الآيات 91-100

مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿91﴾ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿92﴾ قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ﴿93﴾ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿94﴾ وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ﴿95﴾ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ﴿96﴾ وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ﴿97﴾ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ ﴿98﴾ حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ﴿99﴾ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿100﴾

القراءة:

قرأ أهل المدينة وأهل الكوفة غير حفص عالم الغيب بالرفع والباقون بالجر إلا أن رويسا إذا وصل جر وإذا ابتدأ رفع.

الحجة:

وجه الرفع أن يكون خبر مبتدإ محذوف وتقديره هو عالم الغيب ووجه الجر أن يكون صفة الله تعالى ويكون إضافة عالم حقيقية بمعنى اللام ويجوز أن يكون بدلا فتكون الإضافة غير حقيقية والغيب في تقدير النصب الأول يكون بمعنى الماضي والثاني بمعنى الحاضر ولا يكون بمعنى المستقبل.

اللغة:

الهمزة شدة الدفع ومنه الهمزة للحرف الذي يخرج من أقصى الحلق باعتماد شديد ودفع وهمزة الشيطان دفعه بالإغواء إلى المعاصي وقوس همزى شديدة الدفع للسهم والبرزخ الحاجز بين الشيئين وكل فصل بين شيئين برزخ ومعنى من ورائهم هنا من أمامهم وقدامهم قال الشاعر:

أ يرجو بنو مروان سمعي وطاعتي

وقومي تميم والفلاة ورائيا

الإعراب

قوله ﴿إذا لذهب كل إله بما خلق﴾ جواب لو مقدر والتقدير ولو كان معه إله إذا لذهب وإذا هنا حشو بين لو وجوابه فهي لغو غير عامل ﴿إما تريني﴾ إن للشرط ضمت إليها ما مسلطة والمعنى أنها سلطت نون التأكيد على دخولها الفعل المضارع ولو لم تكن هي لم يجز أن تريني وجواب الشرط ﴿فلا تجعلني﴾ ورب معترض بين الشرط والجزاء و﴿بالتي هي أحسن﴾ الموصولة والصلة في موضع جر بأنهما صفة محذوف مجرور التقدير ادفع بالخصلة التي هي أحسن و﴿رب ارجعوني﴾ جاء الخطاب على لفظ الجميع لأنه سبحانه يقول إنا نحن نزلنا الذكر وإنا نحن نحيي وهذا اللفظ يعرفه العرب للجليل الشأن يخبر به الجماعة فكذلك جاء الخطاب في ﴿ارجعوني﴾ وقال المازني أنه جمع الضمير ليدل على التكرار فكأنه قال رب أرجعني أرجعني أرجعني و﴿إلى يوم يبعثون﴾ إلى تتعلق بما يتعلق به من في قوله ﴿ومن ورائهم برزخ﴾ ويوم مضاف إلى ﴿يبعثون﴾ لأن أسماء الزمان تضاف إلى الأفعال.

المعنى:

ثم أكد سبحانه ما قدمه من أدلة التوحيد بقوله ﴿ما اتخذ الله من ولد﴾ أي لم يجعل ولد غيره ولد نفسه لاستحالة ذلك عليه فمن المحال أن يكون له ولد فلا يجوز عليه التشبيه بما هو مستحيل ممتنع إلا على النفي والتبعيد واتخاذ الولد هو أن يجعل الجاعل ولد غيره يقوم مقام ولده لو كان له وكذلك التبني إنما هو جعل الجاعل ابن غيره ومن يصح أن يكون ابنا له مقام ابنه ولذلك لا يقال تبنى شاب شيخا ولا تبني الإنسان بهيمة لما استحال أن يكون ذلك ولدا له ﴿وما كان معه من إله﴾ من هاهنا وفي قوله ﴿من ولد﴾ مؤكدة فهو آكد من أن يقول ما اتخذ الله ولدا وما كان معه إله نفى عن نفسه الولد والشريك على آكد الوجوه ﴿إذا لذهب كل إله بما خلق﴾ والتقدير إذ لو كان معه إله آخر لذهب كل إله بما خلق أي لميز كل إله خلقه عن خلق غيره ومنعه من الاستيلاء على ما خلقه أو نصب دليلا يميز به بين خلقه وخلق غيره فإنه كان لا يرضى أن يضاف خلقه وإنعامه إلى غيره ﴿ولعلا بعضهم على بعض﴾ أي ولطلب بعضهم قهر بعض ومغالبته وهذا معنى قول المفسرين ولقاتل بعضهم بعضا كما يفعل الملوك في الدنيا وقيل معناه ولمنع بعضهم بعضا عن مراده وهو مثل قوله لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وفي هذا دلالة عجيبة في التوحيد وهو أن كل واحد من الآلهة من حيث يكون إلها يكون قادرا لذاته فيؤدي إلى أن يكون قادرا على كل ما يقدر عليه غيره من الآلهة فيكون غالبا ومغلوبا من حيث إنه قادر لذاته وأيضا فإن من ضرورة كل قادرين صحة التمانع بينهما فلو صح وجود إلهين صح التمانع بينهما من حيث أنهما قادران وامتنع التمانع بينهما من حيث أنهما قادران للذات وهذا محال وفي هذا دلالة على إعجاز القرآن لأنه لا يوجد في كلام العرب كلمة وجيزة تضمنت ما تضمنته هذه فإنها قد تضمنت دليلين باهرين على وحدانية الله وكمال قدرته ثم نزه نفسه عما وصفوه به فقال ﴿سبحان الله عما يصفون﴾ أي عما يصفه به المشركون من اتخاذه الولد والشريك ﴿عالم الغيب والشهادة﴾ أي يعلم ما غاب وما حضر فلا يخفى عليه شيء ﴿فتعالى الله عما يشركون﴾ والمعنى أنه عالم بما كان وبما سيكون وبما لم يكن أن لو كان كيف يكون ومن كان بهذه الصفة لا يكون له شريك لأنه الأعلى من كل شيء في صفته ثم قال لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿قل﴾ يا محمد ﴿رب إما تريني ما يوعدون﴾ أي إن أريتني ما يوعدون من العذاب والنقمة يعني القتل يوم بدر ﴿رب فلا تجعلني في القوم الظالمين﴾ أي مع القوم الظالمين والمعنى فأخرجني من بينهم عند ما تريد إحلال العذاب بهم لئلا يصيبني ما يصيبهم وفي هذا دلالة على جواز أن يدعو الإنسان بما يعلم أن الله يفعله لا محالة لأن من المعلوم أن الله تعالى لا يعذب أنبياءه مع المعذبين ويكون الفائدة في ذلك إظهار الرغبة إلى الله ﴿و إنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون﴾ هذا ابتداء كلام من الله تعالى معناه إنا لا نعاجلهم بالعقوبة مع قدرتنا على ذلك ولكن ننظرهم ونمهلهم لمصلحة توجب ذلك قال الكلبي هذا أمر شهده أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد موته وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس وجابر بن عبد الله أنهما سمعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في حجة الوداع وهو بمنى لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض وأيم الله لئن فعلتموها لتعرفني في كتيبة يضاربونكم قال فغمز من خلف منكبه الأيسر فالتفت فقال أ وعلي فنزل ﴿قل رب أما تريني﴾ الآيات ثم أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر إلى أن ينقضي الأجل المضروب للعذاب فقال ﴿ادفع بالتي هي أحسن السيئة﴾ أي ادفع بالإغضاء والصفح إساءة المسيء عن مجاهد والحسن وهذا قبل الأمر بالقتال وقيل معناه ادفع باطلهم ببيان الحجج على ألطف الوجوه وأوضحها وأقربها إلى الإجابة والقبول ﴿نحن أعلم بما يصفون﴾ أي بما يكذبون ويقولون من الشرك والمعنى إنا نجازيهم بما يستحقونه ثم أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال ﴿قل﴾ يا محمد ﴿رب أعوذ بك﴾ أي أعتصم بك ﴿من همزات الشياطين﴾ أي من نزعاتهم ووساوسهم عن ابن عباس والحسن والمعنى من دعائهم إلى الباطل والعصيان ومن شرورهم في كل شيء يخاف فيه من ذلك ﴿وأعوذ بك رب إن يحضرون﴾ أي يشهدوني ويقاربوني ويصدوني عن طاعتك وقيل معناه أن يحضروني في الصلاة عند تلاوة القرآن وقيل في الأحوال كلها ثم عاد سبحانه إلى قوله أ إذا متنا وكنا ترابا وعظاما فقال ﴿حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون﴾ يعني أن هؤلاء الكفار إذا أشرفوا على الموت سألوا الله تعالى عند ذلك الرجعة إلى دار التكليف فيقول أحدهم رب أرجعون على لفظ الجمع وفي معناه قولان (أحدهما) أنهم استغاثوا أولا بالله ثم رجعوا إلى مسائلة الملائكة فقالوا لهم ارجعون أي ردوني إلى الدنيا عن ابن جرير (والآخر) أنه على عادة العرب في تعظيم المخاطب كما قال قرة عين لي ولك لا تقتلوه وروى النضر بن شميل قال سألوا الخليل عن هذا ففكر ثم قال سألتموني عن شيء لا أحسنه ولا أعرف معناه فاستحسن الناس منه ذلك ﴿لعلي أعمل صالحا فيما تركت﴾ أي في تركتي والمعنى أؤدي عنها حق الله تعالى وقيل معناه في دنياي فإنه ترك الدنيا وصار إلى الآخرة وقيل معناه أعمل صالحا فيما فرطت وضيعت أي في صلاتي وصيامي وطاعاتي وقال الصادق (عليه السلام) أنه في مانع الزكاة يسأل الرجعة عند الموت ثم قال سبحانه في الجواب عن سؤالهم ﴿كلا﴾ أي لا يرجع إلى الدنيا ﴿إنها﴾ أي مسألة الرجعة ﴿كلمة هو قائلها﴾ أي كلام يقوله ولا فائدة له في ذلك وقيل معناه وهي كلمة يقولها بلسانه وليس لها حقيقة مثل قوله ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وروى العياشي بإسناده عن الفتح بن يزيد الجرجاني قال قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) جعلت فداك يعرف القديم سبحانه الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون قال ويحك إن مسألتك لصعبة أما قرأت قوله عز وجل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ﴿و لعلا بعضهم على بعض﴾ لقد عرف الشيء الذي لم يكن ولا يكون إن لو كان كيف كان يكون وقال ويحكي قول الأشقياء ﴿رب ارجعوني لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها﴾ وقال ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون فقد علم الشيء الذي لم يكن لو كان كيف كان يكون وهو السميع البصير الخبير العليم ﴿من ورائهم﴾ أي ومن بين أيديهم ﴿برزخ إلى يوم يبعثون﴾ أي حاجز بين الموت والبعث في يوم القيامة من القبور عن ابن زيد وقيل حاجز بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا وهم فيه إلى يوم يبعثون عن ابن عباس ومجاهد وقيل البرزخ الإمهال إلى يوم القيامة وهو القبر وكل فصل بين شيئين هو برزخ عن علي بن عيسى وفي الآية دلالة على أن أحدا لا يموت حتى يعرف منزلته عند الله تعالى اضطرارا وأنه من أهل الثواب أو العقاب عن الجبائي.