئر زمزم وبئر ميمون وهي بئر عادية قديمة وكان ماؤهم من هاتين البئرين والمعين الذي تناله الدلاء وتراه العيون.