الآيات 21-25

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ﴿21﴾ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ ﴿22﴾ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ﴿23﴾ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴿24﴾ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ﴿25﴾

القراءة:

في الشواذ قراءة أبي رجاء وقتادة ولا تشطط بفتح التاء وضم الطاء وقراءة الحسن والأعرج نعجة ولي نعجة بكسر النون وقراءة أبي حيوة وعزني بتخفيف الزاي وقراءة عمر بن الخطاب فتناه بتشديد التاء والنون وقراءة قتادة وأبي عمرو وفي بعض الروايات الشاذة فتناه بتخفيف النون.

الحجة:

أما قراءة ولا تشطط من شط يشط ويشط إذا بعد قال عنترة:

شطت مزار العاشقين فأصبحت

عسرا علي طلابك ابنة مخرم

قال ابن جني معناه بعدت عن مزار العاشقين ولما بالغ في ذكر استضراره بها خاطبها بذلك لأنه أبلغ فعدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب فقال طلابك فأما النعجة فهي لغة في النعجة ومثله لقوة ولقوة وقوم شجعة وشجعة أي شجعان وأما عزني بالتخفيف فيمكن أن يكون أصله عزني غير أنه خفف بحذف الزاي الثانية أو الأولى كما قالوا في مسست وظللت مست وظلت وأما قوله فتناه فإنما هو فعلناه للمبالغة وأما فتناه بتخفيف النون فإن المراد بالتثنية هنا الملكان اللذان اختصما إليه أي اختبراه.

اللغة:

الخصم هو المدعي على غيره حقا من الحقوق والمنازع له فيه ويعبر به عن الواحد والاثنين والجماعة بلفظ واحد لأن أصله المصدر فيقال رجل خصم ورجلان خصم ورجال خصم يقال خاصمته فخصمته أخصمه خصماء والتسور الإتيان من جهة السور يقال تسور فلان الدار إذا أتاها من جهة سورها.

والمحراب مجلس الأشراف الذي يحارب دونه لشرف صاحبه ومنه سمي المعملي محرابا وموضع القبلة محرابا وأشط الرجل في حكمه إذا جار فهو مشط وشط عليه في السوم يشط شططا قال:

ألا يا لقومي قد أشطت عواذلي

ويزعمن أن أودي بحقي باطلي

الإعراب:

﴿إذ دخلوا﴾ بدل من قوله ﴿إذ تسوروا﴾ وقيل أن التسور في زمان غير زمان الدخول.

﴿خصمان﴾ خبر مبتدإ محذوف أي نحن خصمان.

﴿وقليل ما هم﴾ هم مبتدأ وقليل خبره وما زائدة ويجوز أن يكون ما بمعنى الذي وهم مبتدأ والخبر محذوف أي وقليل الذين هم كذلك.

المعنى:

لما ذكر سبحانه أنه آتى داود الحكمة وفصل الخطاب عقبه بذكر من تخاصم إليه فقال ﴿وهل أتاك﴾ يا محمد ﴿نبأ الخصم﴾ أي هل بلغك خبرهم والمراد بالاستفهام هنا الترغيب في الاستماع والتنبيه على موضع إخلاله ببعض ما كان ينبغي أن يفعله ﴿إذ تسوروا المحراب﴾ أي حين صعدوا إليه المحراب وأتوه من أعلى سورة وهو مصلاه وإنما جمعهم لأنه أراد المدعي والمدعى عليه ومن معهما وقد تعلق به من قال إن أقل الجمع اثنان وأجيب عن ذلك بأنه أراد الفريقين ﴿إذ دخلوا على داود ففزع منهم﴾ لدخولهم عليه في غير الوقت الذي يحضر فيه الخصوم من غير الباب الذي كان يدخل الخصوم منه ولأنهم دخلوا عليه بغير إذنه ﴿قالوا لا تخف خصمان﴾ أي فقالوا لداود نحن خصمان ﴿بغى بعضنا على بعض﴾ فجئناك لتقضي بيننا وذلك قوله ﴿فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط﴾ أي ولا تجر علينا في حكمك ولا تجاوز الحق فيه بالميل لأحدنا على صاحبه ﴿واهدنا إلى سواء الصراط﴾ أي دلنا وأرشدنا إلى وسط الطريق الذي هو طريق الحق ثم حكى سبحانه ما قاله أحد الخصمين لصاحبه بقوله ﴿إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة﴾ قال الخليل النعجة هي الأنثى من الضأن والبقر الوحشية والشاة الجبلية والعرب تكني عن النساء بالنعاج والظباء والشاة قال الأعشى:

فرميت غفلة عينه عن شاته

فأصبت حبة قلبها وطحالها

قال عنترة:

يا شاة ما قنص لمن حلت له

حرمت علي وليتها لم تحرم

﴿فقال أكفلنيها﴾ أي ضمها إلي واجعلني كافلها الذي يلزم نفسه القيام بها وحياطتها والمعنى أعطنيها وقيل معناه انزل لي عنها حتى تصير في نصيبي عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد ﴿وعزني في الخطاب﴾ أي غلبني في مخاطبة الكلام وقيل معناه إنه إذا تكلم كان أبين مني وإن بطش كان أشد مني وإن دعا كان أكثر مني عن الضحاك ﴿قال﴾ داود ﴿لقد ظلمك بسؤال نعجتك﴾ معناه إن كان الأمر على ما تدعيه لقد ظلمك بسؤاله إياك بضم نعجتك ﴿إلى نعاجه﴾ فأضاف المصدر إلى المفعول به ﴿وإن كثيرا من الخلطاء﴾ أي الشركاء المخالطين جمع الخليط ﴿ليبغي بعضهم على بعض﴾ ثم استثنى من جملة الخلطاء الذين يبغي بعضهم على بعض الذين آمنوا فقال ﴿إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ أي فإنهم لا يظلم بعضهم بعضا ﴿وقليل ما هم﴾ أي وقليل هم وما مزيدة ﴿وظن داود أنما فتناه﴾ أي وعلم داود أنا اختبرناه وابتليناه وقيل إنا شددنا عليه في التعبد عن علي بن عيسى وقيل أراد الظن المعروف الذي هو خلاف اليقين ﴿فاستغفر ربه﴾ أي سأل الله سبحانه المغفرة والستر عليه ﴿وخر راكعا﴾ أي صلى الله تعالى ﴿وأناب﴾ إليه وقيل سقط ساجدا لله تعالى ورجع إليه وقد يعبر عن السجود بالركوع قال الشاعر:

فخر على وجهه راكعا

وتاب إلى الله من كل ذنب

قال الحسن إنما قال وخر راكعا لأنه لا يصير ساجدا حتى يركع وقال مجاهد مكث أربعين يوما ساجدا لا يرفع رأسه إلا لصلاة مكتوبة يقيمها أو لحاجة لا بد منها ﴿فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى﴾ أي قربى وكرامة ﴿وحسن مآب﴾ في الجنة واختلف في استغفار داود (عليه السلام) من أي شيء كان فقيل أنه حصل منه على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والخضوع له والتذلل بالعبادة والسجود كما حكى سبحانه عن إبراهيم (عليه السلام) بقوله والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين وأما قوله ﴿فغفرنا له ذلك﴾ فالمعنى أنا قبلناه منه وأثبناه عليه فأخرجه على لفظ الجزاء مثل قوله يخادعون الله وهو خادعهم وقوله الله يستهزىء بهم فلما كان المقصود من الاستغفار والتوبة القبول قيل في جوابه غفرنا وهذا قول من ينزه الأنبياء عن جميع الذنوب من الإمامية وغيرهم ومن جوز على الأنبياء الصغائر قال إن استغفاره كان لذنب صغير وقع منه ثم أنهم اختلفوا في ذلك على وجوه (أحدها) أن أوريا بن حيان خطب امرأة وكان أهلها أرادوا أن يزوجوها منه فبلغ داود جمالها فخطبها أيضا فزوجوها منه فقدموه على أوريا فعوتب داود على الحرص على الدنيا عن الجبائي (وثانيها) أنه أخرج أوريا إلى بعض ثغوره فقتل فلم يجزع عليه جزعه على أمثاله من جنده إذ مالت نفسه إلى نكاح امرأته فعوتب على ذلك بنزول الملكين (وثالثها) أنه كان في شريعته أن الرجل إذا مات وخلف امرأة فأولياؤه أحق بها إلا أن يرغبوا عن التزويج بها فحينئذ يجوز لغيرهم أن يتزوج بها فلما قتل أوريا خطب داود (عليه السلام) امرأته ومنعت هيبة داود وجلالته أولياءه أن يخطبوها فعوتب على ذلك (ورابعها) أن داود كان متشاغلا بالعبادة فأتاه رجل وامرأة متحاكمين إليه فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها وذلك نظر مباح فمالت نفسه إليها ميل الطباع ففصل بينهما وعاد إلى عبادة ربه فشغله الفكر في أمرها عن بعض نوافله فعوتب (وخامسها) أنه عوتب على عجلته في الحكم قبل التثبت وكان يجب عليه حين سمع الدعوى من أحد الخصمين أن يسأل الآخر عما عنده فيها ولا يحكم عليه قبل ذلك وإنما أنساه التثبت في الحكم فزعة من دخولهما عليه في غير وقت العادة وأما ما ذكر في القصة أن داود كان كثير الصلاة فقال يا رب فضلت علي إبراهيم فاتخذته خليلا وفضلت علي موسى فكلمته تكليما فقال يا داود أنا ابتليناهم بما لم نبتلك بمثله فإن شئت ابتليتك فقال نعم يا رب فابتلني فبينا هو في محرابه ذات يوم إذ وقعت حمامة فأراد أن يأخذها فطارت إلى كوة المحراب فذهب ليأخذها فاطلع من الكوة فإذا امرأة أوريا بن حيان تغتسل فهويها وهم بتزويجها فبعث بأوريا إلى بعض سراياه وأمر بتقديمه أمام التابوت الذي فيه السكينة ففعل ذلك وقتل فلما انقضت عدتها تزوجها وبنى بها فولد له منها سليمان فبينا هو ذات يوم في محرابه يقرأ إذ دخل عليه رجلان ففزع منهما فقالا ﴿لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض﴾ إلى قوله ﴿وقليل ما هم﴾ فنظر أحد الرجلين إلى صاحبه ثم ضحك فتنبه داود على أنهما ملكان بعثهما الله إليه في صورة خصمين ليبكتاه على خطيئته فتاب وبكى حتى نبت الزرع من كثرة دموعه فمما لا شبهة في فساده فإن ذلك مما يقدح في العدالة فكيف يجوز أن يكون أنبياء الله الذين هم أمناؤه على وحيه وسفراؤه بينه وبين خلقه بصفة من لا تقبل شهادته وعلى حالة تنفر عن الاستماع إليه والقبول منه جل أنبياء الله عن ذلك وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال لا أوتى برجل يزعم أن داود تزوج امرأة أوريا إلا جلدته حدين حدا للنبوة وحدا للإسلام وقال أبو مسلم لا يمتنع أن يكون الداخلان على داود كانا خصمين من البشر وأن يكون ذكر النعاج محمولا على الحقيقة دون الكناية وإنما خاف منهما لدخولهما من غير إذن وعلى غير مجرى العادة وإنما عوتب على أنه حكم بالظلم على المدعى عليه قبل أن يسأله.