الآيات 1-17

وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ﴿1﴾ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ﴿2﴾ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴿3﴾ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ ﴿4﴾ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿5﴾ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿6﴾ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ﴿7﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ﴿8﴾ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ﴿9﴾ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿10﴾ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴿11﴾ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ﴿12﴾ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴿13﴾ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿14﴾ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ﴿15﴾ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ﴿16﴾ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴿17﴾

القراءة:

قرأ أهل الكوفة غير عاصم إلا يحيى ران بكسر الراء والباقون بفتحها.

اللغة:

التطفيف نقص المكيال والميزان والطفيف الشيء النزر القليل مأخوذ من طف الشيء وهو جانبه وفي الحديث كلكم بنو آدم طف الصاع لم تملؤوه فليس لأحد فضل إلا بالتقوى وطف الصاع قريب من ملئه أي بعضكم قريب من بعض وإناء طفان إذا لم يكن ملآن والاكتيال الأخذ بالكيل ونظيره الاتزان وهو الأخذ بالوزن و﴿إذا كالوهم أو وزنوهم﴾ كان عيسى بن عمر يجعل هم فصلا في موضع رفع أو تأكيدا للضمير في كالوا أو وزنوا والباقون يجعلونها ضمير المنصوب وهو الصحيح وأهل الحجاز يقولون وزنتك حقك وكلتك طعامك وعليه جاء التنزيل وغيرهم يقول وزنت لك وكلت لك ويقال أخسرت الميزان وخسرته أي نقصت في الوزن والسجين فعيل من السجن قال ابن مقبل ضربا تواصي به الأبطال سجينا أي شديدا وقيل السجين هو السجن على التخليد فيه لأن هذا الوزن للمبالغة قالوا شريب وسكير وشرير والرقم طبع الخط بما فيه علامة الأمر يقال رقمت الثوب أرقمه رقما والرين أصله الغلبة ران على قلبه أي غلب عليه والخمر ترين على قلب السكران والموت يرين على الميت فيذب به وفي حديث عمر بن الخطاب أنه قال في أسيفع جهينة لما ركبه الدين أدان معرضا فأصبح قد رين به أي أحاط الدين بماله حتى غلبه.

الإعراب:

﴿يوم يقوم الناس﴾ منصوب بقوله ﴿مبعوثون﴾ أي ألا يظنون أنهم مبعوثون يوم القيامة وقيل في أصل كلا قولان (أحدهما) أنها كلمة واحدة من غير تركيب وضعت للردع والزجر وجرت مجرى الأصوات نحو صه ومه ونحوهما (والثاني) أن يكون الكاف للتشبيه دخلت على لا وشددت للمبالغة في الزجر مع الإيذان بتركيب اللفظ.

النزول:

قيل لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله عز وجل ﴿ويل للمطففين﴾ فأحسنوا الكيل بعد ذلك عن عكرمة عن ابن عباس وقيل إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قدم المدينة وبها رجل يقال له أبو جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فنزلت الآيات عن السدي.

المعنى:

﴿ويل للمطففين﴾ وهم الذين ينقصون المكيال والميزان ويبخسون الناس حقوقهم في الكيل والوزن قال الزجاج وإنما قيل له مطفف لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف ثم فسر المطففين فقال ﴿الذين إذا اكتالوا على الناس﴾ أي إذا كالوا ما على الناس ليأخذوه لأنفسهم ﴿يستوفون﴾ عليهم الكيل ولم يذكر اتزنوا لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فأحدهما يدل على الآخر ﴿وإذا كالوهم أو وزنوهم﴾ أي كالوا لهم أو وزنوا لهم ﴿يخسرون﴾ أي ينقصون والمعنى أنهم إذا كالوا أو وزنوا لغيرهم نقصوا تقول كلتك وكلت لك كما تقول نصحتك ونصحت لك ويروى عن ابن مسعود أنه قال الصلاة مكيال فمن وفى وفى الله له ومن طفف قد سمعتم ما قال الله في المطففين ثم عجب الله خلقه من غفلة هؤلاء حيث فارقوا أمر الله وطريقة العدل فقال ﴿ألا يظن﴾ أي ألا يعلم ﴿أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم﴾ وهو يوم القيامة يريد أ لا يستيقن من فعل هذا أنه مبعوث محاسب عن ابن عباس ثم أخبر عن ذلك اليوم فقال ﴿يوم يقوم الناس لرب العالمين﴾ والمعنى يوم يقوم الناس من قبورهم لأمر رب العالمين ولجزائه أو حسابه وجاء في الحديث أنهم يقومون في رشحهم إلى إنصاف آذانهم وفي حديث آخر يقومون حتى يبلغ الرشح إلى أطراف آذانهم ويحتمل أن يكون المراد أيضا ألا يحسب أولئك لأن من ظن الجزاء والبعث وقوي ذلك في نفسه وإن لم يكن عالما به فإنه يجب عليه أن يتحرز خوفا من العقاب الذي يجوزه ويظنه كما أن من ظن العطب في سلوك طريق فواجب عليه أن يتجنب سلوكه وفي الحديث عن سليم بن عامر عن المقداد بن الأسود قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون الشمس بقدر ميل أو ميلين قال سليم فلا أدري أمسافة الأرض أم الميل الذي تكحل به العين ثم قال صهرتهم الشمس فيكونون في العرق بقدر أعمالهم فمنهم من يأخذه إلى عقبه ومنهم من يلجمه إلجاما قال فرأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يشير بيده إلى فيه قال يلجمه إلجاما أورده مسلم في الصحيح وروي أن ابن عمر قرأ ﴿ويل للمطففين﴾ حتى بلغ ﴿يوم يقوم الناس لرب العالمين﴾ فبكى حتى خر وامتنع من القراءة ﴿كلا﴾ هو ردع وزجر أي ارتدعوا وانزجروا عن المعاصي فليس الأمر على ما أنتم عليه تم الكلام هاهنا وعند أبي حاتم وسهل كلا ابتداء يتصل بما بعده على معنى حقا ﴿إن كتاب الفجار لفي سجين﴾ يعني كتابهم الذي فيه ثبت أعمالهم من الفجور والمعاصي عن الحسن وقيل معناه أنه كتب في كتابهم أنهم يكونون في سجين وهي في الأرض السابعة السفلى عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وعن البراء بن عازب قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سجين أسفل سبع أرضين وقال شمر بن عطية جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال أخبرني عن قول الله تعالى ﴿إن كتاب الفجار لفي سجين﴾ قال إن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء فتأبى السماء أن تقبلها ثم يهبط بها إلى الأرض فتأبى الأرض أن تقبلها فتدخل سبع أرضين حتى ينتهي بها إلى سجين وهو موضع جند إبليس والمعنى في الآية أن كتاب عملهم يوضع هناك وقيل إن سجين جب في جهنم مفتوح والفلق جب في جهنم مغطى رواه أبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقيل السجين اسم لكتابهم وهو ظاهر التلاوة أي ما كتبه الله على الكفار بمعنى أوجبه عليهم من الجزاء في هذا الكتاب المسمى سجينا ويكون لفظه من السجن الذي هو الشدة عن أبي مسلم والذي يدل على أن العرب ما كانت تعرفه وهو قوله ﴿وما أدريك ما سجين﴾ أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك عن الزجاج ثم قال مفسرا لذلك ﴿كتاب مرقوم﴾ أي كتاب معلوم كتب فيه ما يسؤهم ويسخن أعينهم وقيل مرقوم معناه رقم لهم بشر كأنه أعلم بعلامة يعرف بها الكافر والوجه الصحيح أن قوله ﴿كتاب مرقوم﴾ ليس تفسيرا لسجين لأنه ليس السجين من الكتاب المرقوم في شيء وإنما هو تفسير للكتاب المذكور في قوله ﴿إن كتاب الفجار﴾ على تقدير وهو كتاب مرقوم أي مكتوب قد تبينت حروفه ﴿ويل يومئذ للمكذبين﴾ وهذا تهديد لمن كذب بالجزاء والبعث ولم يصدق وذكر صاحب النظم أن هذا منتظم بقوله ﴿يوم يقوم الناس﴾ وأن قوله ﴿كلا إن كتاب الفجار﴾ وما اتصل به اعتراض بينهما ثم فسر سبحانه المكذبين فقال ﴿الذين يكذبون بيوم الدين﴾ أي يوم الجزاء فإن من كذب بالباطل لا يتوجه إليه الوعيد بل هو ممدوح ثم قال ﴿وما يكذب به﴾ أي لا يكذب بيوم الجزاء ﴿إلا كل معتد﴾ أي متجاوز للحق إلى الباطل ﴿أثيم﴾ كثير الإثم مبالغ في ارتكابه ثم وصف المعتدي الأثيم بقوله ﴿إذا تتلى عليه آياتنا﴾ وهي القرآن ﴿قال أساطير الأولين﴾ أي أباطيل الأولين والتقدير قال هذا أساطير الأولين أي ما سطره الأولون وكتبوه مما لا أصل له ﴿كلا﴾ لا يؤمنون وقيل ليس الأمر على ما قالوه ثم استأنف فقال ﴿بل ران على قلوبهم﴾ أي غلب عليها ﴿ما كانوا يكسبون﴾ والمعنى غلب ذنوبهم على قلوبهم وقيل إن معنى الرين هو الذنب على الذنب حتى يموت القلب عن الحسن وقتادة وقال الفراء كثرت المعاصي منهم والذنوب وأحاطت بقلوبهم فذلك الرين عليها وعن عبد الله بن مسعود قال إن الرجل ليذنب الذنب فتنكت على قلبه نكتة سوداء ثم يذنب الذنب فتنكت نكتة أخرى حتى يصير قلبه على لون الشاة السوداء وروى العياشي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال ما من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنبا خرج في تلك النكتة نكتة سوداء فإذا تاب ذهب ذلك السواد وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا وهو قول الله تعالى ﴿كلا بل ران على قلوبهم﴾ الآية وقال أبو عبد الله (عليه السلام) يصدأ القلب فإذا ذكرته بآلاء الله انجلى عنه وقال أبو مسلم أن اعتيادهم الكفر وألفتهم له وغفلتهم صار غطاء على قلوبهم فلا يعقلون ما ينفعهم لأن ترك النظر في العواقب وكثرة المعاصي والانهماك في الفسق يقوي الدواعي في الإعراض عن التوبة والإيلاع بالذنوب فصار ذلك كالغالب على القلوب الرائن عليها وقال أبو القاسم البلخي وفي الآية دلالة على صحة ما يقوله أهل العدل في تفسير الطبع على القلوب والختم عليها والإضلال لأنه تعالى أخبر أن أعمالهم السيئة وما كانوا يكسبونه من القبيح ران على قلوبهم ﴿كلا﴾ يريد لا يصدقون عن ابن عباس ثم استأنف ﴿إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون﴾ يعني أن هؤلاء الذين وصفهم بالكفر والفجور محجوبون يوم القيامة عن رحمة ربهم وإحسانه وكرامته عن الحسن وقتادة وقيل ممنوعون من رحمته مدفوعون عن ثوابه غير مقبولين ولا مرضيين عن أبي مسلم وقيل محرومون عن ثوابه وكرامته عن علي (عليه السلام) ﴿ثم إنهم﴾ بعد أن منعوا من الثواب والكرامة ﴿لصالوا الجحيم﴾ أي لازموا الجحيم بكونهم فيها لا يغيبون عنها وقال أبو مسلم لصائرون صلاها أي وقودها ﴿ثم يقال﴾ لهم توبيخا وتبكيتا ﴿هذا الذي﴾ فعل بكم من العذاب والعقاب ﴿الذي كنتم به تكذبون﴾ في دار التكليف ويسمى مثل هذا الخطاب تقريعا لأنه خبر بما يقرع بشدة الغم على وجه الذم.